لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (10): “غرنيكا المُخَلَّدة” و”الدامور المَنسِيَّة”

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

مجزرة غرنيكا: رسمها بابلو بيكاسو وخلّدها.

سليمان الفرزلي*

المُقارناتُ والمُفارَقاتُ بين حَربِ الإسبان الأهليّة وحَربِ اللبنانيين لا تنتهي.

وقد يكونُ تَدميرُ بلدة “غرنيكا” (Guernica)، في إقليم الباسك، يتساوى في الفعلِ والنتيجةِ مع تَدميرِ بلدةِ الدامور الساحلية في الشوف اللبناني. والبلدتان، إلى ذلك، تتساويان أيضًا في الحَجمِ والمَكانَةِ الاستراتيجية.

في ليلة 26 نيسان (إبريل) من العام 1937 قامت أسرابٌ من سلاحِ الجوِّ الألماني النازي، مع مشاركةٍ من سلاحِ الجوِّ الإيطالي الفاشي، بغاراتٍ مُتواصِلة على بلدةِ “غرنيكا” الإسبانية فدمَّرَتها تدميرًا كاملًا، وقتلت أكثر من ألفٍ من سكانها، وتركتها قاعًا صفصفًا. ذلك أنَّ “غرنيكا” كانت مَعقلًا جمهوريًا تتحكّمُ بالاتصالات والمواصلات اللازمة للجمهوريين مع الخارج. وإزالة تلك البلدة من الوجود مكَّنت “كتائب” الجنرال فرانكو من السيطرة على مدينة بيلباو القريبة، وتاليًا على شمال إسبانيا بكامله. وقد أنكرَ فرانكو قيامَ الطيران الألماني النازي والإيطالي الفاشي بتدمير البلدة، ونسبَ ذلك إلى القوات الجمهورية التي زَعَمَ أنها دمّرتها وهي تنسحبُ منها. وبقيت هذه القصة مَكتومَةً ومُلتَبِسَةً على الصعيدِ الرسمي، إلى أن اعترفت بذلك الحكومة الإسبانية في العام 1999، أي بعد مَضيِّ 62 سنة على تلك الواقعة.

أمّا بلدة الدامور اللبنانية، وسكانها جميعًا من المسيحيين، فهي أيضًا في موقعٍ استراتيجي يَتَحَكّمُ بالمواصلات بين بيروت والجنوب، وبين الساحل والجبل، وتقع في منطقة نفوذ الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، قائد الحركة الوطنية، المُتحالفة مع قوى الثورة الفلسطينية. وفي شهر كانون الثاني (يناير) من العام 1976 قامت قوّاتٌ من الحركة الوطنية والقوات الفلسطينية بمهاجمةِ الدامور وتدميرها وقتل عدد غير معروف من سكانها، واضطرار الناجين من الأهالي إلى الهروب بحرًا بملابسهم فقط إلى أماكن آمنة، لأنَّ المواصلات البرّية كانت مقطوعة.

كُنتُ وقتها ما زِلتُ في لبنان ومررتُ بالدامور المُدَمَّرة ثلاث مرات وأنا في طريقي مِن وإلى البقاع عبر الطريق الجبلي بين صيدا وجزين. وقد رأيتُ بعينَيَّ حَجمَ الدمارِ الشامل الذي حَلَّ بها، حيثُ لم يترك المهاجمون شيئًا لم ينهبوه حتى بلاط وقرميد المنازل، والإطارات الخشبية للأبواب والمراحيض، والمُقتنيات التي لم يحمل منها أصحابها شيئًا أثناء فرارهم بأرواحهم.

وقفتُ أتأمّلُ ذلك المشهد السوريالي، الذي يفوق الوصف، وخَطَرَ لي أنَّ إعصارًا أو زلزالًا قد ضَرَبَ المدينة، أو أنَّها تعرَّضَت لغاراتٍ جوِّية مُدَمِّرة كتلك التي تعرّضَت لها بلدة “غورنيكا” الإسبانية قبل أقل من أربعة عقود.

وكما في تَدميرِ “غورنيكا” الإسبانية، كذلك في تَدمِيرِ الدامور اللبنانية، أُبقِيَ الأمرُ مُلتبسًا من حيثُ تَجهيلِ الفاعل. فقد قيلَ انَّ القوّاتَ الجنبلاطية، المدعومة بقوّاتٍ فلسطينية، هي التي فعلت ذلك، ثُمَّ قيلَ إنَّ الفاعِلَ هو قوَّاتُ منظمة “الصاعقة” الفلسطينية الموالية للنظام السوري، الذي كان حينها على خلافٍ مع الجنبلاطيين.

في إسبانيا، على الأقل، كَشَفَت الحكومة رسميًا بعد ستين سنة عن الفاعلِ الحقيقي، لكن في لبنان لم تَكشُف أيُّ جهّةٍ رسمية أو دولية عن هوِّية الفاعل، فبقي معروفًا ومجهولًا في الوقت ذاته، كما كان في اسبانيا حتى نهاية القرن العشرين.

“غرنيكا” الإسبانية تخلَّدت، بينما الدامور اللبنانية طُمِسَت. “غرنيكا” خَلّدها الرسام المشهور بابلو بيكاسو بلوحةٍ رائعة تحمل اسم البلدة المنكوبة، هي الآن في مدريد موطنها الأصلي. والرسّام بيكاسو كان أوّلَ مَن اتَّهَمَ الألمان النازيين بتلك الفعلة الشنيعة.

بعدَ الاحتلال الألماني لفرنسا عام 1939، زاره في محترفه في باريس ضابطٌ كبيرٌ في جهاز “غيستابو” النازي راغبًا في اقتناءِ لوحةٍ من لوحاته، وفي رُكنِ المُحتَرَف رأى الضابطُ لوحة “غرنيكا”، فراحَ يتأمّلها، ولم يطلبها. واسترعى ذلك انتباه بيكاسو فبادَرَ الضابط: “أنتم فعلتموها.. أليس كذلك؟”.

رَسَم الضابطُ على شفتيه ابتسامةً وَشَتْ بموافقته على كلام الرسام الإسباني.

وشعرَ بيكاسو أنَّ لوحته العظيمة تلك لن تكونَ آمنةً في إسبانيا بعد انتصارِ فرانكو في الحرب الأهلية، ولن تكونَ آمنة في أوروبا بعد الاحتلال النازي، فأرسلها إلى الولايات المتحدة حيث عُرِضت لأوّلِ مرة في نيويورك.

وإلى جانب لوحة بيكاسو، خلَّدها الرسام الفرنسي رينيه ماغريت بلوحةٍ سمّاها “العلم الأسود”. وكذلك فعل النحَّات الألماني هاينز كيفيتز، المُتَطوِّع في السرايا الدولية المُناصرة للجمهوريين، بحفريةٍ على الخشب، وقد استشهد في المعارك هناك. ونحَّاتون آخرون نحتوا لها التماثيل التذكارية، وشعراء نظموا فيها القصائد، وأشهرها قصيدة بول إيلوار بعنوان “انتصار غرنيكا”، وخلدها موسيقيون أمثال باتريك أسيون وأوكتافيو فاسكيس. وكذلك فعل سينمائيون أمثال ألن رازنيه في فيلم قصير أنتجه في العام 1950 بعنوان “غرنيكا” أيضًا.

لكن أيًا من ذلك لم يحدث بالنسبة إلى الدامور اللبنانية، لا شاعر لبناني أو غير لبنانيٍّ نظم فيها قصيدة، ولا نحَّات نحتَ لها تمثالًا على حجر أو خشب، ولا رسَّام رسم لها لوحة على ورق أو قماش، ولا موسيقي ألّفَ لها مقطوعة، ولو للذكرى، ولا سينمائي فَكّرَ في إخراجِ فيلمٍ رمزيٍّ أو وثائقيٍّ عنها كمجرّد سجلٍّ تاريخي يُمكِنُ الرجوع إليه.

مَرَّ تدميرُ الدامور مرَّا عابرًا بدون أيِّ تذكار، وكأنه حادثُ سير، أو عاصفةٌ من البحر.

ولذلك فإنَّ الحَربَ الأهلية الإسبانية ذهبت إلى غيرِ رجعة، بعدما تصالح الإسبان مع أنفسهم. وبقيت الحربُ الأهلية اللبنانية مُستَعِرةً ومُتَجَدِّدة بطُرُقٍ مختلفة، لأنها تقوم على قاعدة الإنكار والنفاق، والتكاذب بين المُتحاربين، فلا مساحة فيها للمُراجعة، أو المُصارحة، أو المُصالحة والاعتراف.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى