لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (25): الدولةُ اليَهودِيّة مَشروعُ حَربٍ كَونِيَّة
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
ما كادَت الحربُ الكَونيّةُ الأولى تَضَعُ أوزارها، حتى كان الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، يَتَهيَّأُ، عبر “مؤتمر فيرساي للسلام”، للتدخّلِ في مصير سوريا ولبنان السياسي. فتَحتَ شعارِ “حقّ تقرير المصير للشعوب غير التركية في الإمبراطورية العثمانية “، أوفدَ إلى دمشق بعثةً للوقوف والاستئناس برأي وميول السوريين حول مستقبل بلادهم خارج تلك الإمبراطورية المُتهالكة، ثم، اختيار الدول “المُنتدبة” عليهم من قبل “عصبة الأمم”. وقد عرفت تلك البعثة باسم” بعثة كينغ-كراين”، وهما هنري تشرشل كينغ وتشارلز كراين.
لكن المسعى الأميركي هذا أحبطه الإنكليز والفرنسيون المُنتَصِرون في الحرب الذين أبرموا مُعاهدةً سرِّية لاقتسامِ المنطقة السورية وفرض الانتداب عليها: جنوب شرق تركيا، وشمال العراق، ولبنان وسوريا للفرنسيين. فلسطين والأردن وجنوب العراق، ومنطقة صغيرة إضافية تشمل موانئ حيفا وعكا منفذًا إلى البحر المتوسط للإنكليز، هي “معاهدة سايكس – بيكو” (نسبة الى مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو). وكانت روسيا القيصرية طرفًا ثالثًا في تلك المعاهدة، لكنَّ قيامَ الثورة البلشفية أسقط دورها، وكان قائد تلك الثورة فلاديمير لينين اطَّلع عليها من الأرشيف القيصري، وهو أوّل مَن كَشَفَ عن مضمونها إلى العلن. وكانت إيطاليا الطَرَفَ الرابع المُصادِق على تلك المعاهدة.
وكان العاملُ الذي أسعفَ الإنكليز والفرنسيين في إحباط المسعى الأميركي، وجود قوات عسكرية لهم على الأرض، ففرضا أمرًا واقعًا، حتى على عصبة الأمم، لعلمهما ربما بأنَّ البلدان السورية كانت ستختار الانتداب الأميركي كما تبيَّن من الاستقصاءات الأولى لبعثة “كينغ – كراين”.
شَمَلت خطة الاستقصاء الأميركية، إضافةً إلى المنطقة المشرقية الحالية، اعتبار منطقة “كيليكيا” التركية جُزءًا من سوريا، لكن ضغوطًا دولية شديدة مورست، في السرِّ والعَلَن، لإسقاطِ تلك المنطقة من مهمة البعثة الأميركية فتوقّفَ الاستقصاءُ فيها. وكان ذلك أوّلَ تعثُّرٍ في طريق المسعى الأميركي. لكن أهمّ ما أنجزته تلك البعثة هو تقريرها المُوَجَّه إلى الرئيس ويلسون شخصيًا، ثمَّ إلى الشعب الأميركي، حول فلسطين وخطورة إقامة دولة يهودية هناك على الولايات المتحدة وعلى بقية العالم. وهذا يدلُّ على أنَّ هناك شعورًا، أو علمًا، لدى البعثة بأنَّ الرئيس ويلسون يميلُ إلى إقامةِ دولةٍ يهودية في فلسطين، ويسعى إلى ذلك.
وقد أُحيلَ تقريرُ البعثة إلى الكونغرس، الذي تعامل معه على طريقة الرئيس نبيه بري في لبنان، فأودعه الأدراج حيث نامَ فيها إلى ما بعد هدوء الصدمة من صدور وعد بلفور في لندن، قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يُعرَض على الكونغرس إلّاَ بعد ثلاث سنوات من صدوره، فأقرّه سريعًا من غير تدقيق. ولذلك لم يأخذ تقرير البعثة الأميركية ما يستحقّه من درسٍ ومُناقشة.
وأهمّ ما وردَ في التقرير، وينمُّ عن بُعدِ نظرٍ ملفت، قوله: ” إنَّ الدولة اليهودية في فلسطين لا تقومُ ولا تدومُ إلّاَ بالقوَّة العسكرية”. واستقراءُ الملاحظة المذكورة، بالتحليل المدعوم بالتجارب والأحداث التي تلت ذلك، يُبيِّنُ أنَّ بعثة “كينغ – كراين” إلى سوريا كانت تبغي تنبيه الرئيس ويلسون إلى أنَّ عبءَ إقامةِ وإدامةِ الدولة اليهودية في فلسطين، بالقوة العسكرية، سوف يقع على الولايات المتحدة، ما يعني في النتيجة أنَّ ذلك هو وصفةٌ لحربِ كَونِيّة مستدامة، فاعتبره بعضُ المصادر الغربية، في تحليله للتقرير، بأنه “إمساكُ العالم بالقوّة وتنصيبُ أُمَراء حرب عليه”!
وتكفي نظرة واحدة شاملة على مجريات العالم منذ ذلك الوقت لإدراك معنى الحرب الكَونِيّة المُستدامة المُتَرَتِّبة على وجودِ دولةٍ يهودية في فلسطين، لا تقوم ولا تدوم إلّاَ بالقوة العسكرية، وبالقوة العسكرية الأميركية تحديدًا، من الانهيار الاقتصادي العالمي عام 1929، إلى الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى الحروب المتواصلة في منطقة الشرق الأوسط منذ أواسط القرن الماضي حتى اليوم. وكل تلك الحروب السابقة واللاحقة تمحوَرَت حول القوة العسكرية الأميركية، كما توقّعت بعثةُ “كينغ–كراين” قبل أكثر من مئة سنة.
وكما إنَّ العربَ لم يلحظوا مضمون تقرير “كينغ – كراين”، ولا حتى أعاروه أيّ أهمية، كذلك لم يلحظوا عملية الافتراق التي أحدثها انتخاب ويلسون عن البنية الفكرية الأساسية التي أقامها الآباء المؤسِّسون للولايات المتحدة في المؤتمر الدستوري القارِّي العام في سنة 1787، حيث حذَّر الكاتب والمفكّر والفيلسوف السياسي المعروف ب”الأميركي الأوّل” بنجامين فرانكلين في خطابٍ له أمام زملائه المؤسّسين من مغبَّة السماح بهجرة يهود أوروبا إلى الولايات المتحدة، مُحَدِّدًا تلك المحاذير بالنقاط التالية:
- إذا سُمِحَ لليهود بالمجيء إلى أميركا فإنّهم سوف يتجمّعون بأعدادٍ كبيرة ويُغيِّرون الحكومة؛
- إنّهم سوف يُجَيِّرون تعبَ الشعب الأميركي وجهوده المُضنِية لصالحهم؛
- إنّهم لن يندمجوا في المجتمع الأميركي الأوسع؛
- إنّهم يَسخَرون من الديانة المسيحية وسوف يعملون على تقويضِها؛
- إنّهم يتوقون توقًا شديدًا للعودة إلى فلسطين، لكن يهود أميركا لن يعودوا إلى هناك إذا أُتيحَ لهم ذلك؛
تلكَ المحاولة الأميركية القوية في انطلاقتها الابتدائية نحو الديار السورية بعدَ حربٍ عالمية طاحنة تفكّكت بفعلها امبراطوريتان كبيرتان هما الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية، وانهارت أيضًا الإمبراطورية القيصرية الروسية على يد الثورة البلشفية، لم يُكتَب لها النجاح، لكن تقرير بعثتها ومسعاها الأولي أكَّدا نقطتين مهمّتين: النقطة الأولى، التأكيد على أنَّ كيليكيا هي منطقة سورية وليست تركية، والنقطة الثانية، استشراف المخاطر المُترَتّبة على قيامِ دولةٍ يهودية في فلسطين، ليس على العرب فحسب، بل على الولايات المتحدة وعلى بقية العالم، باعتبارها “وصفة لحربٍ كَونيّة مُستَدامة”.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com