من حبَّة العنَب إِلى كأْسِ النبيذ

هنري زغيب*

كان ذلك قبل أَيام، في مَسْويَّة هادئة هانئة لدى الدكتور كميل جبيلي، وسْط جنَّته الأَرضية في مَيرُوبا (بلدة جبلية جميلة في جبال كسروان-لبنان). وكان الحديثُ عن نُدرة الأَصدقاء بيننا حِيال وفْرة المعارف حولنا، فإِذا بزوجته السيِّدة سناء تعطي مثالًا على الصداقة بالمشوار الذي تَعْبُرُه حبة العنب كي تصبح كأْس نبيذ. استفهمتُ، فأَوضحَت أَن حبَّة العنب تمُرُّ في مراحل عدة قبل بلوغها كأْسَ النبيذ، من قطْف العنقود عن العريشة، إِلى حَبحَبة العنقود، إِلى عصْر الحبوب شديدًا، إِلى مرور عصيرها في تحوُّلاتٍ حتى تُصبح نبيذًا في خابيةٍ جاهزًا أَن يملأَ كأْسًا يستحقُّه شاربٌ ونديمه.

آخُذُ من كلام “السناء” لفظَها كلمة “يستحقّ”، وهي محوريةٌ في الموضوع. فهل كلُّ حبَّة عنبٍ تستحقُّ أَن تَعبُر المراحل كي تصحو وهي قطرةٌ في كأْس نبيذ؟

وإِسقاطًا على الصداقة: هل كلُّ شخص يستحقُّ أَن يكون صديقًا خاصًّا، حافظَ السر كتومًا، مخْلصًا بدون تحفظ، رفيقًا أَمينًا مدى الحياة؟ بمعنى آخر: هل كلُّ شخصٍ جديرٌ أَن ينتقلَ معنا من حبة العنب العادية إِلى نديمنا حول كأْس النبيذ؟

طبعًا لا… فما أَكثرَ حبوبَ العنب حولنا، وما أَقلَّ بيننا كؤُوس النبيذ. لِــمَ؟ لأَن الصديقَ يبدأُ زميلًا أَو رفيقًا أَو متعاونًا ثم يمرُّ مع الوقت في مراحلَ عدةٍ تتجلَّى فيها شخصيَّتُه ودواخلُه ونواياه، فيظهر جليًّا إِن كان يستاهلُ، بدون شُروطٍ مسْبَقة وحدودٍ مُرفقَة، أَن ينتقلَ إِلى حميمية كأْس النبيذ، أَو أَن يسقط في إِحدى المراحل فيبقى عاديًّا، حبَّة عنبٍ عاديةً من عنقودٍ عاديٍّ في عريشةٍ عادية. من هنا أن الحبَّة مبتدا التصرُّف والنبيذَ منتهى الحكمة. ومن هنا القول، في موقفٍ ما، إِن العنبَ كثيرٌ لكن النبيذَ قليل.

الصداقةُ الحقيقيةُ نادرة جدًّا، كالحُب الحقيقي. وإِذا الحب لا يكون إِلَّا بين رجلٍ وامرأَةٍ فقط، لا إِشراك لأَحدٍ معهما، كذا الصداقةُ التي تغمُرُها محبةٌ غيرُ مشروطة، لا إِشراكَ لأَحد فيها على هذا المستوى الأَعلى. وهو ما يتعمَّم على نخبة الصداقة من الجنسَين.

هل الصداقةُ بين رجلٍ وامرأَة ترقى إِلى حب؟ ربما، حين يكون كلاهما على وتَرٍ واحد من التفاهُم التام، دونَ عواصفِ سوء التفاهم الناجمة من قُصور أَحد الطرفَين عن ملازمة الوتَر الواحد بينها.

وحين الصداقةُ التامَّةُ بين رجلٍ وامرأَةٍ تَبلُغ الحُب التام، هنيئَةٌ لهما سعادةٌ هي هي الجنَّةُ التي يَحلُم بها كثيرون ولا يبلُغُها إِلَّا قليلون، على أَلَّا يكونَ أَحدهما طالعًا من سجْن بيئةٍ مُعيقَة أَو معتقدات عتيقة أَو نُدُوب عميقة، لأَن جميع هذه تستيقظ، فجأَةً أَو لاحقًا، فتُفْسِد الحُب وتعيدُه إِلى مرتبةٍ أَدنى هي الصداقةُ الخاصةُ أَو العادية، إِنما لا تعودُ جديرةً بالعودة إِلى جنَّة الحب.

بلى: في العلاقات العاطفية أَيضًا، كما في الصداقة، يَصُحُّ التماهي بحبَّة العنب وكأْس النبيذ. فما كلُّ حبَّة عنبٍ تستاهلُ أَن تَعبُرَ مراحلَ القطاف والعصْر والتقطير، وما كلُّ شخصٍ يستحقُّ أَن يَعبُرَ حتى يصبح رَشفْةً في كأْس نبيذ.

ولذا يصُحُّ القول، ختامًا: ما أَكثرَ حبوبَ العنب حولنا، وما أَقلَّ بيننا كؤُوسَ النبيذ.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى