لماذا تدهورت العلاقات بين الصين وإسرائيل أخيرًا؟

يبدو أن العلاقات بين الصين وإسرائيل لم تعد كما كانت في السابق، وبرز ذلك من موقف بكين بالنسبة لما يحدث الآن في غزة. فما هو السبب؟

الرئيسان شي جين بينغ ومحمد عبّاس: العلاقات بينهما جيدة.

علي أحمدي*

منذ بداية الحرب في غزة بين إسرائيل وحركة “حماس” الفلسطينية، تبنّت الصين موقفًا مُفاجِئًا إلى حدٍّ ما. لقد دعمت بكين القضية الفلسطينية تاريخيًا، لكنها حافظت على علاقات جوهرية مع إسرائيل منذ إقامة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين في العام 1992. وعلى مرِّ السنين، أدانت الصين بناءَ المُستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل سَعَت إلى مَنعِ مواطنيها من المشاركة في تلك الأنشطة. ومع ذلك، واصلت الحفاظ على علاقات اقتصادية مُهِمّة مع الدولة العبرية.

لكن، بعد هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فاجَأَ ردُّ الصين على ذلك بعضَ المراقبين، سواءَ في إسرائيل أو خارجها. بادئ ذي بدء، رفضت بكين إدانةَ “حماس” صراحةً، والتي لم تُصَنِّفها رسميًا كمُنَظَّمةٍ إرهابية. بعدَ أسبوعٍ من الهجوم، في الوقت الذي كان مؤيِّدو إسرائيل في الغرب لا يزالون يدعمون حملة إسرائيل العسكرية في غزة، قال المسؤولون الصينيون أنَّ الغارات الجوية الإسرائيلية “تجاوزت الدفاع عن النفس” وأدانوها باعتبارها “عقابًا جماعيًا”، في حين ألقت وسائل الإعلام الصينية باللوم على الولايات المتحدة في التسبّب بهذا الصراع. وفي الأسابيع التي تلت ذلك، أشارت التصاريح الرسمية لبكين بشأنِ الحرب باستمرار إلى إنشاءِ دولةٍ فلسطينية باعتباره الحل المُستدام الوحيد للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وردّت إسرائيل بالتعبير عن “خيبة أملٍ عميقة” من الردِّ الصيني، والاعتراض على إصرارِ الصين على ضرورةِ حلِّ الدولتَين في ظلِّ الظروف الحالية.

لتفسير موقف الصين، جادَلَ العديد من المراقبين إنَّ بكين تسعى فقط إلى جذب جماهير “الجنوب العالمي”، حيث يُفَضّلُ التصوّر العام بالنسبة إلى الصراع القضية الفلسطينية إلى حدٍّ كبير. هناك بلا شك بعض الحقيقة في ذلك. لقد سعت بكين منذ فترة طويلة إلى وضع نفسها كنموذجٍ تنموي وقائد جيوسياسي لدول “الجنوب العالمي”. ولكن، تماشِيًا مع النهج العملي الذي تنتهجه الصين في السياسة الخارجية في التعامل مع الشرق الأوسط، استمرَّ التعاون الصيني-الإسرائيلي في الماضي في التعمّق بغضِّ النظر عن مخاوف بكين بشأن الفلسطينيين. ولم تصدر بكين قط مثل هذه الإدانات الصارخة للحملات العسكرية الإسرائيلية السابقة في غزة أو جنوب لبنان.

إذن، ما الذي يدفع الصين إلى التحوّل في ما يتعلق بالصراع الحالي؟ أحد العوامل الذي تمَّ التغاضي عنه هو الانهيار النسبي للرَكيزة الأساسية التي تقومُ عليها العلاقات الصينية-الإسرائيلية حتى قبل إقامة العلاقات الديبلوماسية بينهما رسميًا: التجارة في التكنولوجيا، وخصوصًا في التكنولوجيا العسكرية.

الصين وإسرائيل: علاقة تكنولوجية

اشترت الصين مُنذُ فترةٍ طويلة معدّاتٍ عسكرية إسرائيلية عالية التقنية واستثمرت في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي، بما في ذلك الاستحواذ على شركاتٍ إسرائيلية. في الواقع، أكّدَ الخبراء الإسرائيليون أنَّ جاذبية إسرائيل للصين كشريكٍ تَرجَعُ في جُزءٍ كبيرٍ منها إلى اهتمامِ بكين بقطاع التكنولوجيا الإسرائيلي، حيث أشارَ الباحث الأكاديمي الذي تُركّز أبحاثه على العلاقات الإسرائيلية-الصينية يورام إيفرون في العام 2013 إلى أنَّ “العلاقات التكنولوجية بين إسرائيل والصين كانت دائمًا عنصرًا مركزيًا وثابتًا في علاقتهما”.

وفقًا لدراسةٍ أجرتها مؤسسة “راند” للأبحاث، بين العامين 2011 و2018، كانت الشركات الصينية تستثمر بغزارة في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي، سواء من حيث إجمالي المبلغ المُستثمَر –5.9 مليارات دولار– أو عدد الصفقات المُبرَمة. وكانت من بين المستثمرين شركاتٌ صينية مُتَّهَمة بأنَّ لها ارتباطاتٍ عميقة بالدولة والجيش الصيني، بما فيها شركة هواوي وشركة “ZTE”. وتعترفُ الدراسة بأنَّ العاملَ الرئيس الذي يدفعُ الاستثمار الصيني هو أنه في ذلك الوقت، لم تكن لدى إسرائيل أيٌّ من أنظمة الرقابة على الاستثمار التكنولوجي التي أنشأها نظراؤها الغربيون فعليًا.

على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، تم تكليف لجنة الاستثمارات الأجنبية، بالموافقة على الاستثمارات التي تتم في أميركا للتأكد من أنها لا تُشَكّلُ مَصدَرَ قلقٍ للأمن القومي. وكجُزءٍ من وظائفها، تُراقب لجنة الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة ما إذا كان الاستثمار الأجنبي في الشركات الأميركية الحساسة من الناحية التكنولوجية أو الاستحواذ عليها قد يؤدي إلى تمكين الجهات الفاعلة المُعادية للولايات المتحدة. وفي إحدى الحالات، أجبرت اللجنة شركةً صينية على بيع “Grindr”، وهو تطبيقُ مُواعَدة مُوَجَّهٌ لمجتمع المُثُليين، لأنها كانت تخشى من احتمال استخدام البيانات الشخصية للمواطنين الأميركيين في مناصب السلطة للابتزاز.

ويندمج قطاع التكنولوجيا في إسرائيل بشكلٍ كبير في عالم التكنولوجيا الغربي. وتتعاون الشركات الإسرائيلية مع نظيراتها الأميركية والأوروبية، وتتلقّى منها الاستثمار والتكنولوجيا وتجري أبحاثًا مشتركة معًا. ابتداءً من الستينيات الفائتة، بدأت الشركات الأميركية والأوروبية إنشاءَ مكاتب أبحاث في إسرائيل، ولدى صناديق رأس المال الاستثماري الأميركية مكاتب في إسرائيل تعمل على نقل الاستثمار والخبرة الإدارية إلى قطاع التكنولوجيا في البلاد. وكانت هذه العلاقات الواسعة جذابة للغاية للمُستَثمرين الصينيين الذين نظرت إليهم مراكز التكنولوجيا الغربية وحكوماتها بعين الشك. وكما قال أحد الباحثين، فإنَّ الشركات الصينية لا تزال مهتمة بـ”تكنولوجيا النمط الغربي”، ووسط التوتّرات المتزايدة مع الغرب، فإنَّ “الخيارَ الوحيد هو إسرائيل”.

لكنَّ علاقاتَ قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي مع نظرائه الغربيين، وخصوصًا في الولايات المتحدة، خلقت في النهاية عقباتٍ أمام التعاون التكنولوجي الصيني-الإسرائيلي. هناك تاريخ طويلٌ للغاية من الصراع بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول المبيعات الإسرائيلية للصين من التقنيات التي تشمل التكنولوجيا والخبرة الأميركيتيَن، مع حالتين تُعتَبَران بمثابةٍ مَثَلَين توضيحيَين بشكلٍ خاص.

في العام 1999، انهارت صفقة بيع طائرات “فالكون” للإنذار المُبكر الإسرائيلية إلى الصين تحتَ ضغطٍ شديدٍ من واشنطن. وفي العام 2004، بعد أن أعادت الصين طائرات “هاربي” المُسيَّرة إسرائيلية الصنع إلى إسرائيل لتحديثها، طالب البنتاغون بمصادرتها. وفي نهاية المطاف، قامت إسرائيل بشحنها مرة أخرى إلى الصين، ولكن بدون إجراء التحديثات، ما ترك واشنطن وبكين غير راضيتَين. وفي كلتا الحالتين، نبعت انتقادات الولايات المتحدة والضغوط الديبلوماسية من حقيقةِ أنَّ إسرائيل كانت تُصَدِّرُ التكنولوجيا إلى الصين التي تم تطويرها في الولايات المتحدة أو التي شملت التكنولوجيا الأميركية بشكلٍ كبير في تطويرها.

أصبحت هذه الخلافات أكثر حدة في السنوات الأخيرة، مع تصاعد التوترات الصينية-الأميركية، وأصبح تعريف التكنولوجيات باعتبارها ذات طبيعة عسكرية أو ذات استخدامٍ مزدوج أكثر تعقيدًا بكثير، وخصوصًا مع انتشار التكنولوجيات التي لا تزال في طور التطوير ــمثل الذكاء الاصطناعي ــ قد يكون من الصعب وضعها في سياق هذا التصنيف التقليدي.

نتيجة لذلك، بدأت الولايات المتحدة تعتمد بشكلٍ أكبر على إسرائيل لوَضعِ ضماناتٍ أكبر ضد مشاركة الشركات الصينية في قطاع التكنولوجيا لديها. وحتى بعد أن وضعت إسرائيل نظامًا للاستثمار الداخلي في العام 2019، اعتبره المسؤولون الأميركيون ناقصًا. وواصلت كلٌّ من إدارتَي دونالد ترامب وجو بايدن التأكيد على الحاجة إلى مزيدٍ من التدقيق وتبادل المعلومات حول مشاركة الصين في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي، ما دفع بكين إلى الإعلان بأنَّ أيَّ خطوة من جانب إسرائيل لمُواءَمة نفسها مع القيود المفروضة على التصدير والاستثمار التكنولوجي الأميركي ستكون بمثابة “نقطة اختبار حاسمة” للعلاقات الصينية-الإسرائيلية. وعندما مضت إسرائيل قُدُما ووافقت على تشديد مثل هذه الضوابط، شعرت الصين بالاستياء بشكلٍ مفهوم.

في نهاية المطاف، يبدو أنَّ العام 2018 كان بمثابةِ علامةٍ بارزة في التعاون التكنولوجي بين الصين وإسرائيل. ومنذ ذلك الحين، انخفض التدخّل الصيني بشكلٍ كبير.

إسرائيل: عالقة بين الولايات المتحدة والصين

لم تقتصر الجهود الأميركية لفَرضِ قيودٍ على العلاقة الصينية-الإسرائيلية على قطاع التكنولوجيا. فقد تضمّنت أيضًا الضغطَ على إسرائيل للانسحابِ من متابعة الصفقات مع الصين التي تتعلّقُ بمشاريع البنية التحتية وتحلية المياه. وجدت إسرائيل نفسها مُحاصَرة بين شريكتها الأساسية وقوّة صاعدة. ولكن بما أنَّ الولايات المتحدة ليست فقط مانحًا رئيسًا للمساعدات لإسرائيل، بل هي أيضًا حامية عسكرية لها وراعٍ اقتصادي أكثر أهمية بكثير من الصين، بما في ذلك في مجال التكنولوجيا، فإنَّ النتيجة لم تكن أبدًا موضع شك جدي.

بعد فوات الأوان، يتبيّن لنا أن تصاعد التوترات الغربية مع الصين والنمو التكنولوجي المحلي في الصين جعلَ هذا الانفصال أمرًا شبه حتمي. ومع تراجع إسرائيل الآن عن التعامل مع الصين، وخصوصًا في مجال التكنولوجيا، فقد تمّت إزالة عامل الجذب الرئيس للتعاون الصيني-الإسرائيلي بالنسبة إلى بكين، وأصبح التأثير واضحًا في استجابة الصين للحرب المُستَمرّة في غزة.

الوقت وحده هو الذي يُمكنُ أن يُخبِرَنا ما إذا كان هذا التحوّلُ هو تحولًا ذا مغزى في المدى الطويل بالنسبة إلى بكين. ولكن بما أنَّ الصين تسعى الآن إلى الاضطلاع بدورٍ ديبلوماسي أكبر في العالم، وبخاصة في الشرق الأوسط، فمن المؤكد أنَّ ميلها الأكثر تأييدًا للفلسطينيين سوف يُزعِجُ إسرائيل.

  • علي أحمدي هو زميل تنفيذي في مركز جنيف للسياسة الأمنية ومُحَلّل في شركة “غولف ستايت أناليتيكس” (Gulf State Analytics). يُركز عمله على العقوبات وفن الحكم الاقتصادي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى