العراقِيُّ الغامِض
قراءةٌ مُتَأخِّرة في عَقلِ صدّام حسين
(3)
الأصلُ والظِلُّ
سليمان الفرزلي*
ليس من العجب في شيء، أن يَسودَ الاعتقادُ بين العراقيين، وبعضِ البعثيين، أنَّ خير الله طلفاح هو الرجل القوي في العراق، و”ظِلُّ” صدام حسين. فالرجل كَفِلَ رئيسَ البلاد، طفلًا، لما مات والده عنه، واحتضنه، ورعاه، وتربَّى مع أولاده، وتتلمَذَ عليه، وزوَّجه ابنته ساجدة.
إنَّ ما رسَّخ هذا الاعتقاد، عند بعضِهم، غلوُّ الكتَّاب في مدح “فضائل” خير الله طلفاح، والتمادي فيه إلى درجة أنَّ أحدهم اعتبره “صانع صدام حسين”، و”مُلهِمهُ”، وأنّهُ “يَحكُمُ من وراءِ الستارة”، وأنَّ “هذا الكعك من ذاك العجين”!
مع تطاوُلِ الأيام، ثبتَ بما لا يرقى إليهِ الشك، أنَّ ما سادَ، وقيلَ، وكُتِب، كانَ يُجافي الحقيقة، وأنّهُ تشخيصٌ سطحيٌّ لظاهِرِ الأمور، وهو استخفافٌ بعَقلِ صدام حسين، الذي كانَ أعرفَ الناس بخاله، وأكثرهم درايةً بتفكيره المُلتَوي، وتصرّفاته، وأفعاله الممجوجة، يوم كانَ “أمين العاصمة” بغداد، فعزله الرئيس، وأبعده عن المشهد السياسي. ومع بدايةِ الحَربِ الضروس ضدّ إيران، سنة 1980، أجَهَزَ الرئيس العراقي على خاله سياسيًّا، وحَجَرَ عليهِ عمليًّا.
لكن هذا لا يعني أنّهُ، بالمُقارنةِ بين الخال وابن شقيقته، وبعيدًا من تكوينِ السلطة، وتشكُّلها، ومُمارستها، لم يكن للخال أكثر من امتياز:
الأوّل، أنَّ خير الله طلفاح، كانَ ابنَ المؤسّسة العسكرية الوطنية، التي قامَ ضبّاطها، وهو منهم، بانقلابٍ في بداية الحرب العالمية الثانية (1941)، قمعه الإنكليز، وأعدموا بعضَ قادته، بتُهمةِ أنّهم مدفوعون ومدعومون من ألمانيا النازية. أما طلفاح، وكان وقتها من صغارِ الضباط، فقد عُوقِبَ بالسجن خمس سنوات، وبالطَردِ من الجيش.
امتيازُه الثاني، أنهُ بعد خروجه من السجن اختارَ أن يكونَ مُدَرِّسًا، مُعتَدًا بنفسه بأنه من المُثَقَّفين، وحاولَ أن يُثبِتَ ذلك بسَيلٍ من الكتب الغرائبية التي وضعها، وكشفت بهتانِ ادِّعاءاته، وثقافته الوحيدة الجانب، التي لا ترتقي في مبناها ومعناها إلى مصافِ إنتاجِ المُبدعين الكبار من الكُتّابِ العراقيين في زمانه. فلا يُقارَن أيُّ كتابٍ وضعه خير الله طلفاح بكتابِ معروف الرصافي “كتاب الشخصيَّة المحمدية”، على سبيل المثال، أو أيّ كتابٍ من الكتب العلمية للمُفكّر علي الوردي.
إنَّ انتماءَ صدام حسين إلى “حزب البعث العربي الاشتراكي”، جعله يتطلّعُ إلى “المدرسة الطلفاحية” بنظرةٍ دونية، واكتشفَ مدى سذاجتها. ففي “مدرسة البعث” فتحَ الشاب صدام حسين عينيه على أفكارٍ وآفاقٍ جديدة، أرفع مستوى، وأبعد مدى، وأعمق مُحتوى، مما خبرهُ في مدرسةِ خاله، التي كان يراها بأنها طمَّاحة فيما هي “طمَّاعة”. وهذا التعبيرُ تحديدًا ورد على لسان برزان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام، ومدير جهاز استخبارات نظامه لفترةٍ من الزمن.
بعد لقائي خير الله طلفاح، بمَعيّةِ الصديق الراحل عبد الجليل حمود (أبو فرات)، كما مرَّ، استغرقتُ في التفكيرِ بكلامه الذي أبدى فيه رغبته بأن يتحوَّلَ النظامُ في العراق من “جمهوري” إلى “ملكي”، على غرار النظام الملكي السعودي، ثم امتعاضه من مقاطعة “الشباب” له، منذ بداية رئاسة صدام حسين، وفي مستهل الحرب مع إيران. فقلتُ في نفسي، إذا كان طلفاح يُصَرِّحُ بهذه التوجّهات علنًا أمامَ زواره، فلا بدَّ أنها وصلت إلى صدام حسين وأركان حكمه، أو ربما كانت تلك المواقف هي سبب القطيعة بينه وبين “الشباب”.
بادئ الأمر ظننتُ أنها مجرَّدُ نزوةٍ اعتراضية من قبل خير الله طلفاح، أو فكرة مُجنَّحة من بنات أفكاره الخُرافية، لكن بعد سنواتٍ قليلة، أظهرت التطوّرات الدرامية في مسار الحرب الإيرانية، بفعلِ التحوّلاتِ الدولية، التي قطعت باليقين ما كانَ يُساوِرُ صدام حسين من شكٍّ في الولايات المتحدة، ونياتها الحقيقية، أنَّ هناك مساعٍ جديَّة لإطاحته، تلبيةً لشرطٍ إيراني لوقف الحرب. وقد اتّخذت تلك المساعي مسالك مختلفة منها البحث عن بدائل له من داخل النظام العراقي، بينها مشروعٌ تموّله المملكة السعودية عبر خير الله طلفاح.
خلصتُ، بعد تلك المُعطَيات، إلى استنتاجٍ أنَّ طلفاح لم يكن “يُخرِّف” عندما كشفَ ما يرغَبُ فيه ويتمنّاه للعراق. وتَرَسَّخَ هذا الاستنتاج في ذهني، بعد وفاة عبد الجليل حمود وزوجته في “حادثِ سيرٍ غامض” على الطريق بين بغداد وعَمَّان. ولمَّا كانت تربطني مع أبي فرات، وشقيقه صبحي، صداقةٌ قديمةٌ، كما مرَّ، رُحتُ أتقصّى حقيقة الحادث. وقد بلغني من أكثرِ من مَصدَرٍ أنَّ أحدَ كبارِ شيوخ “عشائر شُمّر “السعودية، القريبة من “العشائر الطائية” التي ينتمي إليها عبد الجليل حمود، كلَّفه أن ينقلَ إلى خير الله طلفاح عرضًا بمبلغٍ ماليٍّ كبير بمليارات الدولارات، لقاء أن يقوم نجله وزير الدفاع عدنان خير الله مع مجموعةٍ من الضباط، بانقلابٍ ضدّ صدام، ووَضعِ نهايةٍ للحرب مع إيران.
كُنتُ أعرفُ أنَّ للعشائر العربية بين سوريا، والعراق، والأردن، والسعودية، علاقات ودٍّ، ونسبٍ، وقربى، وأنَّ ” أبا فرات” كانَ في المراكز المرموقة داخل تلك الشبكة العشائرية، وقد صحبني معه مرَّاتٍ إلى مجالس “فصل نزاعات” بين العشائر الطائية وعشائر أخرى. لكنني لم أُصَدِّق أن يكونَ ضالعًا في مسعى من هذا النوع، وهو في النتيجة غريبٌ عن العراق على الرُغمِ من امتداده العشائري المحدود هناك.
لذلك شككتُ في تلك الرواية، رافضًا تصديقها. على الرُغمِ من أنّهُ لا شيءَ مستبعدٌ في ما يتعلق بخير الله طلفاح، وأنه ربما كان لتلك الرواية أساسٌ من الصحة، بعد مقتل عدنان خير الله، وزير الدفاع العراقي، نجل خير الله، وابن خال الرئيس صدام حسين، وشقيق زوجته.
لكن في المراجعِ المُتداوَلة مَن ينسجُ هذه الرواية على منوالٍ آخر، أي خارج إطار “نظريَّة المؤامرة”، فيضعها في إطارِ عَرضٍ رسمي وافقَ عليه الأميركيون، يقضي بصرف مليارين من الدولارات لصدام حسين وعائلته لقاء خروجهم من العراق، والذهاب للعيش في أيِّ بلدٍ آخر يختارونه. أي ما يُشبه “تعويض نهاية الخدمة”!
هذه الرواية أيضًا غير قابلة للتصديق، حتى لو كانت حقيقية، لأنها تنمُّ عن جَهلٍ مُطبَقٍ بعقلِ صدام حسين، الذي لا يتركُ مقاليدَ السلطة بإرادته، حتى لو عُرِضَت عليه أموال الدنيا بكاملها. فلا أحد، ولا شيء، يأخذ زمام السلطة من يده سوى الموت، كما حصل تمامًا.
قد يكونُ أنَّ مقتلَ أبي فرات وزوجته بحادث سيارة، مجرّد مصادفة، لكنه من المُستبَعَد أن يكونَ مقتل وزير الدفاع بحادثِ سقوطِ طائرة مروحية سوفياتية الصنع، بفعل المصادفة. أقولُ ذلك، لأنني عندما زرتُ مع بعضِ الزملاء المصريين شمال العراق معقل الزعيم الكردي المُلا مصطفى البارزاني في منطقة “حجي عمران”، على الحدود العراقية–الإيرانية، يومها قرّرَ آمِرُ القاعدة العسكرية في كركوك الفريق سعيد حمو، وهو من أقدمِ وأقدرِ الضباط المؤسّسين في الجيش الوطني العراقي، أن يُرسلنا إلى هناك بطائرةٍ مروحيةٍ سوفياتية الصنع، وكانَ بيننا مراسلٌ لمجلة “آخر ساعة” يخاف من الطيران، فساورهُ الخوفَ قبلَ أن نصعدَ إلى الطائرة، فطيَّبَ آمرُ القاعدة خاطره، وطمأنه إلى أنَّ المروحيّات الروسية مأمونة، وليست مُعقَّدةَ الصنع مثل الطائرات الأميركية والفرنسية، وطلبَ من الطيار أن يُحلّقَ بالصحافي المصري وحده في رحلةٍ تجريبية حولَ القاعدة لكي يطمئن، ثم قُمنا بتلك الرحلة لمدة ساعة تقريبًا، بعدما أعيى السؤال زميلنا في “آخر ساعة” عن البدائل. وقال له آمرُ القاعدة إن البديل الوحيد هو رحلة جبلية وعرة على البغال تستغرق أكثر من 48 ساعة، وهي فوق ذلك غير آمنة!
أقولُ ذلك، على سبيل التأكيد بأنَّ حادثَ الطائرة الذي أودى بحياة عدنان خير الله، من المُستَبعَدِ أن يكونَ حادثًا عاديًا أو عرضيًا.
أما خير الله طلفاح فقد خسر حياة ابنه، وخسر ثقة صهره الرئيس، ولم يُحَقِّق عراقَهُ السعودي!
الحلقة الرابعة يوم الأربعاء المقبل بعنوان “المُربِّي”.
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.