لماذا لا يزال الشرق الأوسط بحاجة إلى أميركا؟
إنَّ المزيدَ من تقليصِ دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أمرٌ محفوف ٌبالمخاطر. من المُمكن أن تُصبِحَ هذه المنطقة الحرجة ولكنها غير مستقرة أكثر فوضوية وعرضةً للحروب، حيث تصبح الأنظمة المناهضة لأميركا أقوى وأكثر رسوخًا.
دانيال بايمان*
إذا كانَ هناكَ جانبٌ واحدٌ من السياسة الخارجية يشتركُ فيه الرؤساء الأميركيون باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن، فهو: رغبة الولايات المتحدة في مغادرة الشرق الأوسط. على سبيل المثال، تُرَكّزُ استراتيجية الأمن القومي لعام 2022 التي أقرّتها إدارة بايدن على “التهديد المُتَسارِع” الذي تُمثّله الصين، وتؤكّدُ بخلافِ ذلك على المنافسة بين القوى العظمى، وليس على المشاحنات في الشرق الأوسط. وعلى نحوٍ مُماثِل، أراد أوباما وترامب التركيز على آسيا وفصل الولايات المتحدة عن المنطقة. ويمتدُّ هذا الميل إلى ما هو أبعد من المكتب البيضاوي؛ فالكونغرس، على سبيل المثال، يواجه مشكلة في إقرار مشاريع القوانين التي من شأنها تقديم مساعدات عسكرية لإسرائيل، وهو أمرٌ كان من الممكن أن يكون في السابق أمرًا بديهيًا سياسيًا.
يُردّدُ قادةُ الولايات المتحدة المشاعر العامة: تُظهِرُ استطلاعات الرأي أنَّ الأميركيين يعتبرون الصين أكبر تهديد للولايات المتحدة، تليها روسيا وكوريا الشمالية. (بالكاد يتم ذكر إيران، على عكس ما كان عليه الحال قبل 15 عامًا، عندما كانت العدو رقم واحد). وقد وَجَدَ استطلاعٌ أجراه مركز “بيو” للأبحاث في العام 2019 أنَّ الأميركيين بغالبيتهم، بمن فيهم معظم المحاربين القدامى الذين شاركوا في الحربين في العراق وأفغانستان، يعتقدون أنَّ حرب العراق كانت “لا تستحق القتال”. في كانون الثاني (يناير) من هذا العام، بدا أنَّ مقتلَ ثلاثة من الجنود الأميركيين في الأردن على أيدي مجموعةٍ مدعومة من إيران يؤكّدُ صحة الرأي القائل بأنَّ ثمنَ الوجود الأميركي باهظٌ للغاية، مما يثيرُ تساؤلاتٍ حول ما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة الحفاظ على دورها ووجودها العسكري في المنطقة.
منَ السَهلِ أن نفهمَ هذه الشكوك. إنَّ الشرقَ الأوسط مُبتَلٍ بالمشاكل: الحروب الأهلية، والدِيكتاتوريات، والإرهاب، والمشاعر العميقة المُعادية لأميركا، على سبيل المثال لا الحصر. وفي مواجهة هذه التحدّيات، لا يبدو أنَّ سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة تُحقّقُ الكثير من النجاح – وهذا أقلّ ما يُقال. على مدى عقود، دعمت واشنطن عملية السلام الإسرائيلية-الفلسطينية التي توقّفت إلى حدٍّ كبير بعدَ بعضِ الإنجازات الأوّلية في التسعينيات الفائتة، بما في ذلك التوقيع على اتفاقيات أوسلو، والآن ماتت وسط الحرب في قطاع غزة. أدّى تغييرُ النظام في العراق بعد الإطاحة بصدام حسين في العام 2003 إلى ظهورِ الإرهاب وعدم الاستقرار. قبل وقت طويل من هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كانت الجماعات المسلحة المدعومة من إيران تُهاجِمُ بانتظام القوات الأميركية في العراق. ودولُ الشرق الأوسط، على الأقل في خطابها، ليست حريصة بشكلٍ خاص على بقاء الولايات المتحدة. وتتزايد الضغوط في العراق من أجل انسحابٍ أميركي كامل بعد اشتباك القوات الأميركية مع الميليشيات المحلية. وتدرس الولايات المتحدة أيضًا سحب قواتها من سوريا، مُعتَقِدةً أنَّ تنظيم “الدولة الإسلامية” صار ضعيفًا بما فيه الكفاية وتخشى وقوع خسائر محتملة من الهجمات التي تشنّها الجماعات الوكيلة لإيران.
هذا الشعور بالإرهاق عميق، على الرُغم من أنَّ الوجودَ العسكري الأميركي في الشرق الأوسط أصبح أقل بكثير مما كان عليه في الماضي. اليوم، لدى الولايات المتحدة نحو 45 ألف جندي في المنطقة، بما في ذلك حوالي 2500 جندي في العراق، و900 جندي في سوريا، وآخرون متمركزون في قواعد في دولٍ مثل البحرين وجيبوتي والأردن والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة. وقد تمَّ نشرُ حوالي 15 ألف جندي من هذه القوات في المنطقة كجُزءٍ من زيادة مؤقتة في أعقاب 7 تشرين الأول (أكتوبر)، والتي احتفظت قبلها الولايات المتحدة بحوالي 30 ألف جندي. وعلى الرُغمِ من ضخامة هذه القوات، إلّا أنها ُتمثّلُ جُزءًا صغيرًا من العدد الذي نشرته الولايات المتحدة في العام 2010، عندما كان لديها أكثر من 100 ألف جندي في العراق وحوالي 70 ألف جندي في أفغانستان، بالإضافة إلى عدد أكبر بكثير في البلدان المجاورة. وبحلول العام 2015، انخفضت هذه الأرقام، مع تراجع الوجود الأميركي في العراق وانخفاضه بشكل كبير في أفغانستان؛ انخفض الإجمالي أكثر بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان في العام 2021.
ومع ذلك، فإنَّ النظرةَ المتشائمة لسِجِلِّ الولايات المتحدة وآفاقها في المنطقة تغفل أو تتجاهلُ الإنجازات الأميركية المهمّة، وإن كانت أقل دراماتيكية، في الشرق الأوسط. على الرُغم من أنَّ هذه النتائج أقل وضوحًا ويُمكِنُ أن يكونَ من الصعبِ قياسها كَمّيًا، فإنَّ الوجودَ العسكري الأميركي القوي يمنعُ مجموعةً متنوِّعة من الإجراءات من قبل الخصوم والحلفاء والتي قد تجعل المنطقة أقل استقرارًا وتُوَلّدُ المزيد من الصراعات الأهلية، والانتشار النووي، والتدخّلات الخطيرة، وغيرها من التهديدات الجسيمة. ولذلك فإنَّ الحفاظ حتى على وجودٍ عسكريٍّ أميركي محدود يُعَدُّ أمرًا حيويًا للتخفيف من هذه المخاطر، حتى لو استمرت الولايات المتحدة في التقاعس عن تحقيق أهدافها الإقليمية الطموحة.
إنطلق بينما يكون الأمر سيئًا
هناكَ حجّةٌ مُقنِعة لمُغادرةِ الشرق الأوسط – أو على الأقل الحَدّ من مشاركة الولايات المتحدة، خصوصًا في ما يتعلق بوضعها العسكري. تتكبّدُ القوات الأميركية في المنطقة عددًا صغيرًا ولكن ليس قليلًا من الضحايا كل عام. في العقد الماضي، فقدت الولايات المتحدة أكثر من 140 جنديًا في عملياتٍ في أفغانستان والعراق وسوريا – غالبيتهم في أفغانستان. على الرُغم من أنَّ عمليات الانتشار الأميركية في العراق وسوريا اليوم صغيرة إلى حدٍّ ما، إلّا أنَّ الجنودَ مُعرَّضون دائمًا لخطر الهجمات الصاروخية والطائرات المُسَيَّرة من القوات المدعومة من إيران، وبدرجةٍ أقل، من الجماعات الأخرى المُناهضة لأميركا، مثل تنظيم “الدولة الإسلامية”، المعروف ب”داعش”.
بالإضافة إلى رغبتها في تجنّبِ هذه الخسائر البشرية، تتعرّضُ الولايات المتحدة لضغوطٍ لاستخدامِ مواردها في أماكن أخرى. لقد سلّطَ الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022 الضوءَ على التهديدِ الذي تُشَكّله موسكو على الأمن الأوروبي وأمن الغرب بشكلٍ عام. إنَّ المجهودَ الحربي الأوكراني بحاجةٍ ماسة إلى الذخائر والأنظمة العسكرية الأميركية الحديثة. وقد سعى العديد من الإدارات الأميركية إلى التركيز على الصين، حيث يتطلّبُ أيُّ صراعٍ أعدادًا كبيرة من القوات وأنظمة دفاع جوي ومراقبة وأسلحة متطورة نظرًا لقوة الصين العسكرية القوية والمتنامية. إنَّ تحويلَ حاملات الطائرات لردع إيران، والذخائر لمساعدة إسرائيل في قصف غزة، والسفن الحربية للحماية من صواريخ الحوثيين في البحر الأحمر، والقوات وأصول المراقبة للمساعدة في قتال تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق وسوريا، يمكن أن يترك القوات الأميركية وحلفاءها في أجزاء أخرى من العالم أكثر عرضةً للعدوان الاستبدادي.
من خلال تقديم هذا الدعم، تفترض الولايات المتحدة درجةً من التواطؤ في أفعال حلفائها. يُعتَبَرُ الشرق الأوسط موطنًا للعديد من الأنظمة التي تتراوحُ سجلّاتها في مجالِ حقوقِ الإنسان من مقبولةٍ إلى حدٍّ ما (المغرب) إلى سيئة للغاية (المملكة العربية السعودية). وتساعد الولايات المتحدة على ضمان أمنها، ومن خلال قيامها بذلك، تُسَهّلُ الوضعَ الراهن غير الديموقراطي. عندما شنّت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة حربهما الكارثية في اليمن في العام 2015، استخدمتا الذخائر وأنظمة الأسلحة الأميركية في هجماتهما. وكانت أميركا منذ فترة طويلة شريكاً لا يتزعزع لإسرائيل، وهو الموقف الذي يحظى بشعبية كبيرة في الداخل ولكنه لا يحظى بشعبيةٍ في معظم أنحاء العالم، وخصوصًا بعد أن بدأت إسرائيل حملتها العسكرية المُدمّرة في غزة، والتي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 30 ألف شخص حتى الآن.
ولعلَّ الأمرَ الأكثر إثارةً للدهشة هو أنَّ الولايات المتحدة لا يبدو أنها تكسَبُ الكثير من جهودها. تتجاهل الدول الإقليمية مخاوف واشنطن بشأنِ حقوقِ الإنسان ومُطالباتها بالإصلاح الاقتصادي. في شباط (فبراير)، دعت إدارة بايدن إلى استعادة عملية السلام الإسرائيلية-الفلسطينية وطلبت من إسرائيل السماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة، لكن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رفضت ذلك في كلا الحالتين. وبالمثل، لم تُغيِّر الضربات الأميركية على اليمن سلوك الحوثيين، حيث واصلت الجماعة هجماتها بالصواريخ والطائرات المُسَيَّرة ضدّ السفن التجارية.
الاستفادة من النجاح
إنَّ تصوّراتَ الفشل هذه ليست خاطئة، لكنها ترسمُ صورةً غير مُكتَمِلة. لم تُحقّق الولايات المتحدة السلام في المنطقة، أو حوّلت الديكتاتوريات إلى ديموقراطيات، أو حوّلت منطقة مُضطَرِبة دائمة إلى منطقة سلام؛ لكن الوجود الأميركي، بشكلٍ عام، ساعَدَ على الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة ومصالح حلفائها.
وتُوَضِّحُ الحربُ الحالية في غزة هذا السجل المُختَلط. تستمرّ الحرب، ويُعاني الفلسطينيون معاناةً هائلة. لكن عدد القتلى المدنيين انخفض مع قيام الولايات المتحدة بالضغط علنًا وسرًّا على إسرائيل لتقليلِ عددِ الضحايا وسط ردِّ فعلٍ دولي عنيف. وتُشيرُ بيانات الأمم المتحدة إلى أنَّ عددَ الفلسطينيين الذين يموتون كل يوم في غزة قد انخفض بمقدارِ الثلثين منذ أواخر تشرين الأول (أكتوبر): لا يزال عدد القتلى من غير المقاتلين مُرتفعًا للغاية، ولكن يبدو أن الضغط الأميركي قد غَيَّرَ مسارَ الاستراتيجية الإسرائيلية، حتى لو كان من الناحية الوظيفية قليلًا جدًا ومتأخّرًا جدًا.
كانت جهود الولايات المتحدة حاسمة أيضًا في منعِ نشوبِ حَربٍ إقليمية واسعة النطاق. بعد أسابيع من 7 تشرين الأول (أكتوبر)، منعت إدارة بايدن إسرائيل من شنِّ حربٍ وقائية ضد قوات “حزب الله” في لبنان، وهي ضربة كان من شأنها أن تُوَسِّعَ بشكلٍ كبير نطاق وحجم الصراع الحالي. إنَّ “حزب الله” خصمٌ أقوى بكثير من “حماس”. لدى الجماعة اللبنانية آلاف المقاتلين المسلحين والمُدَرَّبين من قبل إيران وحوالي 150 ألف صاروخ وقذيفة، ما يجعلها قادرة على ضرب إسرائيل بأكملها والتغلّب على أنظمة الصواريخ الإسرائيلية (القبة الحديدية). فضلًا عن ذلك فإنَّ الحربَ بين إسرائيل و”حزب الله” من المرجح أن تدفع لبنان، الذي يعاني بالفعل من حالة من الفوضى الاقتصادية، إلى الهاوية، وهو ما من شأنه أن يحوله إلى دولة فاشلة حقًا.
كما تحرّكت إدارة بايدن لرَدعِ إيران، راعية “حزب الله”، عن استغلال الصراع الحالي. بعد وقتٍ قصير من 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أرسلت الولايات المتحدة حاملتَي طائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط وحذّرت طهران من تصعيد التوترات مع إسرائيل. كما هاجمَ بايدن أيضًا وكلاء إيران ردًّا على الهجمات على القوات الأميركية في المنطقة. وقد ساهمت هذه الضمانات والموقف العسكري المُعَزَّز في ردع إيران – في الواقع، بعد الضربة الأميركية الانتقامية على الميليشيات في العراق وسوريا، طلبت طهران من الجماعات الوكيلة لها في المنطقة تقليص هجماتها، خوفًا من إشعالِ حربٍ واسعة النطاق مع الولايات المتحدة. وعمل موقف بايدن أيضًا على طمأنة إسرائيل بأنَّ الولايات المتحدة تدعمها، مما يمنحها الثقة بعدم مهاجمة يائسة من قبل إيران.
كما حقّقَ الردُّ الأميركي على هجماتِ الحوثيين في البحر الأحمر بعض النجاحات. تعملُ الولايات المتحدة، التي تقودُ تحالفًا يضمُّ أكثر من 20 دولة، على حماية ممرّات الشحن الحيوية من خلال إسقاط الطائرات المُسَيَّرة والصواريخ الحوثية ومحاولة وقف الهجمات التي تنطلق من اليمن. فمن ناحية، لم تمنع الضربات الأميركية الحوثيين من مواصلة مهاجمة السفن التجارية في مضيق باب المندب. لقد أدت هجماتهم إلى إتلاف العديد من السفن؛ وأسفرت عن سقوط ضحايا، من بينهم ثلاثة بحارة يعملون على متن ناقلة بضائع مملوكة لليبيريا؛ ودفعت العديد من السفن إلى التحوّلِ إلى المسار الأطول بكثير حول رأس الرجاء الصالح، وهو الانعطاف الذي يؤدّي إلى ارتفاعِ تكلفة التجارة العالمية. ومن ناحية أخرى، فإنَّ وجودَ قوة العمل التي تقودها الولايات المتحدة يعني أنَّ بعضَ عمليات الشحن يُمكِنُ أن يَستَمِر؛ وفي المتوسط، لا يزال أكثر من مليون طن متري من التجارة يعبرُ المَضيق كل يوم. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية بشكلٍ خاص لاقتصادات مصر والأردن، وكذلك إسرائيل، التي تعتمد بشكل كبير على موانئ البحر الأحمر. والأهم من ذلك، أن إدارة بايدن وقفت دفاعًا عن مَبدَإِ حرية البحار، وأوضحت للمُعتَدين المُحتَمَلين الآخرين أنَّ الولايات المتحدة ستردُّ على محاولاتِ تعطيلِ التجارة وستحمي المصالح الاقتصادية للحلفاء عندما تتعرّض للتهديد.
تمتدُّ الآثار الإيجابية لوجود الولايات المتحدة إلى ما هو أبعد من الجولة الأخيرة من الصراعات. تتمتّعُ إيران بنفوذٍ هائل في العراق، لكن هذا النفوذ سيكون أقوى بدون وجود قوات أميركية لمعادلته. وفي العراق وسوريا، تعمل القوات الأميركية مع الحلفاء المحلّيين لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”. وبدون توفير الولايات المتحدة المعلومات الاستخباراتية والتدريب والقوة النارية لحلفائها، سيكون تنظيم “الدولة الإسلامية” أكثر قدرة بكثير على إعادة تجميع صفوفه، وهو ما سيسمح له باكتساب المزيد من النفوذ المحلي وزيادة قدرته على شنِّ هجماتٍ إرهابية دولية.
تمَّ تجنُّبُ كوارث؟
إنَّ أهمَّ عواقب الوجود الأميركي الدائم في الشرق الأوسط هي الأحداث الخطيرة التي لا تحدث لأنَّ الولايات المتحدة لا تزال هناك. قد تهاجم إيران، على سبيل المثال، الشحن في مضيق هرمز، حيث يمر حوالي 20% من استهلاك النفط العالمي، كوسيلة للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة في نسخة أكثر أهمية بكثير مما يفعله الحوثيون في مضيق باب المندب. وقد تؤدي مثل هذه الهجمات إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية بشكل كبير، ما قد يدفع العالم إلى الركود. في الوقت الحالي، فإنَّ احتمال قيام الولايات المتحدة بمهاجمة إيران وفتح المضيق بالقوة يجعل هذا الاحتمال محفوفًا بالمخاطر للغاية بالنسبة إلى طهران – كما تعلمت إيران بالطريقة الصعبة خلال الحرب الإيرانية-العراقية في الثمانينيات، عندما حاولت مهاجمة سفن الشحن وخسرت سفنًا ومنصّات النفط لردٍّ عسكري بقيادة الولايات المتحدة. إن الضربات التي شنتها إدارة بايدن على الحوثيين تجعل التحذيرات الأميركية بشأن مضيق هرمز أكثر مصداقية.
في غياب القوات الأميركية، ستكون طهران أكثر حرّيةً في إثارةِ عدمِ الاستقرارِ الإقليمي أو شَنِّ العدوان على الدولِ المُنافِسة، مثل الإطاحة بحكومةِ البحرين وتثبيت نظامٍ يقوده الشيعة الموالي لإيران، كما حاولت أن تفعلَ في الماضي. ومن المرجح أيضًا أن تقومَ إيران ببناء أسلحةٍ نووية، مُعتَقِدةً أنها لن تدفعَ ثمنًا باهِظًا إذا تقدّمت في أنشطتها الحالية لتخصيب اليورانيوم نحو إنتاج الأسلحة. وحتى لو وضعنا مثل هذه السيناريوهات الجذرية جانبًا، فمن دون وجود عسكري أميركي لموازنتها، يمكن لإيران مواصلة توسيع نفوذها في الدول المجاورة مثل العراق، بهدف تحويله إلى دولةٍ تابعة.
وقد يرد الحلفاء أيضًا على تخلّي الولايات المتحدة عن المنطقة بطُرُقٍ خطيرة ومُنهِكة للذات. من دون ضمانات أمنية أميركية موثوقة، يمكن لإسرائيل -التي أصبحت الآن جريحة وشديدة الحساسية تجاه أيّ تَهديدٍ مُحتَمل- أن تُقنِعَ نفسها ليس فقط بمهاجمة “حزب الله”، بل أيضًا بشنِّ هجومٍ تقليدي على البرنامج النووي الإيراني، وهو ما قد يدفع إيران والجماعات المسلحة التي تقودها إلى الردِّ بكامل قوتهما. بما في ذلك هجمات إرهابية. وقد يرغب الحلفاء الآخرون الذين يقعون حاليًا تحت المظلة الأمنية للولايات المتحدة، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، في تولي الأمن بأيديهم – بما في ذلك من خلال محاولة بناء سلاح نووي، أو مجرد شرائه.
ومن الممكن أن تُصبِحَ سياسةُ إسرائيل الخارجية أسيرةً لسياساتها الداخلية المُنقَسِمة. لقد استخدم القادة الإسرائيليون منذ فترة طويلة الضغط الأميركي كذريعةٍ للتقاعس عن العمل على الجبهتين المحلية والدولية، قائلين للناخبين اليمينيين أنهم كانوا سيهاجمون إيران أو يضمّون الضفة الغربية لولا اعتراضات واشنطن؛ وهو عذرٌ قبله المُتَشَدّدون الإسرائيليون إلى حدٍّ كبير نظرًا لأهمية العلاقة الأمنية بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ومن دون هذه الضغوط الخارجية، قد يستسلم القادة الإسرائيليون لتأثير اليمين المتطرّف الصاعد ويتحرّكوا لضَمِّ الضفّة الغربية، أو استعادة المستوطنات في غزة، أو اتّخاذ خطوات تحريضية أُخرى من شأنها أن تؤدّي إلى تفاقُم التوتّر الإقليمي.
ستكونُ للانسحابِ الأميركي من الشرق الأوسط أيضًا عواقبٌ على أجزاءِ أُخرى من العالم، مثل آسيا وأوروبا، والتي تُمثّلُ أولوية أكبر للكثيرين في واشنطن القلقين من العدوان الصيني والروسي. إنَّ الحلفاءَ في منطقة ما يُدركون سلوكَ واشنطن في مناطق أخرى من العالم. على سبيل المثال، طمأن الدعم الأميركي لأوكرانيا العديد من الذين يخشون الغزو الصيني لتايوان. وعلى النقيضِ من ذلك، فإنَّ إظهارَ الضُعفِ يُشَجّعُ المُعتَدين. إذا فشلت الولايات المتحدة في الوقوف إلى جانب حليفٍ لها في الشرق الأوسط في حالةِ عدوان إيراني أو أيِّ هجومٍ عسكري، فإنها ستُرسِلُ رسالةً إلى حلفاء الولايات المتحدة الآخرين منذ فترة طويلة في جميع أنحاء العالم مفادها أن الولايات المتحدة قد لا تدافع عنهم في حالة تعرّضهم لهجوم.
في الواقع، قد يؤدّي انسحابُ الولايات المتحدة من المنطقة إلى خلقِ فراغٍ في السلطة قد تستغلّه الصين أو روسيا أو غيرهما. وسوف تسعى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولٌ أخرى إلى رَدعِ إيران، واحتواء الجماعات الإرهابية، ودرء التهديدات الأخرى – وإذا لم تتمكّن الولايات المتحدة من تقديم المساعدة والضمانات الأمنية بشكل موثوق، فإن هذه الدول ستبحث عن ذلك في أماكن أخرى. إنَّ مغادرة الشرق الأوسط يفتحُ الطريقَ أمام هذه القوى الاستبدادية المُتنافسة لزيادة نفوذها، الأمر الذي من شأنه أن يُشَكِلَ انتكاسةً كبيرةً في سياقِ المنافسة بين القوى العظمى (القلقُ المُحَفِّزُ لبعضِ مُنتقدي التدخّل الأميركي في الشرق الأوسط).
من المستحيل قياس مثل هذه الحقائق المُضادة، وبطبيعة الحال لن تتحقق هذه السيناريوهات الخطيرة كلها. ولكن يكفي أن تحدث أزمة واحدة حتى تكون كارثية لكلٍّ من المنطقة وواشنطن، ناهيك عن العدد الذي لا يُحصى من الأزمات التي لا يمكن تصوّرها والتي يُمكِنُ أن تتكاثرَ وتتوالد إذا قررت الولايات المتحدة مغادرة الشرق الأوسط.
أهمية الحفاظ على بقاء عسكري على الأرض
من المُغري أن ننظُرَ إلى الدورِ الأميركي في الشرق الأوسط ونرى الإخفاقات فقط، لأنَّ هناكَ الكثير منها. ومع ذلك، وسط هذه الإخفاقات هناك نجاحات، كبيرة وصغيرة. إنَّ العديدَ من الإنجازاتِ الأكثر أهمية تنطوي على مَنعِ الكوارث التي لم تحدث أبدًا بسبب الوجود الأميركي: إنجازات حيوية، لكنها إنجازاتٌ يصعبُ التباهي بها.
يجب أن يكون لدى صناع القرار والجمهور على حد سواء توقّعات واقعية حول ما يمكنُ أن تُحَقّقهُ الولايات المتحدة في المنطقة في السنوات المقبلة. فمشاكلها كبيرة، والعداوات عميقة، وقد تَقلَّصَ الوجودُ الأميركي بشكلٍ ملحوظ في العقد الماضي. ومع ذلك، فإنَّ المزيدَ من تقليصِ دور الولايات المتحدة أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر. من الممكن أن تُصبِحَ هذه المنطقة الحرجة ولكنها غير مُستَقِرّة أكثر فوضوية وعرضةً للحروب، حيث تصبح الأنظمة المُناهضة لأميركا أقوى وأكثر رسوخًا. إنَّ الوجودَ الأميركي المحدود، رُغمَ كل مشاكله، أفضلُ من عدمِ وجودِهِ على الإطلاق.
- دانيال بايمان هو مدير برنامج الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون وزميل أول في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @dbyman
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.