التقارُبُ التُركي مع دولِ الخليج يَتَسارَع

يُظهر تركيز تركيا ودول الخليج على تعميق شراكاتهما الاقتصادية والأمنية استعدادهما المستمر لتجاوُزِ خلافاتهما السابقة.

وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو مع رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد (الأول من اليسار) ورئيس وزراء دولة الإمارات وحاكم دبي الشيخ محمد بن راشد خلال إحدى زيارات الأول لدولة الإمارات.

جوناثان فنتونهارفي*

في السنواتِ الأخيرة، تمَّ إيلاءُ الكثيرِ من الاهتمامِ للتراجُعِ الملحوظِ للنفوذِ الأميركي في الشرق الأوسط وخارجه، فضلًا عن عواقبهِ المُحتَمَلة. ووسط المخاوف والقلق من اندلاعِ صراعاتٍ جديدة، فإنَّ التقارُبَ المَرِن بين تركيا وبعض دول مجلس التعاون الخليجي –وخصوصًا المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة– يرسُمُ صورةً مُختلفةً قليلًا.

في الوقتِ الحالي، تعملُ تركيا ومجلس التعاون الخليجي على اتفاقيةٍ للتجارةِ الحرّة، والتي تمَّ إطلاقها خلال المناقشات الثُنائية في أنقرة بين وزير التجارة التركي عمر بولات والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم محمد البديوي في آذار (مارس) الفائت. ومن المتوقع أن يتمَّ الانتهاءُ من الاتفاقية قريبًا، والتي من شأنها أن تُنشِئَ واحدةً من أكبر مناطق التجارة الحرة في العالم من حيث القيمة السوقية، بقيمة 2.4 تريليونين دولار، وتبني على المُشاركة التي استمرت منذ إعادة انتخاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أيار (مايو) 2023. بالإضافة إلى ذلك، رحّب أردوغان باستثماراتٍ كبيرة من السعودية والإمارات في تركيا، وخصوصًا في قطاعات العقارات والتمويل والمصارف والطاقة.

إنه تحوُّلٌ كبيرٌ في العلاقاتِ الثُنائية مُقارنةً بما يزيد قليلًا عن نصفِ عقدٍ مضى، عندما كانت العلاقات بين الرياض وأبو ظبي –أكبر اقتصادَين في مجلس التعاون الخليجي– وأنقرة أكثر عدائية. ظهرت هذه التوتّرات في البداية خلال انتفاضات “الربيع العربي”، التي شهدت احتضان تركيا للحركات الإسلامية التي اعتبرتها ممالك الخليج بمثابةِ تهديدات، في حين انحازت كلٌّ من السعودية والإمارات إلى الجهات الفاعلة الرجعية المُناهِضة للثورة التي وعدت بفكرة “الاستقرار الاستبدادي”.

بالإضافة إلى دَعمِ الفصائل السياسية المُتنافسة في أعقاب ثورتَي مصر وتونس في العام 2011، وجدت تركيا وممالك الخليج أنفسهما على طرفَي نقيض بالنسبة إلى الحروب الأهلية التي أعقبت، والتي اندلعت في ليبيا وسوريا بعد العام 2011، مما زاد من تعقيد العلاقات بينهما.

في وقتٍ لاحق، وقفت تركيا أيضًا إلى جانب قطر في مواجهتها مع باقي دول مجلس التعاون الخليجي في العام 2017، والتي شهدت قيامَ السعودية ودولة الإمارات، وكذلك مصر والبحرين، بقطعِ العلاقات الديبلوماسية مع الدوحة وفَرضَ حصارٍ اقتصادي. ونتيجةً لذلك، ظهر محوران متنافسان جديدان في المشهد الجيوسياسي والأمني ​​المُتَحَوِّل في المنطقة.

الآن، فقدت الحركات الثورية زخمها في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، تضاءلَ العنفُ بين الحكومتين الليبيتين المتنافستين بعد وقف إطلاق النار الذي توسّطت فيه الأمم المتحدة في العام 2020. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ نظامَ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي أطاحَ في العام 2013 حكومة “الإخوان المسلمين” التي انبثقت من “الربيع العربي”، قد عزَّز قبضته على السلطة، مُسَهِّلًا المصالحة مع تركيا.

ومن الواضح أنَّ هناكَ القليلَ للصراع حوله أو عليه على نحوٍ متزايد الآن، مما سمح لتركيا ودول الخليج بتجاهل الخصومات التي ميَّزت علاقاتهما في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وقد ساعد التقدُّم الذي تمَّ إحرازه في أعقاب قمة العُلا في كانون الثاني (يناير) 2021 بين قادة دول مجلس التعاون الخليجي، والتي حلت الأزمة بين قطر ودول مجلس التعاون الخليجي، على تعزيز العلاقات بينهما.

مع ذلك، فإنَّ المشهدَ الجيوسياسي العالمي الأوسع وكذلك السياسات التي تنتهجها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن منذ العام 2021 لعبت أيضًا دورًا في دفع دول المنطقة إلى إعادةِ تقييمِ شراكاتها الخارجية.

ومن بين التهديدات الأخيرة كانت تهديدات بايدن القاسية في العام 2020 بإعادة تقييم العلاقات مع القادة الإقليميين مثل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان – -تى أنه وعد بتحويل المملكة إلى “منبوذة”– والسيسي في مصر. وكان كلاهما يتمتّعان بعلاقاتٍ دافئة مع سلف بايدن، الرئيس السابق دونالد ترامب، وكانا يخشيان بالفعل من الانتقام في ظل رئاسة بايدن.

علاوةً على ذلك، أثار انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان في آب (أغسطس) 2021، وكذلك رفضها الرد على هجمات الطائرات المُسَيَّرة والصواريخ على الأراضي السعودية والإماراتية من اليمن والجماعات المدعومة من إيران المتمركزة في العراق، في العامين 2019 و2022 على التوالي، مخاوف متزايدة بشأنِ استعدادِ واشنطن وقدرتها على العمل كضامنٍ أمني.

في ضوءِ هذه المخاوف، سعت دولُ الخليج إلى تنويع شراكاتها الدفاعية. وبينما كانت روسيا والصين محطَّ اهتمامٍ مباشر، فإنَّ ريادة تركيا في إنتاج الطائرات المُسَيَّرة ــوالتي أكدها نجاح هذه الطائرات التي استخدمتها أوكرانيا ضد القوات الروسيةــ جعلت منها شريكًا أمنيًا جذابًا أيضًا.

في تموز (يوليو) 2023، وافقت السعودية على شراء طائرات مُسيّرة من شركة الدفاع التركية “بايكار تِك”، ووُضِعَت لاحقًا اتفاقية قادت إلى القرار ببناء مصنع للإنتاج المحلي للطائرات المُسيَّرة التركية في المملكة، حيث تسعى الرياض إلى تعزيز قطاع الدفاع المحلي. وبالمثل، في العام 2022، تفاوضت دولة الإمارات على صفقةٍ لشراء 120 طائرة مُسَيَّرة من طراز “بيرقدار تي بي 2” (Bayraktar TB2)، التي أنتجتها أيضًا شركة “بايكار تِك”، بينما تعاونت مجموعة الدفاع التابعة لها “Edge Group” في كانون الثاني (يناير) 2024 مع “بايكار” لدمج أنظمتها الصاروخية مع “بيرقدار تي بي 2”. في العام 2023، وقعت وزارة الدفاع الكويتية عقدًا بقيمة 370 مليون دولار لشراء عدد غير محدد من طائرات “بيرقدار تي بي 2″، بناءً على علاقاتٍ دفاعيةٍ طويلةِ الأمد بين الكويت وتركيا.

وتؤكّدُ هذه العلاقات الطويلة الأمد أنَّ نفوذَ أنقرة في الخليج ليس جديدًا بالضرورة. كانت تركيا أول دولة غير خليجية يتمُّ تصنيفها كحليفٍ استراتيجي لمجلس التعاون الخليجي في العام 2008. ووفقًا لرسالة بريد إلكتروني سرّية أُرسِلَت إلى وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك هيلاري كلينتون في العام 2011 –التي أتاحتها وزارة الخارجية الأميركية بناءً على طلب حرية المعلومات– أثار الملك السعودي آنذاك عبد الله بن عبد العزيز وأقرب مستشاريه “إمكانية أن تحلَّ تركيا محل الولايات المتحدة كضامنٍ أمني للمملكة، وخصوصًا في ما يتعلق بإيران”.

وفي ذروةِ أزمةِ الخليج، نشرت تركيا أيضًا قواتٍ في قطر في العام 2017 بموجب اتفاقية دفاع كانت وُقِّعَت بين الجانبين في العام 2014. علاوةً على ذلك، اقترحت أنقرة فتح قاعدة عسكرية مماثلة في المملكة العربية السعودية في ذلك العام، لكن نظرًا للتوترات التي كانت موجودة أصلًا بينهما آنذاك، لم تقبل الرياض هذا العرض.

مع ذلك، لطالما اعتبرت دول الخليج تركيا شريكًا ذا أهمية محتملة قبل أن تترسّخ الانقسامات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. والآن، دفعت الظروف المُتَغَيِّرة في جميع أنحاء المنطقة الجهود المبذولة لتحقيق هذا التحوُّل.

لكن على الرُغمِ من تعزيزِ العلاقات الاقتصادية والأمنية، لا يزال هناك بعض التحديات. إحدى القضايا هي ليبيا، إذ لا يزال الاحتكاك قائمًا بين الحكومتين المتنافستين في البلاد منذ الحرب الأهلية 2019-2020، حيث تقدم تركيا الدعم السياسي والعسكري للحكومة التي تتخذ من طرابلس مقرًّا لها في الغرب، فيما تستمر مصر في ممارسة نفوذها مع الحكومة المتمركزة في طبرق في الشرق.

كادت مواقفهما المُتضادة من الحرب الأهلية أن تُثيرَ صراعًا بين تركيا ومصر في العام 2020. ويعني ذوبان العلاقات والاحتقان بينهما الآن أنَّ هناكَ بعض الإمكانية لأنقرة والقاهرة للتوسّط في اتفاقٍ بين الحكومتين المتنافستين، على أملِ تمهيدِ الطريق لحلٍّ سياسيٍّ دائم. ومن وجهة نظر الولايات المتحدة وأوروبا، فإنَّ مثلَ هذه النتيجة ستكونُ مفيدة، إلى الحدِّ الذي تحتوي فيه النفوذ الروسي في ليبيا، حيث يحتفظ الفيلق الأفريقي التابع لموسكو أيضًا بوجود في الشرق.

من غير الواضح أيضًا ما إذا كان من المُمكن بناء إجماع دائم بشأن سوريا، التي كانت في السابق نقطةَ خلافٍ بين أبو ظبي وأنقرة. لقد قادت دولة الإمارات الطريق في السعي إلى إعادة دمج نظام الرئيس بشار الأسد في الحظيرة العربية، حتى قبل فترة طويلة من إعادة قبول سوريا في جامعة الدول العربية في العام الماضي. وعلى النقيض، عارضت أنقرة نظام الأسد، على الرُغم من أنها لم تستبعد استعادة العلاقات مع دمشق، حيث صرح أردوغان أخيرًا في 28 حزيران (يونيو) بأن “هذا يمكن أن يحدث قريبًا”.

علاوةً على ذلك، أدان الجانبان نهج واشنطن في سوريا. وتُعارضُ أنقرة شراكة الجيش الأميركي مع قوات سوريا الديموقراطية التي يقودها الأكراد، والتي تعتبرها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره تركيا جماعة إرهابية. في الوقت نفسه، اشتكت أبو ظبي من أنَّ العقوبات الأميركية على الأسد حالت دون التعاملات التجارية المُربحة المُحتَملة مع دمشق.

في الوقت الحالي، يتمثّلُ القلق الأكبر في خطر نشوبِ صراعٍ شامل بين إسرائيل والفصائل المرتبطة بإيران في جميع أنحاء المنطقة، وخصوصًا “حزب الله” في لبنان. وقد حذّرت تركيا ودول الخليج من مخاطر مثل هذا التصعيد، في حين دعا كلاهما إلى وقف إطلاق النار في الحرب بين إسرائيل و”حماس” في غزة ودفعا من أجل حلِّ الدولتين بين إسرائيل وفلسطين بشكلٍ عام.

إلى جانب التقارُب بينها، سعت السعودية والإمارات وتركيا أيضًا إلى إدارة التوتّرات مع إيران، على الرُغم من درجاتٍ مُتفاوتة من عدم الثقة المُتبادَلة. في آذار (مارس) 2023، وقّعت الرياض وطهران اتفاقًا أدّى إلى تطبيع العلاقات الثنائية، التي كانت قُطِعَت في العام 2016. ومنذُ العام 2019، اتبعت أبوظبي بشكلٍ استباقي استراتيجيتها الخاصة لخفض التصعيد تجاه طهران، بعد أن أعادت سفيرها في تموز (يوليو) 2022، مع السعي أيضًا إلى تعزيز التعاون الاقتصادي. وأخيرًا، التقى أردوغان بالرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي في أنقرة في كانون الثاني (يناير) 2024، حيث سعى الزعيمان إلى إيجادِ أرضيةٍ مشتركة بشأن القضايا الإقليمية.

مع ذلك، كانت تركيا ودول الخليج على درايةٍ تامة بالتأثير الذي يمكن أن تُحدِثَهُ التوترات بين الولايات المتحدة وإيران على المنطقة، وتداعيات أيِّ تصعيدٍ أوسع نطاقًا وأعمالٍ عدائية صريحة بين واشنطن وطهران. ونتيجةً لذلك، سعت دول مجلس التعاون الخليجي بشكل متزايد إلى اتخاذِ موقفٍ محايد في المواجهة بين واشنطن وطهران، بينما دعت إلى تهدئة التوترات.

في هذا السياق، يعتمد الكثير على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، فبغضِّ النظر عمَّن سيفوز بالانتخابات الرئاسية الإيرانية يوم الجمعة، من المؤكد أنَّ موقف طهران سيتوقّف على نهج واشنطن. إذا فاز بايدن بإعادة انتخابه، وباستثناء أيِّ تطورات غير متوقَّعة، فإنَّ الوضع الراهن الهشّ سوف يستمر. على النقيض، من المرجح أن تنطوي رئاسة دونالد ترامب الثانية على العودة إلى الموقف الأميركي المتشدد تجاه إيران، الأمر الذي قد يزيد من صعوبة الحفاظ على جهود المنطقة نحو التقارب مع طهران. ومع ذلك، فإن التوترات الأميركية المتزايدة مع إيران من شأنها في جميع الاحتمالات أن تزيدَ من تعزيز الشراكة الناشئة بين تركيا ودول الخليج.

في غضون ذلك، سوف تستمر التحديات الإقليمية في اختبارِ كل جهودِ التقارب الأوسع هذه، وخصوصًا إذا ظهرت صراعاتٌ جديدة. لكن في الوقت الحالي، يُظهِرُ تركيزُ تركيا ودول الخليج على تعميقِ شراكاتهما الاقتصادية والأمنية استعدادهما المستمر لتجاوُزِ خلافاتهما السابقة.

  • جوناثان فينتون هارفي هو محلل وصحافي بريطاني ركّزَ أعماله إلى حدٍّ كبير على شؤون مجلس التعاون الخليجي، فضلًا عن القضايا الجيوسياسية والاقتصادية المتعلقة بالشرق الأوسط الأوسع ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى