لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (20): فرنسا، تَحورُ وتَدورُ وتَعودُ إلى لبنان

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

لم يَكُن التدخُّلُ الفرنسي في المسألة اللبنانية بعد حرب الجبل في سنة 1860 على وَتيرةٍ واحدة. في تلك الحرب الأهلية الكبرى، آزرت فرنسا الموارنة مُنفَرِدةً، فلم يأتِ تدخُّلها بأيِّ مَردودٍ إيجابي. ذلك أنّهُ، عبر دوراتِ التاريخ، ثبتَ أنَّ “الدورَ المُنفرد” لا يؤدّي إلى نتيجةٍ إيجابية، إلّاَ إذا كانَ في الإطارِ الدولي الجماعي.

وهذا ما حَصلَ عندما عادت فرنسا إلى الدخول شريكًا مع القوى الأوروبية الكبرى في ذلك الوقت (بريطانيا، روسيا، النمسا، بروسيا). فالتدخُّلُ الدولي المُشتَرَك آنذاك أنتجَ “نظام المُتصرّفية” على غرارِ إنتاجِ “نظام الطائف” بعد الحرب الأهلية عام 1975.

والمُشابَهة بين هذَين النظامَين لا تقتصرُ على الشَكل، بل تتعدّاه الى مضمونهما المُتَمَثِّل بتشكيلِ “مشروع الوصاية الخارجية المُستَدامة” على لبنان كنتيجةٍ حتمية لحالةِ الحربِ الأهلية المُستَدامة.

حربُ الجبل الأهلية أعقبها سلامٌ طويلٌ امتدَّ حتى الحرب العالمية الأولى والانتداب الفرنسي، وهو سلامٌ يشبه “سلام الطائف”، الذي ما تمَّت تسويته الدستورية لولا التوافق الدولي، فكأنّهُ فاصلٌ بين حربَين.

بعدما تعاطت فرنسا مع المسألةِ اللبنانية مُنفَرِدةً، عادت إلى تسويةِ هذه المسألة في إطارِعملٍ دوليٍّ جماعيٍّ مع شُركاءٍ آخرين.

وربّما كان ذلك لسببَين: الأوّل، في المراحل التي كانت فيها لفرنسا طموحاتٌ إمبراطورية للهَيمَنة في أوروبا، في العهد النابليوني الأوّل (بقيادة نابليون بونابَرت)، وكذلك في العهد النابليوني الثاني (بقيادة نابليون الثالث)، لتعود فرنسا بعد هزيمة هذين العهدين، الأول على أيدي الإنكليز، والثاني على أيدي الألمان، إلى العمل المشترك مع مجموعة الدول الأوروبية.

أمّا السببُ الثاني، وهو لبناني، فيتعلّقُ بتعاطي السياسيين اللبنانيين مع أزماتِ بلادهم، من حيث استدراج التدخّل الخارجي.

فقد كتب القنصل الفرنسي العام الذي خَدَمَ في بيروت أثناء الأزمة السياسية في العام 1913 يقول: “إنَّ الشعورَ بالتفاني من أجلِ الوطن الصغير لبنان غير موجود بين المسؤولين اللبنانيين. فكلُّ واحدٍ منهم مُستَعِدٌّ دائمًا، كما يقول المثل الدارج: أن يحرقَ البلد من أجلِ أن يُشعِلَ سيجارته”. (من كتاب جون سبانيولو “فرنسا ولبنان العثماني 1861- 1914″، إيثاكا، أُكسفورد 1992).

لكنَّ الفرنسيين في الحالة النابليونية، الأولى والثانية، كانوا يشعرون بالمسؤولية التاريخية تجاهَ المؤسّسات الدينية الكاثوليكية في لبنان، خصوصًا في المرحلةِ الثانية. أما في المرحلة الأولى فقد وَقَفَ حاكمُ جبل لبنان الأمير بشير الشهابي ضدّ حملة نابليون بونابرت في حصاره لمدينةِ عكا بسبب تحالفه آنذاك مع واليها أحمد باشا الجزّار.

وقد أبلغني الصديق الراحل الأب أديب بدوي، الذي كان رئيسًا للرهبانية المُخَلّصية الكاثوليكية، في وقتٍ من الأوقات، أنَّ الكنيسة الكاثوليكية أوفدت إلى مصر، أثناء وجود نابليون بونابرت فيها، راهبًا اسمه رافاييل راهبة، كان ضليعًا باللغات، ليعمل مُترجِمًا لقادة الحملة الفرنسية، وأنَّ ذلكَ الراهب عملَ مع العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبليون في فكِّ طلاسم الكتابة الهيلوغريفية الفرعونية، وهو الإنجازُ الذي أدّى إلى كتابة التاريخ الحقيقي لمصر الفرعونية وحضارتها.

وأضاف الأب بدوي: إنَّ ذلك الراهب وَضَعَ قاموسًا فرنسيًا-عربيًا مع قاموس لاتيني-عربي.

وعن المرحلة النابليونية الثانية، التي فيها جرى التدخّلُ الفرنسي المُنفَرِد في حرب جبل لبنان، تعرَّضَ دير المخلص إلى النهب والتدمير، وبعد وقف تلك الحرب أوفدت إدارة الدير بعض الكهنة إلى الخارج لجمع التبرّعات من أجل إعادة بنائه، فأخبرني الأب بدوي أنَّ بين هؤلاء كاهن كانَ شجيَّ الصوت يجيد الترتيل بصوتٍ عالٍ يُمكِنُ سماعه إلى مسافة كيلومتر، تم إيفاده إلى فرنسا لتلك الغاية.

في باريس قصد الكاهن اللبناني القصر الإمبراطوري طالبًا مقابلة الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث التي عُرِفَت بأعمالها الخيرية. لكنَّ الحرّاسَ منعوه من الدخول لأنّهُ لم يكن لديه موعدٌ رسمي، فخرجَ إلى الشارع ووقفَ على الرصيف وراحَ يَنشُدُ ويُرَتّلُ بأعلى صوته، فسمعت الإمبراطورة أوجيني تلك الألحان البديعة فسألت عن مصدرها، فقيل لها إنّهُ كاهنٌ كاثوليكي من لبنان طلبَ مقابلة جلالتك فمنعه الحرّاس من الدخول، فبعثت موظفًا في القصر ليأتي بذلك الكاهن إليها، فحكى لها عن مآسي الحرب والدمار التي لحقت بدير المخلّص، فتبرّعت بعشرين ألف ليرة ذهبية لإعادة إعمار الدير.

ففي ذلك الوقت، وبعد سقوط الدولة النابليونية الأولى، نشأت في أوروبا فكرة المؤتمرات الكبرى للدول الأساسية أشهرها ثلاثة: مؤتمر فيينا (1814- 1815)، مؤتمر باريس (1856)، ومؤتمر برلين (1878). ونشأت منها مؤتمراتٌ دولية صُغرى هي التي تعاطت بشأن المسألة اللبنانية.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: ferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى