لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (19): منَ “الحَربِ الشيعيّة” إلى “السلم الشيعي”!
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
في الرابع من كانون الثاني (يناير) 2023 قُتِلَ الجندي الإيرلندي شون روني، من قوّة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (“يونيفيل”)، وأُصيبَ ثلاثةٌ من رفاقِ سلاحه بجروح، عندما أَطلَقَ خمسةٌ عناصر من “حزب الله” النار عليهم، أثناء مرور سيارتهم المُدَرَّعة في منطقة “العاقبية” في الجنوب.
ومن غريبِ المُصادَفات أن يأتي الحادث في أعقابِ إشارتَين سياسيتَين لهما مدلولات تتعلّقُ بتدويلِ الأزمة اللبنانية المُستَعصِية: الأولى، فشلُ الفصل العاشر من مسرحيةِ انتخابِ رئيس للجمهورية في مجلس النواب، (15/ 9 / 2023) ومعها دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري للحوار بين القوى السياسية اللبنانية، والثانية، الإعلان عن زيارةٍ يُزمِعُ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان وصل إلى الدوحة في 14/ 12/2023 لحضور مباريات كأس العالم لكرة القدم التي تأهل فيها فريق بلاده للدور النهائي، القيام بها الى جنوب لبنان لتفقّدِ الكتيبة الفرنسية هناك ومُعايدتها بالميلاد ورأس السنة الجديدة. وتلك الزيارة هي أيضًا عنوانٌ من عناوين التدويل.
إنَّ وَضعَ حادث “اليونيفيل” تحت هذا العنوان يطرحُ بصورةٍ فورية السؤالَ المُحَيِّرَ حولَ إذا ما كان يستعجل التدويل للأزمة، أو يعرقله، سواء كان مُدَبَّرًا ومقصودًا، أو مُجرّد مُصادفة عرضية.
وَضعُ السؤال في هذا الإطار يدخلُ في جدليةِ التدويل والحرب، من حيث ازدواجية التفسير حول ما إذا كانَ دوامُ التدويل يَخدُمُ دوامَ الحرب، أم أنَّ دوامَ الحرب هو الذي يستدعي دوامَ التدويل.
ومن هذا المنظار، يُطلُّ مشهدٌ جديدٌ على المسرح الجنوبي، بعد اتفاق رسم الحدود البحرية، وما تتطلّبه عمليات التنقيب البحري عن الموارد الطبيعية من سلامٍ طويل الأجل. فإذا كانت حالةُ الحربِ السابقة لاتفاقية الحدود البحرية، قد انتفت مُبرّراتها، فلن تكونَ هناك حاجة إلى قوات دولية بعد استتباب السلام، كما تنتفي الحاجة الى سلاح “حزب الله”. وهذا سؤالٌ افتراضي يتبادرُ إلى الأذهان، من خلال طبيعة، أو أهميَّة ترسيم الحدود البحرية، لكون السبب المباشر للترسيم البحري هو تسهيل التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الحدودية مع إسرائيل، مما يتعارض مع استمرارِ حالةٍ من الحرب على مقربةٍ من تلك الحقول السريعة الاشتعال.
وهذه الجدلية، التي تبدو واقعية منطقيًا، فيها نوعٌ من الإشكالية بالنسبة إلى أهالي الجنوب الذين استفادوا اقتصاديًا لسنواتٍ طويلة من وجود قوات اليونيفيل، ومن وجود “المقاومة الإسلامية” أيضًا. لكن هذه الإشكالية تظهرُ بوجهها السلبي (كما لاحَ من خلال قرار “حزب الله” تسخين الجبهة الحدودية فور اندلاع حرب غزَّة)، من حيث الموازنة بين فوائد “السلام”، وكوارث الحرب. لأن الأبواق المعارضة للاشتباكات العسكرية في الجنوب، تُحاولُ قراءة هذا المشهد من خلال إظهارِ أنَّ حالةَ السلم والبحبوحة ترتَبِطُ بوجود قوات اليونيفيل، وأنَّ حالاتَ الخراب والدمار وارتفاع عدد الضحايا، تعودُ إلى تورّطِ “حزب الله” في الحرب، حتى لو كانت محدودة. ونقطةُ ضعف هذه المطالعة، أنّهُ لو صَحَّ الافتراض بأنَّ سلامًا ثابتًا يلوحُ في أُفُقِ تسويةٍ ما قريبة، فإنَّ الحالةَ الجديدة (أي حالة السلام الثابت) تُلغي الحاجةَ إلى قوّاتٍ دولية ومنافعها المحلية. ومع أنها، حسب هذا الافتراض أيضًا، تُلغي الحاجة إلى سلاح “المقاومة الإسلامية” (نظريَّاً)، فإنَّ ذلك لا يُلغي الحقيقة السياسية الداخلية المتمثّلة بقدرة “حزب الله” في حَشدِ مُكوِّنٍ لبناني أساسي لإحباطِ أيِّ محاولةٍ لتغييرِ موازين القوى الداخلية القائمة حاليًا.
وبالتالي، فإنَّ المُماطَلة في انتخابِ رئيسٍ للجمهورية، تُنبئُ بأنَّ أيَّ تسويةٍ دولية، أو إقليمية بغطاءٍ دولي، أو محلّية بغطاءٍ دولي-إقليمي، سوف تُعطي “حزب الله” (ثمنًا للسلام في الجنوب) وزنًا تقريريًا أكبر في الشأن الداخلي اللبناني.
إنَّ الانتقالَ من “حالةِ الحربِ الشيعية” إلى “حالةِ سلامٍ شيعي”، بكفالةٍ دولية وإقليمية، يُذَكِّرُني بمكتبي السابق في بيروت عندما عملتُ في مطبوعة “عالم النفط” في ستينيات القرن الماضي، فوَجَدتُ على الحائطِ صورةً لمَشهَدٍ من القرنِ التاسع عشر فيه ثلاثة رجال تحت شجرة سنديان كبيرة كُتِبَ تحتها العبارة التالية: “ترجمان من الموارنة واثنان من الشيعة”!
فالترجمان بطبيعة الحال يتكلّمُ لغةً أجنبية غير لغته، تكونُ الحاجةُ إليها أكبر في إطار التدويل الذي يشمُلُ لغاتٍ أجنبية مُتعدّدة.
ويخطرُ بالبال، من تلك الصورةِ القديمة التي تُمثّلُ زمنَ القناصل في مرحلةِ إرساءِ التدويل في أواخر سني السلطنة العثمانية، أنَّ نوعًا من “المُثالثة” يلوحُ في الأفق على قاعدة “واحد واثنان”.
وهذه أيضًا وصفةٌ لصيغةٍ جديدة للنظام اللبناني، تحملُ في طيّاتها بذورَ اضطرابٍ مُخلخلٍ للتوازنات القائمة، لأنها ستكون، بالضرورة، على حسابِ مُكَوِّناتٍ تأسيسية أُخرى للوجود اللبناني.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com