الصَبرُ الاستراتيجي

رشيد درباس*

أُطاعِنُ خَيْلاً مِنْ فَوارِسِها الدَّهْرُ
وَحيداً وَما قَولي كَذا وَمَعي الصَّبْرُ
(المتنبي)

في نهاية شهر أيلول (سبتمبر) من العام 1938، وَقّعَ رئيس وزراء بريطانيا “نيفيل تشامبرلين”، ورئيس وزراء فرنسا        “إدوار دالادييه” في ميونيخ تنازلاتٍ لأدولف هتلر أقرَّا له فيها احتلاله أراضي (السوديت) في تشيكيا، ظنًّا منهما أنّهما بهذا يتلافيان اندلاع الحرب ويُسكِتان الشهيّة النازية، فإذا بالعالم يصحو بعد ذلك على غزو تشيكوسلوفاكيا فبولندا بالتواطؤ مع “جوزيف ستالين” الذي ناله نصيب من الأرض البولندية مُتَوَهّمًا بذلك أنه أمَنَ شرَّ هتلر. استقال “تشامبرلين” من رئاسة الحكومة، وتولّى بعده “ونستون تشرشل” الذي رفض محاولات وزير الخارجية “اللورد هاليفكس” التوسّطَ مع “هتلر”، من خلال “موسوليني”، فوقفَ في مجلس العموم وباغت الحضور بأنه ذاهبٌ إلى الحرب، طالبًا من البريطانيين التحلّي بالصبر الاستراتيجي ومُصارِحًا إياهم بأنه لا يستطيع أن يَعِدَهُم إلّا بالدمار والدموع والدم والجوع، ثمَّ شَفَعَ ذلك بالتأكيدِ على النصرِ الباهظ الثمن. تطوّعَ في الجيش مَن تَطَوَّع، وانخَرَطَ العمّالُ والمهندسون في تشغيلِ المصانع لإنتاج الأسلحة، وانصرَفَ الفلّاحون إلى مكابدةِ الأرضِ لتأميِن الحدِّ الأدنى من أسبابِ العيش، فيما حافظت المؤسّسات البريطانية، ولا سيما المرفق القضائي، على انتظامِ أدائها الجيّد.

الأمرُ ذاته حدثَ مع “ستالين” الذي فوجئ بعملية (بربروسا) عندما اجتاح الجيش النازي الأراضي السوفياتية ووَصَلَ إلى مشارف موسكو. حينذاك، أكَّد له “غيورغي جوكوف” قائد جيوشه أنَّ الغزاةَ سيُهزَمون، فجَرَت تعبئة الشعوب السوفياتية، وراحت المعامل الحربية تضخُّ الدبابات إلى ساحات المعارك بوتيرةٍ مُدهشة، فكانت نتيجة الحرب العالمية الثانية في المملكة المتحدة والاتحاد السوفياتي كما تعلمون. هذان مثلان من التاريخ القريب عن مقدرة الشعوب على الصمود في وجهِ آلةٍ عسكرية مُتَوَحِّشة، تُحرّكُها الأطماع وتَشحَنُها الأفكار العنصرية والاستعلاء العرقي.

ومما لا شكَّ فيه أنَّ النموذجَ الصهيوني له صلةُ نَسَبٍ بالأفكارِ النازية، لأنَّ “شَعبَ الله المُختار” يُسَوِّغُ لنفسه الاحتلال والتشريد والقتل والاستيطان، كما سَوَّغَ “هتلر” للعنصر “الآري” مثل هذه الأفعال، مع فارقٍ واحد، أنَّ العالمَ اتَّحَدَ في وجه المحوَر، بينما تتطوّعُ القوة العظمى اليوم لرعاية وحماية وتشجيع تلك الدولة الصغيرة على الازدراء بالعالم كله وبشرعةِ حقوقِ الإنسان وبالمنظّمات الدولية، وذلك بتسخيرِ آلةِ الحَربِ الأميركية، في إمرةِ القطعان المستذئبة، التي لوّنت أرضَ فلسطين بأحمرَ أزليٍّ لن يسقطَ من ذاكرة البشرية. لم تقم النازية بما قام به الصهاينة، دولةً وحكّامًا، ونوابًا، بسجن خمسة ملايين إنسان، وتشريد مليوني نسمة، بعد تدمير بيوتهم، ثم استدراجهم إلى أفخاخِ الطعام، بعد تجويعهم، فإذا ما اجتمعوا أطلقوا عليهم المدفعية كأنهم يصيدون الحمام بعد إغرائه بحبات القمح. ولن تستطيعَ إسرائيل أن تُبَرِّرَ ما تقوم به بحجّة الدفاع عن الذات، بعد أن أمعنت في انتهاك الذات الفلسطينية، على مدى قرن، وها هي الآن تسعى لتفريغ الأرض كلها بالمذبحة والتدمير والتهجير والتجويع ومنع الماء كما فعل جنود يزيد في كربلاء.

إنَّ الاجتياحَ غير المُبَرَّرِ الذي تشنّهُ إسرائيل على سجن قطاع غزة المُحاصَر، أدّى إلى أنَّ القلّة من اليهود والفلسطينيين الذين آمنوا حتى الآن بحلٍّ ما على أساسٍ من الحياة المُشتركة، تلفظ أنفاسها الأخيرة أو تكاد، لأنَّ إسرائيل لا تؤمن بإمكانية السلام إنطلاقًا من الشراكة بين الشعوب، وما يُشَجِّعها على هذا أنها لم تزل مربى دلال الدول التي تُساندها  وتمدّها بأسبابِ القوة وتحميها من القرارات الدولية، كما يُشجّعها أيضًا، أنَّ الشعبَ الفلسطيني الذي هو أصعب شعوبِ التاريخ، والذي يضرب المثل بصبره الاستراتيجي، يُعاني الآن، وفي أعلى ذروات الخطر، من الخطاب التنابذي بين منظمة التحرير وحركة “حماس”، فيما لا مجال للحديث عن جنس الملائكة، فالكلامُ عن الموتى صار الآن من الماضي، والاهتمام كله ينصبُّ على مَن تبقّى من الأحياء الذين ينتقلون من مكانٍ إلى آخر، فكلّما تجمَّعوا قُصِفوا وقُتلوا، على حدِّ تعبير الزعيم المعارض الفرنسي “جان-لويس ميلنشون”، الذي يرى أيضًا أنَّ كلَّ ساكتٍ عن هذه المجزرة الرهيبة مُجرِمُ حرب، وكل بحّارةِ سفينة تنقل السلاح إلى إسرائيل مجرمو حرب بحقِّ الأطفال الذين فقدوا لمسات الحنان، فالأبُ مات والأمُ ماتت، والجدُّ والجدة كذلك، كلهم ماتوا، قالها ميلنشون وهو يجهش بالبكاء. وعلى هذا، فإنَّ المسألة التي تسقط أمامها المقولات والنظريات، ليست في حلِّ الدولتين، أو تحرير كامل التراب بل بالموقف المُوَحَّد الذي من شأنه استقطاب مزيدٍ من الحلفاء لإحباطِ ما يَعُدُّ له “نتنياهو” من خططٍ لإغلاقِ قضية فلسطين إلى الأبد.

وعلى هذا أرى أن أعلى أشكالِ الصبر الاستراتيجي هو صبرنا على أنفسنا، وتأجيل صراعاتنا من أجل البقاء واكتساب الأصدقاء.

وعلى قدم المساواة، لفتني منذ أيام أن سماحة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، آية الله علي خامنئي، أوصى المقاومة الإسلامية في لبنان بالصبر الاستراتيجي أيضًا، وهذه وَصِيّة لا ينبغي أن تُحْمَلَ إلّا على  محملها الواسع، وأول الصبر هنا هو استعادة وحدة الكلمة أو التفاهم على القواسم المشتركة، إذ من غير المعقول أن نَتَّقي الإجرام الصهيوني “بقواعد الاشتباك” وتجنّب استعمال الهواتف والإبقاء على خطابٍ خلافي، فيما تمتلىء الشاشات بالحديث عن طلاقٍ ما، وفيدراليةٍ ما، وتنصُّلٍ ما من عداوة إسرائيل؛ إنَّ النموذجَ اللبناني هو ما يمضُّ الصهاينة، فهل نخدم أهدافهم بتمزيقه واستعادة لغة الحرب الأهلية، والتهديد والكراهية؟؟

إنَّ الصبرَ الاستراتيجي يعني في ما يعنيه، أن يكونَ للدولة رأس، وحكومة وبرلمان من نواب محترمين، وقضاء يشبه أصله لا بعض فرعه، ومرفَأ ومطار وكهرباء، وعملة مستقرّة، ومصارف، ومرافق تستطيع أن تستوعبَ العدوان وتُعالِجَ آثاره. وهو لا يُحَدُّ بالقدرة على تحمل الآلام وحسب، بل بالانتصار عليها وتخطّيها إلى النقاهة  فالصحّة، وهو يعني أنَّ كلَّ شهيدٍ سقطَ في الجنوب له مجالس عزائه في الوطن، وكلَّ بيتٍ يُدَمَّر، تهتز له أركان البيوت حتى آخر قرية في عكار؛ إنَّ إسرائيل تتحدّثُ عن منطقةٍ حدودية منزوعةِ السلاح، ولكن هدفها هو منطقة منزوعة السكان، من خلال التدمير المنهجي الذي أرتنا عنه مثالًا في غزة، وهي تُهَجِّر القرى تباعًا وتحرق الزيت في حباته، وتخنق العطر في أكمام الزهر وتُسَمِّمُ النهر، لأنها ذاتٌ سامةٌ لا ترياق لها سوى وَعينا وتفاهمنا على وحدة الدولة والشعب.

يبقى أن أشيرَ إلى أنَّ دولة سوريا، وهي من صميم محور الممانعة، لا تشتركُ في الصراع، لأنها تتعرّض للعدوان الإسرائيلي اليومي المؤلم والمُهين، وكذلك الحشد الشعبي في العراق انطوى بشكلٍ أو بآخر تحت لواء الحكومة المركزية، بينما يقوم “أنصار الله” في اليمن بمحاولة إخراج البحر الأحمر ومضيق باب المندب وقناة السويس من سجل الملاحة الدولية، فكيف تستقيمُ الأمور إذا اقتصرت المُمانعة على دولتَين تكابدان الانقسام الداخلي، والهشاشة الاقتصادية والسياسية، فيما تقف إيران والعراق وسوريا في برزخ المفاوضات أو المراقبة والانتظار وإسداء النصيحة؟

لقد نجحت إسرائيل في تلافي تكرار ما حدث في حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 من تضامنٍ عربي وأفريقي، بتوسّلِ الاتفاقات المنفردة وتحييد بعض الدول العربية، فأتاح لها ذلك الاستمرار في الحرب الطويلة، مُطمَئنةً إلى أنَّ مشاهدَ المجزرة تراها عيونٌ زُجاجية تخلّت عن البياض والسواد والشبكية المُتَّصِلة بالقلوب والضمائر. لكنها بوغِتَت بجنوب إفريقيا تستدعيها إلى محكمة العدل الدولية لمحاكمتها ومحاكمة شركائها من مجرمي الحرب، وتستصدر من أعلى محكمة في العالم، قرارًا قرينة بحق الفضيحة الإنسانية التاريخية التي لم تزل مستمرة ومعروضة على شاشات الوجدان العام.

تحية ” للزنوجة” المظلومة التي تُسَلّطُ الضوءَ على البياضِ الكاذب الظالم، وتحية “لرأس الرجاء الصالح” الذي فقأ العيون الزجاج وبَيَّنَ للعالم أجمع معنى الصبر الاستراتجي المُمتَد من عهد النبي أيوب إلى عهد ” نلسون منديلا”.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى