مَن وراء الخبر؟
عبد الرازق أحمد الشاعر*
“مليونير إماراتي يتبنّى طفلَين إسرائيليين قُتِلَ والدهما في حرب غزة” … هزّني الخبر واستفزّني، قرأته من اليمين مُستَحضِرًا حُسن النيّة، فقلتُ في نفسي: “لعلَّ الرجلَ قد أراد بفعلتِهِ تلك أن يُظهِرَ للعالم الوَجهَ السمح للدين الإسلامي وأن يُشَهِّرَ بمَن يشوون لحومَ أطفالنا بقنابلهم الفوسفورية ويمنعون عن رضّعنا الماء والحليب حتى تلفظ أنفاسهم القصيرة ويهدمون المدارس والمساجد والكنائس والمشافي فوق رؤوس عمارها دون أن يرقبوا في لاجئ إلّا ولا ذمة”.
وأعدتُ قراءةَ الخبر من اليسار، فقلتُ: “هو من بقايا جماعة كوبنهاغن حتمًا .. لا بُدَّ وأنّهُ أرادَ أن يبعثَ برسالةٍ إلى مَن يهمّهُ الأمر بأنَّ السلامَ خيارٌ استراتيجي لشعوبِ المنطقة، وأنَّ سياسةَ القصفِ والتهجيرِ والتجويعِ والإذلالِ التي يمارسها جيش الاحتلال لن تُغَيِّرَ من عقائد المُستَضعَفين من مُثقَّفي الأمّة أو يُحرّكهم نحو اليمين الأصولي قيد أنملة”.
واستطردتُ: “بأيِّ وَجهٍ يُمكِنُ لهذا الرجل الذي أرادَ أن ينالَ قصبَ المُخالفة ويركَبَ بغلةَ الأمّة العرجاء بالمقلوب أن يواجِهَ أبناءَ حيِّه السكني، أو عملاءه؟ وماذا تراه سيقول لأبنائه وهو يقتحمُ غُرَفَ نومهم وفي يديه طفلان قد غمس والدهما يداه حتى الكوع في دماء إخوانٍ لهم في العقيدة؟ وكيف يُقنِعُ زوجته بأن تمنحهما حُضنًا دافئًا قبل أن تضعهما في فراشٍ وَثيرٍ حَرَمَ قومهما منه أطفال قومها في الشتات الفلسطيني الممتد من الماء إلى الماء؟ وأيُّ مُدرّسٍ سيتولّى تعليم هذين البريئين أنهما لا ينحدران من الجوييم (الأغيار) الكفرة الأنجاس، بل ينتميان إلى شعب الله المقدّس الذي اختاره وفضله على جميع شعوب الأرض”.
“لعلّهُ نظرَ إلى الأمر نظرةً إنسانية فقط، فنحنُ لآدم، وآدم من تراب. وإن كانت الأديانُ والملل والنحل تُفرّقُ الناس أسباطًا وتوزّعهم أُممًا متناحرة متقاتلة، فلتكن الإنسانية ملاذًا أخيرًا يحتمي به الناس من صراعاتِ آخر الزمان، ليبقى الدين لله والوطن للجميع. وقد يكون هذا الثري الإماراتي يحمل قلبًا مُرهَفًا، فلم يتحمّل رؤيةَ هذين الطفلين يبكيان بعد رحيل عائلهما، فقرّرَ أن يقومَ بواجبه الأخلاقي من دون النظر إلى أيِّ حيثياتٍ دينية أو أخلاقية”.
“ولكن، ألم يكن الأجدر بهذا الشفوق أن يُساوي بين الجلّاد والضحية، فيضُّم تحت جناحيه الدافئين طفلين مُشَرَّدَين من بني جلدته، إلى جانب هذين المُختارَين؟ وإذا كان يخشى أن يُتَّهَمَ بالتحيّزِ لأبناء الأرض ويُتَّهَم بمُعاداة السامية، فبمقدوره أن يتبنّى طفلين من أبناء السودان الذين يتّمتهم الطائرات المُسيَّرة التي تنتهك الأجواء السودانية من كل حدب”.
وفجأةً، طرأت على ذهني المكدود فكرة: “أليسَ من المُمكن أن يكونَ هذا الخبر الذي قرأته للتو مجرّد أكذوبةٍ إعلامية رَوَّجَ لها أصحاب النوايا الخبيثة؟!” رحتُ أقلب في المواقع والجرائد والمجلات عن أصل الخبر، لأكتشف في النهاية أنه لا صحّةَ له، وأن الطفلين اليهوديين تحت جناحي مشعل الشامسي كانا من أبناء الجالية اليمنية المُقيمة في الإمارات، وأنه التقاهما أثناء زيارته إلى ما يسمونه “بيت العائلة الإبراهيمي” في أبو ظبي.
لم يكن الخبرُ صحيحًا إذن، وكذلك كل ما تلاه من استنتاجاتٍ مُتَسرّعة. لكن الصحيح، والصحيح جدًا، أنَّ الشخصَ الذي رَوَّجَ لهذا الخبر في الأساس كان يعلم أنه عارٍ تمامًا عن الصحّة؟ فلماذا يا تُرى أشاعَ عن شخصٍ عربي، ومن الجنسية الإماراتية بالذات، خبرًا كهذا؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟
أستَبعِدُ أن يكونَ مُرَوِّجُ الخبرِ سليمَ النيّة حين نقلَ الصورة من إطارها ليضعها في قالبٍ تخويني بامتياز، وكأنّهُ أرادَ أن يزيدَ غصّة الفقد في حلوق الفلسطينيين، ويُشعِرهم أنهم على الساحة وحدهم، وأنَّ السيوفَ على نحورهم ومن ورائهم الجدار، وأن الشعوب العربية قد تخلّت كما قياداتها عن نصرتهم، ليبادر فلسطينيو الشتات بالهجوم على إخوانهم الإماراتيين، ويردُّ الإماراتيون صاعَ الاتّهام بصاعِ التجاهُل. ولكن لماذا الإماراتيون تحديدًا؟ سؤال يُستَحسَن أن نؤجّل طرحه وتأمله حتى مقال آخر وحتى تضع الحرب في غزة أوزارها، حتى يكون لكلِّ مقام ما يستحقه من مقال.
- عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: Shaer1970@gmail.com