لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (15): حُكَّامُهُ أعداؤهُ
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
مُنذُ تسعينيات القرن الماضي ولبنانُ في محنةِ التيهِ وانسدادِ الأفق، فانطوَت السنوات على الأزماتِ المُفرِطة في التشابك، والعَصِيَّة على الحلّ، حتى تجاوزت مداها بدءًا من سنة 2015، وباتت البلادُ على خيطٍ رَفيعٍ من العَجزِ المُزمِن والاحترابِ الداخلي الساخِن.
وحقيقةُ القول، أنَّ ولاةَ الأمر الحاكمين، الذين هم من بقايا الميليشيات المُتناحِرة، غَيرُ مؤهَّلين، ولا قادرين، على معالجة هذه الأزمات المستعصية، ذلك أنّهم هم الذين تسبَّبوا بها.
ومِثالُهم مِثالُ أحدِ الولاةِ العثمانيين الذي أراد أن يُعَيِّنَ “ياورًا” لَهُ لا يكونُ من أبناءِ العائلات الغنيّة لئلا يسيء استخدام منصبه، فقرّرَ أن يُعَيِّنَهُ من أبناء العامة. فنزل الوالي إلى السوق ليبحث عن رجلٍ بشوش، صبوحِ الوجه، ذَربِ اللسان، فوجدَ ضالَّتَهُ في حَمَّالٍ (عتَّال) ظريف، محبوبٍ من جميع أهل السوق، فاستدعاه وأرسله إلى حمّامِ البخار لتطهيره من أوساخ العتالة، واشترى له ملابس قشيبة، فأصبحَ رجلًا آخر، وسلّمه منصبه الجديد بعدما درَّبه على مهامه المطلوبة، فبرَعَ في وظيفته، بحيث أنَّ الوالي عندما نُقِلَ من منصبه أوصى بتعيين ياوره واليًا مكانه.
وعندما صدر فرمان تعيينه واليًا انتقلَ إلى القصر حيث الخدم والحشم، انهالت عليه الهدايا والأموال، وحامَ حوله السماسرة، واللصوص، والمنافقون، يحاولون استدراجه إلى عمليات النهب والنهش، وتعليمه من أينَ تُؤكلُ الكتف!
وذات يوم جاءه قاضي القضاة زائرًا ليطَّلِع على أحواله، فوجده جالسًا في زاويةٍ من قاعةِ الاستقبالِ يجهشُ في البكاء، فقال له مُستَغرِبًا: “لماذا تبكي؟ ألا ترى العزَّ الذي أنتَ فيه؟ سلطةٌ، وأموالٌ، وقصورٌ، وخدمٌ، فماذا تُريدُ أكثر من ذلك؟”.
مَسَحَ الرجلُ دموعه ونظرَ إلى القاضي المطبوعِ على الفساد كما تَطبَّعَ هو، وقال له: “لستُ أبكي لا عليَّ ولا عليك. إنني أبكي على هذا الشعب المُغَفَّل الذي أنا واليه وأنتَ قاضيه”.
وهكذا أولياءُ الأمرِ في لبنان، يذرفون دموع التماسيح على أحوالِ الشعبِ المُتَدَهوِرة، وهم الذين تسبّبوا بها، لكنهم لا يعترفون بمسؤوليتهم وعدم أهليتهم، وليس في نِيَّتِهم معالجة أي أمر، بل هم عاجزون وقاصرون عن ذلك.
شعاراتهم المزعومة، لم يعد لها معنى لكثرة ما لاكتها الألسن، وأصبحت ممجوجة وفاقدة المعنى والصلاحية.
كلُّ يومٍ يُنادون بالتوافق كذبًا ونفاقًا، وبالوحدة الوطنية الوهمية، وبالميثاق الوطني المهلهل لكثرة الخروقات، وبالعيش المشترك الذي يسير في اتجاه التباعد، وبالشراكة الوطنية التي يفهمونها على أنّها مُحاصَصَةٌ واقتسامٌ للمغانم، وكذلك الأمر في كلِّ المجالات الأخرى، من الدستور والقوانين الهمايونية، البعيدة من المفاهيم العصرية للتقدّم، إلى أبسطِ المهامِ الإدارية.
إنَّ النظامَ السياسي للبنان، والتركيبةَ المُستَحكمة فيه، لا يُمكن أن يبقيا على ما هما عليه، لأنه من المستحيل إصلاحهما، أو حتى ترقيعهما.
لبنان القائم الآن هو فضيحةٌ عالمية، وسقوطُهُ يبدو محتومًا، والمصيبة إذا كان ذلك مُتَعَذِّرًا. فهو لن يستطيعَ أن يستمرَّ على هذا النحو، مغارة للصوص، وساحة مفتوحة للغرباء، والمهربين، والجواسيس، والمخرّبين، وملايين النازحين الذين لا أحد يعرف كيف دخلوا، ولا أحد يُفكّر بحلٍّ يسمحُ بإعادتهم من حيثُ أتوا.
الذين جعلوا أجمل الجبال مقالع وكسَّارات، وأحلى الأنهار العذبة المياه سواقٍ للمجارير والصرف الصحي، والشوارع النظيفة، أيام “بلدية بيروت الممتازة”، في عهود جاءت قبلهم، أصبحت مكبَّات للزبالة. بل إنَّ كلَّ البُنى التحتية التي هي من البديهيات في بلدانِ العالم المعاصر، باتت مُعطّلة أو مفقودة، من الكهرباء إلى المياه النظيفة، ومن الطرقات والمجاري إلى شواطئ البحر، إلى انعدامِ الرقابةِ على الأدوية والمواد الغذائية، إلى أوضاعِ الجامعة اللبنانية والمدارس الرسمية، وإلى جميع المرافق العامة من دون استثناء. فماذا يُمكِنُ أن يفعلَ أيّ عدوٍّ للبنان أفدح مما فعل به حُكّامه وولاة أمره؟
لبنان الذي كان مَضرَبَ المثل في الحداثة والإبداع والإشعاع قبل خمسين سنة، أُطفِئَت شعلته، وأُذِلَّ شعبه، وهو اليوم البلد الوحيد في العالم الذي عادت لتُفَرّخ فيه الأمراض السارية المُنقَرِضة، بسبب الفقر وانهيار الخدمات الصحية لعموم الناس، واختفاء الأدوية من الأسواق، وازدهار الأسواق السوداء، ورواج أعمال التهريب، وأي مجال آخر للكسب غير المشروع.
هذا ليس لبنان. ولن يكونَ إذا استمرَّ على هذا النحو. إنهم يقودونه في طريق الزوال، بينما المطلوب زوال الآفات الفاتكة فيه، وأوّلها الصيغة الكاذبة التي تحكمه وتتحكّم به.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com