“النادي الثقافي العربي”… نموذجًا حضاريًّا

 

هنري زغيب*

مُثمرةً بالمواسم، غنيَّةً بالجنى، كانت هذا العام، كما كلَّ عام، الدورةُ الخامسة والستُّون لــ”معرض بيروت العربي الدولي للكتاب” (تنتهي مساءَ غدٍ الأَحد)، أَحد أَهم معارض الكتب الـمُكرَّسة رسميًّا في لبنان والعالم العربي.

في 60 ندوة ولقاء ومحاضرة، نجح “النادي” في أَن يُكَبْسِلَ (من كبسولة) سنةً كاملة من النتاج الثقافي والاستذكارات الفكرية، جمعَها إِلى منبره وشهِدَ لها جمهورٌ كثيفٌ كان يوميًّا يملأُ قاعتَي المحاضرات.

فهو احتفل بخمس مئَويات في 2023: ولادة نزار قباني (قراءات من المسرحي رفعت طربيه)، ولادة عاصي الرحباني (شهادة من الزميل عبيدو باشا)، صدور “نبي” جبران، صدور “غربال” ميخائيل نعيمه، وفاة سيد درويش.

واحتفل بخمسينية وفاة طه حسين، وثلاثينية وفاة رضوان الشهال، واستذكر غياب طلال سلمان وحيَّا حياة المطران جورج خضر البالغ اليوم مئة سنة من الحضور الفكري، وأَضاء أَنوارًا على روَّاد النهضة اللبنانية: المعلِّم بطرس البستاني، الشيخ عبدالله العلايلي، الشيخ يوسف الأَسير، الإِمام محمد مهدي شمس الدين، الشاعر عبدالله شحادة، الرائد محمد شامل، المطرب محمد مرعي.

هكذا: في باقة منوَّعة ثريَّة من الندوات حول مواضيع راهنة ومناقشات الكتب وحوارات مثمرة وأُمسيات شعرية أحادية وجماعية ومحاضرات وإِضاءات على أَعلام ومعالِـم وعلامات، يكاد “النادي”، في ما سوى 10 أَيام، يُعَنْوِنُ ثقافيًّا 365 يومًا من 2023.

حيال هذا النشاط الدَسِم اللافت يُمسي ثانويًا عددُ زوَّار “المعرض” ولو انهم كثرًا توافَدوا.. فالصعوبة كانت في الإِصرار على إِقامة “المعرض” (وسط انفجار “طوفان الأَقصى” والقلَق على جنوب لبنان)، وتناقُص القُدرة الشرائية لدى المواطنين (وسط هذا الوضع المالي والاقتصادي الفاجع)، والحالة اللبنانية العامة (وسط الحالة الرمادية في نفوس اللبنانيين والتغيُّر الدراماتيكي في أَولويَّاتهم اليومية والمعيشية).

إِنه التحدِّي الـمُشْرق خاضَه “النادي الثقافي العربي” بكل ثقة وإِيمان: الثقة بالإِنسان اللبناني الذي، وضْعًا صعبًا إِثْر وضْع صعب، يُثبتُ أَنه مقاومٌ ثقافي وفكري وحضاري فريد وعنيد في مقاومته التاريخية منذ العصور السحيقة، والإِيمان بلبنان “الضئيل” في الجغرافيا، “القليل” في الديموغرافيا، إِنما “الجليل” في “الإِبداعوغرافيا”.

رئيسة النادي السيدة سلوى السنيورة بعاصيري (خلال عضويتي دورتَين متتاليَتَين عرفتُ ديناميَّتها أَمينةً عامةً في “اللجنة الوطنية لليونسكو”) تستثمر ديناميَّتها مع نخبة من أَعضاء “النادي” في إِقامة معرضٍ سنويٍّ بهذه الضخامة الشكلية والمضمونية، كي تظلَّ الشعلةُ ساطعة في أَعلى منارة لبنان، وحتى ليلتفت العالَم (العربي تحديدًا) إِلى هذا اللبنان الأُعجوبي الذي يوائم الثقافة والحياة، لشدَّة ما اللبنانيون (الأَحرارُ منهم غيرُ المنقادين أَغناميًّا ببَّغاويًّا حبوبَ مسبحةٍ في أَكُفِّ زعمائهم) يؤْمنون بنسْغ الحياة في شرايينهم، ويتشبَّثُون بأَرضهم وحضارتهم ووطنهم ولو كرهوا دولتهم العقيمة لفشَلها وإِيصال شعبها إِلى أَسفل اليأْس وأَعلى الغضب.

بذلك، وبالكثير سواه، ينتصب لبنان واحةً ثقافيةً يستعيد تباعًا أَلَقَها على الرغم من صعوبة اليوميات.. هذه تزول – ولو طالت، ستزول -، ويُشرق لبنان بعدها مرنى العرب وإِعجاب العالَم، بسطوعِ بيروتَ لؤْلؤَةً كوبالتيةً في هذا الشرق، هويتُها: حضارتُها في التاريخ، ومصيبتُها: سياسيُّون مرَّغوا البلاد بالأَلسن الخبيثة من كل العالَـم، وبسببهم يتناول الناس بلادَنا في الدوَل، بالسوء ظنًّا منهم أَنَّ هذا هو لبنان، فيما لا يعرفون منه إِلَّا واجهتَه الأَسوأ: هذه الطبقة الراهنة العفنة من الحكَّام والمسؤُولين.

“النادي الثقافي العربي” يَطرُدُ الفكرة الشوهاء مِن أَذهان مَن يجهلون أَهميةَ لبنان، ويؤَكِّد على أَنَّ لبنان الحقيقي، كأَرزه، لا تلوي صلابتَه عواصفُ ولا تُـحتِّت هيبَتَهُ أَعاصير.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى