لماذا أَرسَلَت الرياض سفيرًا إلى دِمَشق؟
محمّد قوّاص*
كانَ لافتًا عَدَمُ إلقاءِ الرئيس بشّار الأسد كلمةً في القمّة العربية التي عُقِدَت في المنامة في 16 أيار (مايو) الجاري. لم يُلقِ عددٌ من القادة العرب كلمات، ولطالما اكتفى قادةٌ بالحضور من دونِ الكلام. لكنَّ الأمرَ ليس من عاداتِ الرئيس السوري، وهو الذي جَعَلَ من القمم السابقة على تعليقِ مقعدِ سوريا في جامعة الدول العربية وتلك التي عُقِدَت في العام الماضي بعدَ استعادةِ دمشق مقعدها، منبرًا للتعبيرِ عن آراءِ دمشق ومواقفها.
في تفسيرِ “الحضور الصامت” للرئيس السوري تبرّعَ كثيرٌ من المصادر في تقديمِ رواياتٍ مُختلفة:
- من تلك الروايات، أنَّ نصيحةً عربية أُسدِيَت للرئيس السوري بعدمِ الإدلاءِ بأيِّ دلوٍ قد يخضعُ لتأويلاتٍ وتفسيراتٍ لا تُساعِدُ “القضية السورية” عربيًا وإقليميًا ودوليًا.
- وفي روايةٍ أُخرى، أنَّ الأسد أرادَ الإمعانَ في الابتعادِ عن خطابِ “محور الممانعة” وعدم إطلاقِ أيِّ مواقف قد يُشتَمُّ منها استعارةً للهجة طهران أو نفورًا منها.
- وفي روايةٍ ثالثة، أنَّ الرئيس السوري الذي عَوّلَ كثيرًا، منذُ قمّةِ جدة 2023، على انقلابٍ جذريٍّ عربي لمصلحةِ الانفتاحِ الكاملِ على نظامهِ وفَرضِ إعادةِ العلاقات العربية الكاملة والشاملة مع دمشق على المجتمع الدولي، استَنتَجَ تَعَقّدَ الأمرِ وضرورةَ الالتزامِ بحكمةِ أنَّ “الصمتَ أصدقُ إنباء من الكتب”، والسعي خلف الكواليس وراء إنجازاتٍ لا تتحقّقُ حاليًا على المسرح المباشر.
إثر صدورِ قرارِ إعادة دمشق إلى مقعدها داخل جامعة الدول العربية في أيار (مايو) 2023، استنتجَ المراقبون أنَّ مداولاتٍ مُرَكّبة جرت للحصولِ على إجماعٍ مطلوبٍ لقرارٍ من هذا النوع. لم يكن هناك إجماعٌ خليجي ولم يكن هناكَ إجماعٌ عربي. وإذا ما تمَّ إقرارُ “إعادة دمشق إلى الحضن العربي”، فإنَّ الأمرَ احتاجَ إلى ديباجةٍ لا تُلزِمُ الدول الأعضاء بإعادةِ العلاقات الديبلوماسية مع سوريا، وتركت حُرّية الأمر لكلِّ دولةٍ بشكلٍ سياديٍّ مُنفرد.
وفق ذلك، أعادت الدول العربية علاقاتها الديبلوماسية مع دمشق بسرعاتٍ مُتفاوتة وبخطواتٍ مُتباينة الحماسة. فحتى حين تقّدمت دولة الإمارات مُتَصَدِّرةً الدول العربية بخطواتٍ لافتة باتجاه دمشق، وحتى حين أظهرت دولٌ مثل العراق والجزائر وتونس وغيرها رغبةً وإرادةً في الانفتاح على دمشق، فإنَّ المملكة العربية السعودية بقيت مُتحفّظةً حَذِرةً مُتلكّئةً في اتخاذِ قرارٍ بتعيينِ سفيرٍ لها لدى دمشق. شرّعَ الأمرُ البابَ أمامَ كَمٍّ من التكهّناتِ والشكوكِ بشأنِ الأسبابِ التي ما زالت تمنعُ “تطبيع” العلاقاتِ بشكلٍ كاملٍ بين البلدين، بما في ذلك إعادة تشغيل السفارة السعودية وتعيين سفير للمملكة على نحوٍ مُكَمّلٍ للخطوة السورية بتعيين سفيرٍ باشَرَ عمله في السفارة السورية في الرياض منذ كانون الأول (ديسمبر) 2023.
تتحدّثُ الأنباءُ عن أنَّ الرياض لم تستنتج تَقَيُّدِ دمشق بالتزاماتٍ قطعتها وِفقَ خريطةِ طريقٍ وضعتها اللجنة العربية الخُماسية المُكلّفة متابعة مستقبل العلاقات مع سوريا. كانت الالتزامات تشمل ملفّات أبرزها:
- جهودٌ سورية لمُكافحةِ تهريبِ الكبتاغون، وخصوصًا صوب منطقة الخليج، من خلال الحدود البرية مع الأردن أو أية وسائل أخرى.
- جهودٌ لمُكافحةِ الفصائل والجماعات المُسَلَّحة، وأكثرها مُوالٍ لإيران، والتي تعمل على الحدود السورية-الأردنية خصوصًا.
- جهودٌ تبتعدُ دمشق من خلالها عن السطوة الإيرانية وتُظهِرُ توقًا إلى إيلاءِ العلاقات مع العالم العربي أولوية في خياراتِ دمشق الخارجية.
وفيما شكّكت تياراتٌ عربية في قدرة النظام السوري على تنفيذِ تلك الالتزامات وغيابِ الإرادة أساسًا، غير أنَّ السعودية والمجموعة العربية اعتبرتا، حينها، أنَّ أمامَ نظامِ دمشق فرصةً لإثباتِ عزمهِ الجدّي على “العودة إلى الحضن العربي”، وبالتالي الابتعاد عن أحضان إيران.
لم تَلحَظ السعودية أيَّ تقدُّمٍ في هذا الصدد. حتى أنَّ تقاريرَ صادرة عن الأردن أفادت بفشلِ كل محاولاتِ المملكة الهاشمية لتطبيع العلاقات مع دمشق، رُغمَ توسُّطِ عاهلها الملك عبد الله الثاني لدى الرئيس الأميركي جو بايدن منذُ تموز (يوليو) 2021 من أجل تخفيفِ العقوبات عن دمشق. وذكرت تلك التقارير أنَّ هجماتَ المُهرّبين عبر الحدود السورية-الأردنية باتت أكثر عُنفًا وأشدّ تسليحًا. حتى أنَّ الجيشَ الأردني بات يخوض “حربًا” مع تلك العصاباتِ المَحميةِ من جماعاتٍ تنالُ رِضا دمشق أو دعمَ طهران أو الاثنين معًا.
لطالما زَعَمَت دمشق عَدَمَ قدرتها على ضبطِ حدودها وعدم امتلاكها إمكاناتٍ تُتيحُ لها مكافحة أنشطة تصنيع الكبتاغون وتهريبه. ولطالما لمّحت دمشق، بشكلٍ مباشر، وبلسانِ الأسد نفسه، وغير مباشر، بألسنةِ المُعَلّقين السوريين، إلى حاجةِ دمشق إلى تمويلات عربية ودولية من أجل مكافحة التهريب والتصدّي للمُهرّبين، ومن أجلِ إقامةِ برامج لإعادة النازحين إلى ديارهم. والواضح أنَّ خلافًا بشأنِ أولوية مكان الحصان والعربة قد أبعدَ دمشق عن المناخ العربي، ما دفعَ الرياض إلى عدمِ التعجّل في إرسالِ سفيرها إلى العاصمة السورية من دونِ ضماناتٍ بتنفيذ تلك الالتزامات، بما فيها القيام بمبادراتٍ وإصلاحاتٍ داخلية، عَلَّ طريق البحث عن مسارٍ سلمي يُنهي الأزمة السورية ويقيم التصالح الداخلي.
لم يحصل كلُّ ذلك. ظهرَ أنَّ الأمرَ يحتاجُ إلى ديناميات خلّاقة. بدا أنَّ عزوفَ الرياض عن استئنافِ علاقاتٍ كاملة مع دمشق يَكبَحُ اندفاعةً عربية وإسلامية في هذا الاتجاه. لم تتقدّم العواصم العربية كثيرًا، فيما صدرَ عن الاتحاد الأوروبي في كلِّ مناسبة أن لا تطبيعَ مع نظام الأسد من دونِ عمليةٍ سياسية وفق قرار مجلس الأمن رقم 2254، وصوّتَ مجلس النواب في الكونغرس الأميركي في شباط (فبراير) الماضي على قانونٍ ضدّ التطبيع مع دمشق. وفق هذا الانسداد احتاجَ الأمرُ إلى “حضورٍ صامت” للأسد في قمّة المنامة، ولقاءٍ مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان هناك على هامش تلك القمّة.
لا نعرفُ الشيءَ الكثير عن تفاهُمات ذلك اللقاء. نعرفُ أنَّ الرياض قرّرت نتيجة ذلك الحدث الإعلان عن تعيين فيصل بن سعود المجفل سفيرًا لها لدى دمشق.
يُكمل القرار السعودي مسارًا رشيقًا لتصفيرِ المشاكلِ انتهجتهُ الرياض: أُغلق ملف الخلاف الخليجي مع قطر؛ طُوِيَت صفحةُ الخلاف مع تركيا؛ وأنهى اتفاقُ بكين برعاية الصين حقبةَ توتُّرٍ في علاقاتِ المملكة وإيران.
تقفزُ الرياض خطواتٍ جسورة باتجاهِ دمشق في السعيّ إلى إحداثِ مُعادلةٍ تُفَعّلُ كيمياءً في أوردةِ الالتزامات غير المُحَقَّقة. وترى مصادر غير رسمية في السعودية، أنَّ المسارَ لم يولد إلّا بناءً على هيكلِ التزاماتٍ تَعَهّدها الرئيس السوري، بما يعني أنَّ الرياض تنتظرُ في مواعيد قريبة إجراءاتٍ وتدابيرَ سورية حيوية داخل ملف الأمن والتسوية الداخلية وتوازن العلاقات الإقليمية.
أتى القرارُ السعودي من ضمنِ دعوةٍ عربية، ظهرت في بيانِ قمّة المنامة، إلى حلٍّ للأزمة السورية وفق القرار الأممي 2254، وهي ديباجة مُعتَمَدة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. الأمرُ يجعلُ الموقفَ السعودي والعربي مُتماهيًا ولا يُمثّلُ تحدّيًا للموقف الأميركي-الأوروبي. ما يعني أيضًا أنَّ أيَّ مبادرة سعودية-عربية لحلِّ الأزمة السورية ستكونُ مُتوافِقة مع الشرعية الدولية وجهود المبعوث الأُممي إلى سوريا.
وإذا ما قرّرَ وليُّ العهدِ السعودي نقلَ الكرة إلى ملعب الأسد، فإنَّ أوساطَ الرياضِ تُعَوّلُ على إدراكِ دمشق أهمّية الخطوة السعودية في تفعيلِ مناخاتٍ لتدبيرِ ملفّاتِ نزاعٍ بين دمشق وتركيا، كما بين دمشق والمنظومة الغربية، سواءً في شقّها الأوروبي، أم خصوصًا في شقّها الأميركي، حيث للرياض في واشنطن كلمات سرّ ومفاتيح.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).