في وداعِ أَنطوان مُلتقى
هنري زغيب*
لم أَعهَدهما إِلَّا معًا… وما رأَيتُهما إِلَّا معًا… ولم أَزُرهما يومًا إِلَّا كانا معًا، وعلى المقعد ذاته: هي الذي إِلى يمين الباب، وهو قُبالتَها في المقعد ذاته. والحديث ذاتُه يتكرَّر كلَّ مرة: هي فنيًّا عن مسيرتهما المسرحية، وهو أَكاديميًّا عن معهد الفنون الذي أَسسه في الجامعة اللبنانية…. هكذا نَشَآ معًا: أَنطوان ولطيفه ولطيفة وأَنطوان، كأْنْ لا اسم لهما إِلَّا معًا، فلا لطيفة من دون أَنطوان ولا أَنطوان من دون لطيفة.
سوى أَنني كلَّ مرةٍ كنتُ أَقطِف منهما جديدًا غيرَ الذي سمعتُه من قبْل. ذلك أَنهما ذاكرةٌ غنيةٌ من تاريخ الحركة المسرحية الطويل، منذ مطالعها وأَنطوان رائدُها وقائدُها والمايسترو، منذ البدايات الباكرة مع منير أَبو دبس، فالانفصال عنه لتشكيله طلائع المسرح الحديث مع “حلقة المسرح اللبناني” ومعها محترف تدريب الممثلين، وإِنشائه مهرجان المسرح في راشانا اشتراكًا مع ميشال بصبوص، والانطلاق بمسيرته المسرحية الطويلة وما فيها من مشقَّة في تعويد الناس على المسرح الدائم، وتأْسيسه قسمَ التمثيل في الجامعة اللبنانية، وإِنشائه المسرح الاختباري وتدريب الممثلين، وإِطلاقه المسرح الدائري في صالة مارون النقاش، وفيه أَلغى الديكور والستارة وجعل المسرح وسطيًّا بين الجمهور لا أَمامه، وترؤُّسه أَول هيئة إِدارية لنقابة الفنانين المحترفين، … ومع انكسار الحركة المسرحية إِبان الحرب في لبنان، انكسر أَنطوان ملتقى على الخيبة الكبرى، ودخَل معها في السُكوت الكبير…
في مطلع الثمانينات كلَّفتْني لطيفة اقتباسَ مسرحية عملتُ عليها أَسابيع، وأَنجزْتُها بعنوان “إِيدي يا إِيدي”، وكنت آنَس إِلى أَفكاره وتوجيهاته كلَّما جلستُ إِلى لطيفة لمناقشة الترجمة والاقتباس وما زلتُ إِلى اليوم آخُذُ بنصائحَ أَسداها إِليَّ من تلك الجلسات.
في السنوات الأَخيرة كنت أَتردَّد عليه، فأَجدُهُ مع لطيفة مرتاحًا إِلى سكوته، يَجرُشُ في صمته مسيرتَه المسرحية أَسَّسَ بها أُفقًا للمسرح اللبناني ما كان يمكن أَن يكون لولاه ولولا مؤَازرة لطيفة التي تخلَّت عن روب المحاماة الأَسْود لترتدي روب المسرحيات الأَبيض لتكون حدّ أَنطوان ممثلةً مراتٍ ومخرجةً مراتٍ، فتشكِّل معه ثنائيًا نادرًا لا يمكن من دونهما تأْريخ الحركة المسرحية في لبنان.
ذات يوم، وكنتُ أَزورهما كالعادة، قدَّم لي أَنطوان أُسطوانةً فيها تسجيلُه كاملَ نصِّ كتاب “النبي” لجبران، فكان صوتُهُ صدًى لصوت المصطفى في أُورفليس، وأَضاف إِلى النص بُعدًا جعلني أَراه واضحًا فيما كنتُ قبل أَشهرٍ أَعمل على ترجمتي “نبي” جبران بالصيغة التي أَخرجتُه بها. وكم تمنيتُ أَن يكون “النبي” بصوت أَنطوان متوِّجًا طبعةَ “النبي” التي أَصدرتُها ضمن منشورات “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU.
أَنطوان ولطيفة، ولطيفة وأَنطوان، ثُنائيٌّ خلْتُهُ سوف يتواصل ثُنائيًّا مع الأَيام… وفيما كنَّا، أَمس السبت، نودِّع أَنطوان الوداع الأَخير، عائدًا إِلى حضن بلدته الأُم وادي شحرور، كنتُ أُفكر بلطيفة وكيف ستُكمل وحدها لأَول مرة، في وحدة هي أَقسى ما ستعانيه في حياتها التي كان أَنطوان حياتَها اليومية بعنوانها وسطورها وحبها رمقًا إِلى رمَق… حتى الرمَق الأَخير.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib