لبنان… الحَربُ الأهليّة المُستَدامة (39): إِمامُ المَحرومِين

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

ملحم قاسم: الرجل الذي باع حصة الشيعة في الجنة إلى الموارنة!

سليمان الفرزلي*

حكايةُ ريمون إدّه مع الشهابية والعسكر سالَ من أجلِها حِبرٌ كثير، وهي بدأت لمّا أخَذَ حَجمُ “المكتب الثاني”، (الذي كان العميد إدّه يُطلِقُ عليه “الجماعة”)، ينمو، ويزدادُ أثره وتأثيره في الداخل. وعندما اقتَرَنَ العَهدُ الشهابي بالعسكر، كانت المواجهة التي اختصرها إدّه في “مهرجان قطين” بما سمّاهُ “الأخطار الثلاثة”: إسرائيل، الشيوعية، والشهابية.

في الانتخاباتِ النيابية سنة 1964، في دائرة جبيل، تَمَكّنَ “المكتب الثاني” من إسقاطِ لائحةِ ريمون إدّه، التي كانت تضمُّ إميل روحانا صقر وأحمد إسبر، ففازت لائحة “الجماعة” التي تَشَكّلت من أنطون سعَيد، شهيد الخوري وعلي الحسيني. (كان الفارق بين إدّه وسعَيد لا يتعدّى 213 صوتًا)، إلّا أَّنَّ العُمرَ لم يُسعِف أنطون سعَيد فتوفي بعدَ سنةٍ من انتخابه، ليستَرِدّ ريمون إده مقعده في الانتخابات الفرعية سنة 1965.

في سنة 1968 اتّخذَت الانتخاباتُ النيابية منحىً مُختَلفًا في مواجهة الشهابية وعسكرها، فلم يَكُن الزعماء الموارنة الثلاثة، كميل شمعون، ريمون إدّه، بيار الجميل، مُنقَسِمين بين فؤاد شهاب ومُعارضيه، فأتَلَفَ الثلاثة في حلفٍ سَمّوهُ “الحلف الثلاثي”، اجتاح صناديق الاقتراع.

في تلك اللحظة، أزفت ساعة العسكر والنهج الشهابي، وراحت تلوحُ في البلاد ملامح الفراغ، بعدما كان “المكتب الثاني” يقبضُ بحزمٍ على مفاصل الدولة أمنيًا وسياسيًا، فتسلّلَ الفدائيون الفلسطينيون، التابعون لما سُمِّيَ، وقتذاك، “الحركة الفدائية الفلسطينية”، بحرّية أكثر.

كانَ لتلكَ “الحركة “، التي أُطلِقَت في اليومِ الأول من سنة 1965، بشكلٍ مُغَلَّفٍ بالغموض، صدى شعبيًا، وسياسيًا في لبنان، باتجاهَين مُختلفين: فعلى الصعيدِ الشعبي كانَ من الطبيعي التعاطُفِ مع كلِّ عملٍ فلسطيني، أو عربي، ضدّ دولة إسرائيل، إلّا أنّهُ على الصعيد الرسمي، كان الأمرُ مُحرِجًا ومُعقّدًا في آنٍ معًا.

بدَت الحركة الفلسطينية، وكأنها ردَّةُ فعلٍ على مقرّرات القمة العربية الأولى، التي دعا إليها الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة عام 1964، ومنها تشكيل “منظمة التحرير الفلسطينية” بقيادة الديبلوماسي الفلسطيني المعروف أحمد الشقيري، وهي المنظّمة التي آلت قيادتها تاليًا إلى ياسر عرفات، قائد حركة “فتح”، التي باشرت الكفاحَ المُسلّح ضد إسرائيل، باسم جناحها العسكري “العاصفة”.

لم يتوقَّع أحدٌ في لبنان أن يكونَ جنوبه أولَ مدخلٍ إلى العمل الفلسطيني المسلّح، إلى أن ألقى الجيشُ اللبناني القبضَ على خليّةٍ فلسطينية حاولت خلسةً التسلّلَ إلى الأراضي المحتلّة للقيامِ بعمليةٍ فدائية، كان يقودها شخص يُدعى جلال كعوش، قالت الجهات الرسمية إنه مات حين ألقى بنفسه من النافذة مُحاوِلًا الفرار من معتقله.

راجَت روايةٌ أُخرى عن مصيرِ كعوش، صدَّقها الناس أكثر، وتلقّفها السياسيون، نشرتها جريدة “الأحرار”، التي كان يرأس تحريرها الراحل جان عبيد، النائب والوزير في ما بعد، بمقالٍ دَحَضَ فيه الرواية الرسمية، ما يعني أنَّ المُسَلَّحَ الفلسطيني ماتَ تحت التعذيب، ووصفه بعنوانٍ عريضٍ على الصفحة الأولى بأنّه “شهيد”.

حقّقَّ مقالُ “الأحرار” سبقًا صحافيًا، فهو كشفَ للرأي العام اللبناني عن حادثٍ كانت تَرغَبُ الدولة في إخفائه، أو طمسه، الأمر الذي حمل الشيخ ميشال الخوري، وزير الإعلام والدفاع، إلى عقدِ مُؤتمرٍ صحافي في وزارة الدفاع لتوضيح ملابسات الحادث، فأماطَ اللثام عن سببٍ، ظلَّ مجهولًا في الفترة بين قرارات القمة العربية الأولى 1964، ومقتل الفلسطيني جلال كعوش في التاسع من كانون الثاني (يناير) 1966، وهو أنَّ الأجهزة اللبنانية اعتقلت الخليّة الفلسطينية بموجبِ تعليماتٍ من القيادة العربية المُوَحَّدة (المُنبَثِقة من مؤتمر القمة بقيادة الفريق المصري علي علي عامر)، التي طلبت من سلطاتِ الدولِ المُحيطة بإسرائيل (لبنان، سوريا، الأردن) أن تمنَعَ تسلُّلَ عناصر من حدودها إلى الأراضي المحتلة، لأنَّ ذلك قد يؤدّي إلى استدراجِ الدول العربية إلى مواجهةٍ مع إسرائيل قبل اكتمالِ الاستعدادات، التي عكفت عليها القيادة المُوَحَّدة لتعزيزِ قوّاتٍ دفاعية عربية مشتركة.

في خضمِّ تلك المرحلة الحائرة في لبنان والعالم العربي، لَمَعَ في الفضاء اللبناني شهبٌ مُضيءٌ هو الإمام موسى الصدر، مؤسّس المجلس الشيعي الأعلى، الذي به صارَ الجسمُ السياسي والشعبي الدائر حوله قطب الرحى، أو نقطة الفصل، في السياسة اللبنانية، لكون حركته، نشأت من بدايتها، بمنطلقاتٍ لبنانيةِ الجوهر والمُبتَغى. وباختفائه القسري في العام 1978 في ليبيا، تضخّمت الحركة التي أطلقها، فخفَّ وهجها، حتى تضاءل تميّزها وبريقها من بعده، بفعل التحوُّل المبدئي عما كانت عليه، لتنخرط تاليًا في الحرب الأهلية، كقوة ميليشياوية، مما سمح للجسم الشيعي في لبنان بتجاوزها، بعد “الثورة الخمينية” في إيران في العام 1979، عندما تأسّس “حزب الله” كحركةِ مقاومةٍ ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، من غير انغماسٍ في الأوضاع السياسية الداخلية.

لم يُقَدَّر لي أن أعرفَ الإمام موسى الصدر، إلّاَ من المجاملات: مرةً سنة 1973 عندما جاء إلى بلدتنا القرعون، في البقاع الغربي، للتعزية بوفاة أحد أقاربنا، ومرةً  سنة 1974 عندما اتصلَ بي هاتفيًا للاستفسارِ عن خبرٍ نشرته جريدة “بيروت” التي كُنتُ أرأس تحريرها. إلّا أنه قد تسّنى لي معرفةَ الكثير عن الإمام، من خلال رفيقيه اللذين أُخفِيا معه في ليبيا، الشيخ محمد يعقوب، والصحافي عباس بدر الدين، الذي تعرفت عليه في مكتب رياض طه، نقيب الصحافة اللبنانية الراحل، إذ عملَ لفترةٍ من الزمن في “وكالة أنباء الشرق” التي كان يُصدرها النقيب، قبل تأسيسه لوكالته الخاصة باسم “وكالة أخبار لبنان”. وكُنتُ أنا في تلك المرحلة أرأس تحرير جريدة “الكفاح” التي كان يصدرها النقيب طه، وكثيرًا ما جلسنا إلى الحديث، حيث كان بدر الدين يستفيضُ في الكلام عن الإمام.

كان عملي الصحافي، وقتذاك، يَفرُضُ عليَّ المُتابَعة المُشبَعة بالمعلومات عن “ظاهرة الإمام”، مُلتَمِسًا تأثيرها، سواءَ في المجتمع الشيعي أو في المكوّنات اللبنانية الأخرى. وسمعتُ آراءً مُتفائلة بها الى أعلى الدرجات، وأخرى مُشَكِّكة بها وبغاياتها إلى درجة الحذر الشديد. وكانت توجد أيضًا جهاتٌ رَبَطَت تاليًا بين اختفاء الصدر في العام 1978، وبين الثورة الإسلامية في إيران بعد أشهرٍ عدّة فقط. وهناكَ ما يُشيرُ إلى أنَّ الحركة الصدرية، في بدايتها، لقيت ترحيبًا واحتضانًا في أوساط الجيش اللبناني، في محاولةٍ مُتأخّرة للإمساكِ بالوَضعِ العام بعد عمليةِ تفكيك الدولة الشهابية، التي بوشرت في بداية عهد الرئيس سليمان فرنجية، بملاحقة وطرد ضباط “المكتب الثاني” الذين لجأ بعضهم إلى أوروبا، وبعضهم الآخر إلى سوريا.

قبلَ تلكَ المرحلة الرمادية بين تفكيك الأجهزة الأمنية الشهابية من أواخر 1970، وبين نشوب الحرب الأهلية عام 1975، اقتصرَ نشاطُ الإمام الصدر على التوعية، والتوجيه، من خلال المحاضرات، والندوات، والزيارات،  واللقاءات، فأطلق “حركة المحرومين”، التي تقبّلها المسيحيون، وفُتحت أمام الإمام أبواب المعاهد، والأديرة، واستقطبَ الصفوة من المُفكّرين المسيحيين، كما سانده المطران غريغوار حداد، ( مطران الفقراء، أو “المطران الأحمر”، كما كان يُلقَّب)، إلّا  أنهُ ما لبث في العام 1974 أن أدخلَ على الحركة، خفيةً وبعيدًا من الأنظار،  التنظيم المُسلّح، واتخذ من بعلبك مركزًا لتدريبِ أفواجٍ من الشباب الشيعة، وفي ساحةٍ في “مرجة العين”، كانت تتمّ  حلقات قسم اليمين على الولاء للحركة، وتسّببَ حادثُ انفجارٍ في أحد مراكز التدريب إلى افتضاحِ أمرِ التنظيم المسلّح الذي أطلقَ عليه الإمام “أفواج المقاومة اللبنانية” (اختصارًا “أمل”).

حَدَثَ ذلك على مشارف انحدارِ البلاد إلى الصراع العسكري بفعلِ ثقلِ وطأةِ الوجود الفلسطيني المسلّح، خصوصًا في الجنوب.

كانَ للإمام الصدر موقفٌ ملتبسٌ من مسألة السلاح الفتَّاك، فقد هالهُ استخدامه، وما نتجَ عنه، من خلال ما كان يُعاينُ ويسمعُ في بداية الإحتراب الداخلي.

في 27 من حزيران (يونيو) 1975 توجّهَ الإمام بعد الظهر إلى مسجد “الكلية العاملية”، في “شارع عمر بن الخطاب”، وارتقى سُلّم الطابق الثاني من المسجد حاملًا بيدٍ حقيبة، وباليد الأخرى عباءته وكتبه، وجلس في إحدى زوايا المسجد ومعه أربعة من معاونيه الذين بادرهم، كما خبَّر واحدهم: “طوال النهار وليله كنتُ أتلقّى شكاوى الرجال، وأسمعُ نحيبَ الأرامل، وبُكاءَ اليتامى، وعلى الرُغمِ من أنني سعيتُ جهدي، ولم أذُق طعم النوم، فإنَّ القصفَ لم يهدأ والأوضاع تزداد سوءًا، فقررتُ أن اعتصمَ وأصومَ حتى الشهادة، أو حتى تعود البلاد إلى حالتها الطبيعية، وجئتُ أُصلّي إلى الله أن ينقذَ الوطن”.

توجُّهه السلمي في البداية، كان يرى أنَّ السلاحَ لا يحلُ الأزمة، بل يُسرِّعُ في تمزيق البلد. وفي خطبة الاعتصام في 28 من حزيران (يونيو) نبذ العنف، بقوله: “علينا أن نبتعدَ عن العنف، لا نُريدُ عُنفًا، نريدُ أن نقوى على القوة”، وزاد:” بلدنا يأبى أن يكونَ الحقُّ فيه للقوّة، نُريدُ أن نرفضَ ذلك”.

لكنَّ الإمام ما لبث أن أعلنَ من بلاد بعلبك في البقاع أنَّ “السلاحَ زينةُ الرجال”، وعند هذه النقطة الفاصلة بين التوجُّهَين، قام بتأسيس تنظيم حركة “أفواج المقاومة اللبنانية ” (“أمل”)، ليس من أجل الدخول أو المشاركة في الحرب الأهلية، بل لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وحماية مجتمعه من أيِّ اعتداء.

إنَّ إعلانَ إمام المحرومين بأنَّ “السلاح زينة الرجال” من بعلبك في البقاع الشمالي، له مدلولٌ تاريخي، من حيث تمجيد السلاح في منطقةٍ مُهمَلة من الدولة وخارجة عليها.

في المرحلة الفاصلة بين العهدَين التركي والفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى، نشأت في تلك المنطقة ظاهرةٌ مُسلَّحة محورها أشخاص يُطلقون عليهم لقب “الأشقياء”، وكبيرهم في ذلك الوقت ملحم قاسم (أبو علي)، الذي كان يأخذ من الأغنياء ليُعطي الفقراء (على طريقة روبِن هود)، الرجل القوي الذي يثأر للظلم ويخفف معاناة الفقراء. صحيحٌ أنه كان يستخفُّ بالسلطة، لكنه عُرِفَ بمحبته للبنان وحرصه على وحدة أراضيه وشعبه، كما عُرِفَ بتمجيده للسلاح إلى “درجة التأليه” لأنَّ فيه القدرة على الفصل بين الموت والحياة.

في مذكرات رستم حيدر، وهو من بلاد بعلبك، وكان وزيرًا في حكومة الملك فيصل في الشام، ثم انتقل معه إلى العراق، وأُنيطت به حقيبةٌ وزارية في بغداد أيضًا، قال عن ظاهرة “الأشقياء” وملحم قاسم، “إنهم ذوو طرافة، لكنهم مصدرُ إزعاجٍ للنضال الوطني”. وربما كان التعبير عن هذا الاستياء من تلك الظاهرة المسلَّحة، أنَّ ملحم قاسم كان ضد الانضمام إلى الدولة العربية، كما فعل رستم حيدر، وشديد التعلّق بلبنان وبصداقته مع المسيحيين، حيث يُقال إنه عَمَّدَ جميع أبنائه في كنيسة “طليا”!

ويروي أهل البقاع قصة عن ملحم قاسم، أنه ترافق يومًا مع كاهنٍ مسيحي من رأس بعلبك إلى مدينة بعلبك، وفي الطريق سأل أبو علي رفيقه الكاهن: “كيف هي قسمة الجنة؟”

فأجابه الكاهن: ” 12 قيراطًا للموارنة، و12 قيراطًا لكافة الطوائف الأخرى. أما الشيعة فلهم قيراطان فقط”.

ثم سأله أبو علي ما إذا كان بإمكانه أن يشتري لنفسه أحد قيراطَي الشيعة، وكم ثمنه، فقال له الكاهن: “نعم هذا مُمكن، وثمن القيراط ليرتان ذهبيتان”.

ولدى وصولهما الى بعلبك، قال ملحم قاسم للكاهن: “بما أنَّ الشيعة جميعهم، وهم على ما هم من الكثرة، لا يملكون سوى قيراطَين، فإني أرغبُ أن أبيعك حصَّة الشيعة بالكامل بالثمن الذي حددته أنت، أي ليرتان للقيراط”، ثم أرغم الكاهن على دفع أربع ليرات ذهبية.

ومن وقتها، يقول الناس في البقاع إنَّ الشيعة لا مكان لهم في الجنة، لأن ملحم قاسم باع حصتهم للموارنة!

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى