لبنان… الحرب الأهليَّة المُستدامة (2): سلاحُ نَشرِ الإرهاب
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعاً شائكاً يتعلَّق بالأسباب والظروف التي جعلت من لبنان بؤرة لحروب أهلية متواصلة منذ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديم الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحو مقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجل استكشاف الأسباب التي جعلت لبنان مسرحاً لحروب أهلية مستدامة، وبأشكال مختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعد والتنابذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، وربما بطرق أخرى مختلفة. كما تطرح إشكاليات التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظراً لارتباط بعض المكونات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
في الحروب الأهلية عمومًا، يُشَكّلُ الإرهابُ عُنصرًا أساسيًا من عناصر الصراع بين المُتقاتلين. والغاية من الأعمال الإرهابية ليست عسكرية او ميدانية، بل هي نفسية لتَرويعِ الخَصمِ وإحباطه وشَلّ إرادته. ولذلك تكونُ هذه الأعمال وحشيَّةً، وهمجيَّةً، ومروِّعةً، بغير أي وازعٍ إنسانيٍّ، أو أخلاقيٍّ، أو ديني.
ويتذكّرُ اللبنانيون جيدًا اليوم الذي جرت فيه أعمالُ قَتلٍ جماعية في بداية الحرب أواخر العام 1975، والمعروف بيوم “السبت الأسود”، عندما قامت جماعاتٌ مُسَلَّحة بعملياتِ قتلٍ عشوائية، في منطقة مرفَإِ بيروت وحواليها، ضدّ أناسٍ فقراء أو عمّال وموظّفين لا علاقة لهم بالسياسة، أو بالقوى المتصارعة، بل لمجرّد أنهم يحملون هوية طائفية مختلفة، وذلك لترويع عموم أهالي تلك المناطق أو تهجيرهم. كذلك فعل الفريق الآخر عندما هاجمت فرقٌ مسلّحة مدينة الدامور الساحلية واستباحتها ونهبتها وقتلت وهجّرت أهاليها قاطبةً.
وقد حدث مثل ذلك وأفظع منه في الحرب الأهلية الإسبانية، ومن بدايتها أيضًا، كما يُستَدَلُّ من الوقائع التالية:
في صيف العام 1936، أعلن الجنرال إميليو مولا القاعدة الإرهابية للحرب، بقوله: “إنه من الضروري إشاعةَ جوٍّ من الإرهاب. علينا أن نخلقَ انطباعًا بأننا سادة الساحة”. (من كتاب انطوني بيفور بعنوان “الحرب الأهلية الاسبانية” الصادر عام 1982). وقد شَكّلَ الفريق الوطني (الفالانج)، من بداية الحرب، فرق إعدام ميدانية للفتك بأعضاء الفريق الجمهوري المعادي، وكذلك فعل الفريق الجمهوري.
وتجدرُ الملاحظة هنا أنَّ مثلَ هذه التكتيكات طوّرتها في السنوات الأخيرة القوات الانتحارية الإسلامية المتطرّفة في العراق وسوريا لزيادة حجم ودوي العمليات الإرهابية من طريق السيارات المفخَّخة والأحزمة الناسفة، وغايتها قتل وتشويه أكبر عددٍ من الناس الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالصراع الدائر، أو بمحرِّكيه الظاهرين والمُستترين.
من الأمثلة التي أحدثت صدى عالميًا مدويًا حادثة إعدام الشاعر والمسرحي الإسباني الكبير فيديريكو غارسيا لوركا، صاحب المسرحية الشعرية الخالدة “عرس الدم”، ومن غير أيِّ محاكمة، في مدينة غرناطة. بل إن قاتله “الفالانجي” أعلن أنه، بعد إعدامه، أطلق عليه رصاصتين في مؤخرته لزعمه بأنه كان من المثليين!
راندولف تشرشل، نجل الزعيم البريطاني ونستون تشرشل، عبَّر عن النظرة البريطانية إلى الحرب الأهلية الإسبانية بقوله: “كثيرون من “الداغوس” يقتلون بعضهم البعض”. وكلمة “داغوس” هي تعبير عامي (شبه عنصري) للدلالة على شعوب جنوب أوروبا المتوسطية، مثل الإسبان والبرتغاليين والطليان، باعتبارهم في مرتبة أدنى من شعوب أوروبا الشمالية. وربما قصد أنهم شعوب همجية تفتك ببعضها البعض.
تمجيد الموت. مع أنَّ المتطوعين في الفرقة الأجنبية المقاتلة في صفوف الوطنيين كان من بينهم كثيرون من المثقّفين، فإنهم اختاروا لقواتهم شعار “يعيش الموت”، الذي ابتدعه مؤسس تلك الفرقة الجنرال ميلان استراي (من كتاب بول برستون بعنوان “الرفاق! صور من الحرب الأهلية الإسبانية”).
وعلى بشاعة هذا الشعار، فقد أثار اشمئزاز فريق من الكتاب والفنانين الذين انخرطوا في الحرب إلى جانب الجمهوريين مُتَطَوِّعين من كلِّ انحاءِ العالم، كما اثار إعجاب بعضهم الآخر.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com