لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (9): الحِيادُ لا يُوقِفُ الحَرب
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
في الحروبِ التي يَعتَبِرُها كبارُ المُثَقَّفين، والفنّانين، والكتَّاب، والمُفكّرين “قضايا عادلة”، تَتَشَكَّلُ من خلالِ أفكارهم حالةٌ رومانسية واسعة قادرة على الاستقطاب.
فالمُثقّفون، ومُعظَمُ الكُتَّابِ في الغرب، استفزّتهم مواقفُ حكوماتهم الداعية إلى الحيادِ في الحَربِ الأهلية الإسبانية، مع أنَّ استقصاءً للرأي العام في الولايات المتحدة أظهر أنَّ 87 في المئة من الأميركيين يؤيّدون الجمهوريين الإسبان. لكنَّ الرئيس فرانكلين روزفلت، الذي كان يصغي لتوجّهات الرأي العام، فشلَ في إقناع الكونغرس بتأييدِ الجمهوريين في الحرب الإسبانية.
أمّا حكومة ليون بلوم الاشتراكية في فرنسا، فقد كانت في طليعة الداعين إلى الحياد، وكان رئيس الحكومة الفرنسية نفسه موضع سخرية في مجلس النواب عندما بَرَّر موقفه بالقول: “إنَّ الحيادَ يَمنعُ الحرب”.
ونتيجةً لذلك تشكَّلت في 52 دولة في العالم، من بينها فرنسا وبريطانيا وأميركا، ما سُمِّي “السرايا الدولية لنصرة الجمهورية الإسبانية”، بلغ عديدها 36 ألفًا من المُتَطَوِّعين للقتال إلى جانب الجمهوريين، بينهم أسماء كبيرة من الكتَّاب والفنانين، أمثال جورج اورويل البريطاني، وأرنست همنغواي الأميركي، وأندريه مالرو الفرنسي (كما انتجت هوليوود أفلامًا عدة خالدة حول الموضوع. (وكان بين المتطوِّعين نحو سبعة آلاف من المُثقّفين اليهود الهاربين من ألمانيا النازية).
ويَذكُرُ اللبنانيون، عشيّة حرب فلسطين، في أربعينيات القرن العشرين، كيف تَشكَّلَ “جيش الإنقاذ” بقيادة فوزي القاوقجي، وضَمَّ مُتَطَوِّعين من لبنان وسوريا، وبعض الدول العربية الأخرى، للقتال ضدّ العصابات الصهيونية في فلسطين، خارج إطار الجيوش العربية النظامية المُشارِكة في تلك الحرب.
فالقضايا العادلة، وإن كانت خاسرة في كثيرٍ من الأحيان، جاذبةٌ بطبيعتها لأهلِ الفكرِ والإنصاف إلى درجةٍ تَحمُلهم على التطوُّع للقتال في سبيلها. وهذا ما كان من أمر القضية الفلسطينية التي جذبت، في بداية الحرب الصهيونية لاغتصاب فلسطين الكثيرين في العالمَين العربي والإسلامي، كما بعض الأوساط الأوروبية.
هذا الإرث من النصرة الواسعة للقضية الفلسطينية، انسحبَ أيضًا على الوجودِ الفلسطيني في لبنان، حتى بَعدَ انقلابِ أجندةِ الثورة الفلسطينية من ” تحريرية لكامل التراب الفلسطيني” إلى “تسوية تقبل بأيِّ أرضٍ من فلسطين تتخلّى عنها إسرائيل في المفاوضات”.
ولذلك، لم يَنظُر العالمُ الخارجي إلى القضية اللبنانية، في المُقابل، على أنّها “قضية عادلة”، بل جرى تظهيرها على أنها “حالة عدوانية ضد الفلسطينيين وقضيتهم”، على الرُغمِ من جميع التضحيات التي قدّمها اللبنانيون في سبيل القضية الفلسطينية من أيام نجيب نصار في مطلع القرن العشرين إلى أيام فوزي القاوقجي في منتصفه، ثم في أيام ياسر عرفات أيضًا.
وكثيرون في الخارج، وفي لبنان أيضًا، لم يلحَظوا تحول الثورة الفلسطينية من التحرير الى التسوية، وبالتالي فاتهم أنَّ “حالة التسوية”، في ظلِّ هيمنة السلاح الفلسطيني، هي قَطعًا ستكون على حساب لبنان، وربما على حساب غيره أيضًا.
فمُعادَلَةُ التسوية تضمُّ خمسة شعوب وأربعة أقطار (لبنان، سوريا، الأردن، فلسطين)، وشعوبُ هذه الأقطار يضافُ إليها الشعب اليهودي في فلسطين المحتلّة.
فالتسويةُ المنشودةُ من الثورة الفلسطينية، لن تكون كلّها، أو معظمها، على حساب الفريق الإسرائيلي المُعتَدي أو المُحتَل، وبالتالي فإنّها بالضرورة سوف تكون على حساب الدول العربية المُحيطة بفلسطين، والتي تضمُّ أعدادًا كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين المطلوب توطينُهم حيث هُمّ.
والذين هرعوا من الخارج، للقتال إلى جانب الثورة الفلسطينية في لبنان، وغالبيتهم ليست من المُثقّفين، كما في الحالة الإسبانية، كانوا غافلين بالفعل عن التوجّه إلى التسوية، فراحوا يُقاتلون من أجلها وهم يعتقدون أنهم يحاربون من أجل تحرير فلسطين. ولذلك لم تَجِد القضية اللبنانية آذانًا صاغية لا في العالم العربي ولا في بقيّة العالم.
ويجب أن يُقالَ أيضًا إنَّ اللبنانيين الذين تصدّوا للوجود الفلسطيني المُسَلَّح، المُتحالِف مع قوى لبنانية وازنة لها أجندتها الخاصة التي لا علاقة لها بفلسطين والقضية الفلسطينية، غلبت عليهم النزعة الفاشية الدموية، فكان ذلك مانعًا أمامَ إقناعِ العالم الخارجي بمنطقهم ومُنطلقاتهم، إن لم يكن بعدالة قضيتهم، فظهروا أمام العالم وكأنهم ينكرون عدالة القضية الفلسطينية التي تَنَكَّرَ لها دُعاةُ التسوية من الفلسطينيين أنفسهم حتى في عزِّ الحرب اللبنانية.
كم من الالتباسات والغشاوات تراكمت في أذهان اللبنانيين، وما زالت تتراكم، إلى درجةٍ أنَّ إسرائيل استخدمتهم للوصول إلى تسويةٍ مع الفلسطينيين، ومَن يدري ربّما تنجح مرة ثانية في استخدامهم للوصول إلى تسوياتٍ مُماثلة مع غير الفلسطينيين!
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com