إذا ضَرَبَت الحربُ لبنان، فسيكونُ من الصَعبِ على البلادِ أن تُلَملِمَ أشلاءَها
مايكل يونغ*
استضافت البطريركية المارونية “قمّةً روحية” الأسبوع الفائت، دعت إليها الزعماء الدينيين من مختلف الطوائف اللبنانية. لكن أبرز الغائبين كان ممثلو الطائفة الشيعية الذين قاطعوا الجلسة.
وقد هاجمَ رجل الدين الشيعي البارز المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان، المُقرَّب من “حزب الله”، البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي لأنه دعا إلى حياد لبنان، وحَذَّرَ من تحوُّلِ البلاد إلى “منصِّةِ انطلاقٍ للأعمال الإرهابية التي تُهدّد الأمن والاستقرار الإقليميين”. بالنسبة إلى قبلان، فإنَّ مثل هذه التصريحات “تخدُمُ مصالح الإرهاب الصهيوني والإجرام العالمي”.
أكّدَت هذه الحادثةُ من جديدٍ الخلافَ المُتزايد بين عددٍ من زعماء الطائفتين المارونية والشيعية في لبنان، والذي اتّسعَ في السنوات الأخيرة. بالنسبة إلى العديد من الموارنة، إنَّ هيمنةَ “حزب الله” على لبنان، وتصميمهُ على جَلبِ رئيسٍ ماروني من اختياره، وقدرته على إثارةِ صراعٍ مع إسرائيل من دونِ أن يُكَلِّفَ نفسه عناءَ التشاورِ مع الدولة اللبنانية أو نظرائه في بقية الطوائف، أثارت كلها تساؤلًا حولَ العقدِ الاجتماعي الطائفي في البلاد.
يَعتَبِرُ عددٌ لا يُستهانُ به من المسيحيين اللبنانيين أنَّ العقدَ الاجتماعي الطائفي بعد الحرب الأهلية قد مات، ويبحثون عن طُرُقٍ لاستبداله. وقد فضّلَ البعضُ النظام الفيدرالي، والبعضُ الآخر اللامركزية الإدارية، والبعضُ الثالث فضّلَ التقسيمَ التام. كلُّ هذا يَفرُضُ سؤالًا أكثر جوهرية: إذا اندلعت حربٌ مُدَمِّرة مع إسرائيل في الأسابيع المقبلة، فهل يسمح المناخُ الطائفي المُثيرُ للجدل للبنان بالصمود والبقاء دولة واحدة بعد ذلك؟
من المؤكَّد أنَّ أيَّ صراعٍ كبيرٍ سيزيدُ من إضعافِ الصَرحِ المُهتَز أصلًا للميثاق الطائفي في البلاد. وفي حين أنَّ “حزب الله” يبدو قويًّا، إلّا أنَّهُ إذا خَسرَ المسيحيين بشكلٍ حاسم، فسيكونُ لذلك تأثيرٌ على سيطرته على الشؤون الوطنية. من المُحتَمَلِ أنّهُ في حالةِ خروجِ لبنان من الحرب مُدَمَّرًا وخرابًا، سيبحثُ المسيحيون عن طُرُقٍ لاستخدامِ ذلك كوسيلةٍ للضغط من أجلِ نظامٍ أكثر لامركزية، بحجّة أنهُ إذا أرادَ “حزب الله” محاربة إسرائيل كل بضع سنوات، ونتيجةً لذلك تدمير البلد، يمكنه أن يفعل ذلك بمفرده.
مع ذلك، من الصعب أن نتصوَّرَ أنَّ لبنان سوف يتَقَسّم بالكامل بعد الحرب، حيثُ لا توجدُ آليةٌ رسمية لحدوثِ شيءٍ من هذا القبيل. لكن لجميع المقاصد والأغراض، فإنَّ المزاجَ العام في المجتمع المسيحي مُعادٍ بالفعل بما فيه الكفاية لاختلالِ التوازُن الطائفي الحالي، حيث سيستخدمُ زعماءُ الطائفة الحربَ كفُرصةٍ لتنظيمِ الدعمِ بشكلٍ أفضل بين المسيحيين المُستائين من أجل إصلاحٍ عميقٍ للنظام السياسي. ومع مرور الوقت، ستُصبِحُ لغة الانفصال عُنصرًا أساسيًا في الخطاب المسيحي حول لبنان.
الواقع أنّهُ لكي يكونَ هناكَ تحوُّلٌ في النظامِ السياسي، يحتاجُ جميعُ المجتمعات الطائفية إلى التوصُّلِ إلى توافُقٍ في الآراء بشأنِ البديل. وهذا الأمرُ ليس سهلًا. الطائفة الشيعية، التي يسيطر عليها “حزب الله” وحلفاؤه، لا تُريدُ التخلّي عن الدولة التي يُهيمن عليها. أما بالنسبة إلى الطائفة السنّية، فقد أعطى دستور ما بعد الحرب الأهلية (إتفاق الطائف) قدرًا كبيرًا من السلطة لرئيس الوزراء السنّي، لذا فهي أيضاً مُتَرَدِّدة في التنازل عن هذه السلطة.
مع ذلك، فإنَّ التوازُنَ الطائفي الدقيق في البلاد سوفَ يخرجُ عن السيطرة إذا بقي المسيحيون مُنفَصلين عن النظام الاجتماعي والسياسي الحالي. وقد يكون هذا الأمر مُستدامًا طالما بقي المجتمع السنّي من دونِ زعيمٍ واضح وبلا اتجاهٍ إلى حدٍّ كبير، ولكن إذا تزايد الاستياء المسيحي والسنّي مع سيطرة “حزب الله” على الدولة، مؤدّيًا إلى توحيد الجهود، فقد يؤدي ذلك إلى عزل المجتمع الشيعي.
في السنوات الأخيرة، وقعت حوادثُ عدّة أظهرت رغبةً متزايدة في تحدّي قوة “حزب الله”.
في خلدة، في آب (أغسطس) 2021، أطلقَ أفرادٌ من عشيرةٍ سنّية النارَ على أعضاءٍ في “حزب الله” خلال جنازة، مما أسفرَ عن مقتل ثلاثة منهم. ورُغمَ أنَّ الجيشَ اللبناني تمكَّنَ من احتواء الحادث، إلّا أنَّهُ أظهَر استعدادًا لدى شريحةٍ من الطائفة السنّية بأنها غير راضية ولا تقبل التعرُّض للترهيب. بعد ذلك بوقتٍ قصير، منعَ القرويون الدروز بالقوّة وحدةً من “حزب الله” من إطلاق الصواريخ على منطقة مزارع شبعا المحتلة، ما أدّى إلى توتّراتٍ طائفية.
بعد مرور أكثر من عامٍ بقليل، دخل مُسلَّحو “حزب الله” وحركة “أمل” حيّ الطيونة المسيحي لمحاولة عرقلة التحقيق في الانفجار الضخم الذي وقع في مرفَإ بيروت في آب (أغسطس) 2020. وقد حظي التحقيقُ بدَعمٍ مسيحي قوي، لأن غالبية الضحايا كانت من المسيحيين. لكن بدلاً من الخوف، أطلق السكان النار على المُسلّحين، ما أسفر عن مقتل واحد منهم على الأقل.
وأخيرًا، وقعت اشتباكاتٌ في بلدة الكحّالة المسيحية، بعد أن انقلبت شاحنةٌ تابعة ل”حزب الله” تحمل أسلحة في الطريق العام في البلدة. وعندما جاء بعض السكان لمساعدة السائق، وَجّهَ عناصر ميليشيا “حزب الله” أسلحتهم نحوهم لإبعادهم. وأدّى ذلك إلى تبادل إطلاق النار قُتل فيه أحد عناصر “حزب الله” وشخصٌ من البلدة.
مثل هذه الأحداث في حدِّ ذاتها لا تعني أنَّ لبنان على شفا حربٍ أهلية جديدة. مع ذلك، فهي تَعكُسُ الغضبَ المُتزايد من الطريقة التي يتصرَّفُ بها “حزب الله” وحلفاؤه، والطريقةَ المُتَعَجرفة التي تجاهلوا بها الحساسيات الطائفية. في هذه البيئة المشحونة، يصبح الطلاق الطائفي مُستَساغًا أكثر بكثير من اللجوء إلى الحرب الأهلية لحلِّ مشكلةِ العقدِ الاجتماعي المُختل في لبنان.
يكاد يكون من المؤكد أنَّ الحربَ مع إسرائيل، إذا اندلعت، ستزيدُ من حدّةِ المرارة المسيحية في جميع المجالات، والشعور بأنَّ المسيحيين لم يعودوا يشعرون بأنهم في وطنهم في لبنان. وقد انعكسَ هذا المزاج أخيرًا في تغريدةٍ لنديم الجميل، النائب البرلماني وابن بشير الجميل، الزعيم الماروني البارز ورئيس الجمهورية المُنتخَب الذي اغتيل في العام 1982. دعا الجميل إلى “صيغةٍ جديدة للبنانٍ جديدٍ يُشبِهُنا”. لقد لخَّصت هذه العبارة شوقًا وشعورًا واسع النطاق في المجتمع المسيحي الأوسع.
- مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.