الحَربُ المُستَمِرّة والسَلامُ المَطلوب
الدكتور ناصيف حتّي*
أشهرٌ أربعة مَرّت على “حرب غزة” وما زالت إسرائيل أسيرةَ الشعارات/الأهداف التي رفعتها كالتخلّص كُلِّيًا من “حماس”. وما زال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يُؤكّدُ كلَّ يومٍ أنَّ الحربَ لن تتوقَّفَ حتى”إبادة حركة “حماس””. وقد بدأت إسرائيل بما سُمِّيَ المرحلة الثالثة من الحرب وقوامُها إقامة منطقة عازلة بعَرضِ عشرة كيلومترات تقريبًا في القطاع على طول الحدود مع الدولة العبرية، والعمل على تعزيز السيطرة الأمنية على وادي غزة في وسط القطاع، والبحث بعد ذلك عن صيغةٍ لأطرافٍ دولية-عربية- فلسطينية لإدارة القطاع في ظلِّ الإمساك الإسرائيلي العسكري والأمني بغزة في إطارٍ زمنيٍّ مفتوح.
وَقفُ الحرب سيؤدّي إلى السقوط السياسي المُدوّي لنتنياهو وتعرّضه للمحاكمة لأسبابٍ عديدة لا علاقة لها بهذه الحرب. وَقفُ الحرب سيؤدّي أيضًا إلى انفجارِ الحكومة من الداخل كما يُهدّدُ أكثر من وزير. لا بل زادت الدعوات في إسرائيل لإعادة الاستيطان في غزة وبالتالي السيطرة الكُلّية عليها كما كان حاصلًا حتى العام ٢٠٠٥. على صعيدٍ آخر نسمعُ من القوى الغربية الفاعلة دعواتٍ لهُدَنٍ إنسانية مع استثناءاتٍ قليلة بين هذه الدول صارت تدعو لوَقفٍ كُلي للقتال، والتي أخذ عددها بالازدياد مع مرورالوقت ولو أنَّ صوتها ما زال خافتًا.
نحنُ أمامَ مشهدٍ قوامه ما يلي:
اوَّلًا، الاستمرار بالحرب بشكلٍ مفتوح في الزمان لأنَّ إسرائيل صارت أسيرةَ أهدافها المُستحيلة التحقيق، مع احتمالِ تصعيدٍ وتخفيضٍ في حدّة وحجمِ القتال وزيادة عدد الهُدَن ومدى الفترة الزمنية المُقتَرَحة.
ثانيًا، إرتفاعُ حدّة التوتّر في الضفة الغربية في ظلِّ تزايدِ أعمالِ العُنفِ الإسرائيلي والردّ الفلسطيني المُرتَبِط بما هو حاصلٌ في غزة، والعودة إلى سياسةٍ استيطانية ناشطة لم تتوقف من قبل، ولكن صارت حاليًا عنوانًا تعبويًا في إطارِ الحرب القائمة. الأمرُ الذي قد يؤدّي إلى انتفاضةٍ فلسطينية ثالثة.
ثالثًا، يزدادُ الحديثُ بين السلطات المعنية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، دولٌ واتحاد، وفي بريطانيا حولَ التأكيدِ على “حَلِّ الدولتين”، الذي استُحضِرَ فجأةً كعنوانٍ سياسي، والذهابِ بالتلويحِ بالاعتراف بالدولة الفلسطينية كمحاولةٍ للضغطِ على إسرائيل من جهة، ولكن للتاثيرِ بشكلٍ أقوى من جهةٍ أُخرى في الموقف الفلسطيني عند مختلف الاطراف الفلسطينية. يهدفُ ذلك إلى محاولة احتواء القتال والحديث عن ضرورةِ العودة لإحياء مسارٍ سياسي للتسوية لم يعد قائمًا منذ سقوط أو اندثار مسار أوسلو في نهاية التسعينيات الفائتة. وقد صرنا نسمع في هذا الصدد الكثير من الأفكار والمقترحات والصيغ من قِبَلِ هذه الأطراف الغربية. وتُلاقي هذه الدعوات، التي ما زال مُجمَلها خجولًا رفضًا كُلّيًا وقاطعًا من الحكومة الإسرائيلية.
سياسةُ تهويد الديموغرافيا والجغرافيا التي تقوم بها إسرائيل منذُ زمنٍ ولكن بشكلٍ متسارع في السنواتِ الأخيرة في الضفة الغربية، والسيطرة شبه الكُلّية لليمين الإسرائيلي الديني والاستراتيجي المُتَطرّف والمُتشدّد في المجتمع الإسرائيلي والداعي لقيام إسرائيل الكبرى، وغياب أي ضغوطاتٍ دولية فعليّة وفاعلة لمنع إسرائيل من تحقيق ذلك. كُلُّها عناصر ساهمت بنسف الأُسس التي يُفتَرَضُ أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية المنشودة بشكلٍ كبير.
إسرائيل تعملُ بشكلٍ متسارع على إقامة إسرائيل الكبرى من وادي الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، حسب نموذج جنوب أفريقيا السابق (نموذج الدولة العنصرية) فيما تنشطُ، كما أشرنا، لطردِ أهل الضفة الغربية بوسائل وسُبُل مُتعدّدة من أرضهم. كما نسمعُ من جهةٍ أُخرى عن طروحاتٍ مثاليةٍ جدًا من قِبَلِ البعض قوامها العودة إلى عنوان الدولة الواحدة التي تضم الجميع، الشعارُ الذي رُفِعَ في الماضي من البعض، والقائمة على المساواة في المواطنة. وقد تأخذُ هذه الصيغة حسب المُنادين بها شكلًا فيدراليًا أو لامركزية مُوَسَّعة. ولكنها في حقيقةِ الأمر فكرة غير قابلة للتحقيق كُلّيًا لأنَّ مفهومَ دولة اليهود التي قامت عليه إسرائيل، أيًا كان الشكل الدستوري للسلطة، لا يمكنُ أن يقبل بالمساواة في المواطنة مع الآخر الفلسطيني.
فإذا كان حلُّ الدولتين صَعبَ التحقيق بسبب ما أشرنا إليه من مُتغيّرات على الأرض فإنه يبقى الحلَّ الوحيد المُمكن للتسوية النهائية الشاملة والواقعية للقضية الفلسطينية، التي هي قضيةُ حقوقٍ وطنية لشعبٍ يريد التعبير عن هويته عبر إقامة دولته المستقلة. وبعدها يمكن البحث كما يدعو البعض بأيِّ صيغ تعاونية ثنائية أو إقليمية لتعزيز السلام في المنطقة.
ذلك كُلُّه يستدعي، إذا كانت هنالك جدية عند القوى الغربية التي تدعو لقيام الدولة الفلسطينية، أن تستعملَ ما تملكه من أوراقِ تأثير تجاه إسرائيل لإطلاق عملية سلامٍ تقوم على ما يعرف ب”الهندسة المعكوسة” ( reversed engineering) أي تحديد الهدف النهائي للمفاوضات وهو حلّ الدولتين اللتين تعيشان جنبًا إلى جنب، والقاضي بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. الأمرُ الذي يستدعي أوَّلًا فرض الوقف الُكّلي لإطلاق النار على الطرف الإسرائيلي الرافض لذلك، وإطلاق المسار التفاوضي المطلوب برعاية ومواكبة هذه القوى وغيرها من القوى المؤثّرة والفاعلة، وعلى أساس قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وبالأخص تلك الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، وضمن جدولٍ زمني مَرِن ولكن غير مفتوح في الزمان. ليس ذلك بالأمر السهل من دون شك ولكنه بالأمر المُمكن رُغم العوائق الإسرائيلية تحديدًا أمامه، إذا ما وُجِدَت الرؤية والإرادة والرغبة الفعلية في تحقيق السلام الشامل والعادل والدائم،الذي هو لمصلحة الجميع في الإقليم الشرق أوسطي وخارجه، مع التذكير، لتحقيق هذا السلام، بالسياق ذاته في ما يتعلق بالمسارَين الآخرَين اللبناني والسوري. البلدان اللذان ما زالت إسرائيل تحتل أراضيهما.
ذلك كُلّه أمرٌ صعبُ التحقيق للعوامل التي أشرنا إليها سابقًا ولكنه ليس بالأمر المستحيل. فرحلةُ الألف ميل تبدأ بخطوة، ولكن يجب ان تكون تلك الخطوة بالاتجاه الصحيح.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).