الفكر الإِنساني في أَشهر خمسة كتب  (2 من 3)

كتاب “بحث الإِنسان عن معنى الحياة”

هنري زغيب*

ذكرتُ في الجزء الأَول من هذا المقال كتاب “التأَمُّلات” للأَمبراطور الروماني ماركوس أُوريليوس، وما كان له من أَثرٍ على جيله وعلى الأَجيال اللاحقة ممن رأَوا فيه كتابًا خالدًا للفكْر الإِنساني، بين خمسة كتُب عالَمية سأُعالِجها.

هنا في هذه الحلقة أُعالج الكتابين الثاني والثالث.

الكتاب الثاني: “بحث الإِنسان عن المعنى”

اشتُهر الطبيب النمساوي فيكتور فرنكل (1905-1997) بأَنه عالِم نفساني وجرَّاح دماغ، له 39 كتابًا مطبوعًا، وهو مُنشئُ نظرية نفسانية تساعد الإِنسان على أَن يجد معنى حياته، جاءت ثالثةً بعد نظريَّتَي سيغموند فرويد وأَلفرد أَدلِر. وهو هذا لُبُّ كتابه الشهير “بحث الإِنسان عن معنى الحياة” (1946)  يفصِّل فيه ثلاثة أَساليب لتجاوز صعوبات الحياة: إِنجاز المفروض إِنجازه على أَكمل وجه، الاهتمام والعناية بالأَقربين وفق ما تُسعف الأَحوال، واحتمال الآلام والمآسي الطارئة بكرامة لا تُؤْذَى.

وعن مقال نشرَه أَخيرًا “نادي كتاب الشهر” (تأَسس في نيويورك سنة 1926) استنادًا إِلى إِحصاء من مكتبة الكونغرس (وواشنطن)، أَن كتاب “بحث الإِنسان عن معنى الحياة” هو بين أَكثر عشرة كتب تأْثيرًا في الولايات المتحدة، وأَنْ عند وفاة الكاتب (1997) كان الكتاب سجّل مبيعَ أَكثر من 10 ملايين نسخة، وبات مترجَمًا إِلى 24 لغة عالَمية.

سينيكا – أَيقونة بالحفْر النافر

معنى الحياة وجوهر الوجود

محور هذا الكتاب: التفكير في معنى الحياة وجوهر وجود الإِنسان في كل ما يعمله أَو يفكر أَو يحلم به، انطلاقًا من احترام الذات ومقاربة الآخرين من دون التضحية بتلك الكرامة. ولأَن في التاريخ نماذجَ من هذا الطراز، أورد الكاتب تجربته الشخصية وتجارب السوى كي تصح المقارنة.

صحيح أَن الكاتب لا يُلغي إِمكان أَن يعاني الفرد من بعض الآلام في مسيرته، ما لا يمكن الإِنسان تجنُّبه، إِنما عليه أَن يجد السبب والمعنى للأَلم فيختار كيف يتعامل معه كي يمتلكَ القوة لتجاوزه. وبالمقابل، يعاكس الكاتب نظرية فرويد بأَن الدافع الأَول لدى الإنسان هو غريزة الشهوة، بل يرى أَن الدافع الأول هو ما يراه كلُّ فرد ذا معنى بالنسبة له. وهكذا تتَّخذ حياته طابعًا فرديًّا ذاتيًّا من جهة، ومن جهة أُخرى يتعامل مع الآخرين من هذا الطابع فيرتاح ويريح الآخرين.

وتلفت في الكتاب عبارته الأَخيرة: “يمكن أَخذُ كلِّ شيْءٍ من الإِنسان إِلَّا حريته في اختيار نهجٍ خاص لحياته”.

غلاف كتاب الرسائل

الكتاب الثالث: “رسائل من رواقي”.

لوسيوس آنايوس سينيكا (المعروف اختصارًا باسم “سينيكا”) ولد قرطبة (إِسبانيا) فجر السنة الرابعة قبل الميلاد وتوفي في روما عند السنة 65 للميلاد. كان فيلسوفًا رُواقيًّا في روما القديمة، وكان رجلَ دولةٍ مُهابًا، وكاتبًا مسرحيًّا ذا شأْن في الأَدب اللاتيني.

وتمامًا مثل ماركوس أُوريليوس، كان سينيكا في عصره من أَقوى رجال روما، يستشيره كبارُ أَعلامها في شؤُونهم الخاصة والعامة. سوى أَن استشاراته كانت في معظمها بشكل رسائل، تَـمَّ جمعها في هذا الكتاب “رسائل من رواقيّ”، معظم نصوصها نصائحُ في كيفية مواجهة الحزن والغنى والفقر والنجاح والسقوط والفشل والتربية وسواها من الأُمور الحياتية اليومية أَو المهنية. ومع أَنه رواقيٌّ ملتزم بمبادئ الرواقية المتشدِّدة في التقشف والمثابرة القصوى، كان أَحيانًا كثيرة يستمد نصائح للآخرين من تيارات فلسفية أُخرى، وفْق عبارته الشهيرة “لا يَهمُّني صاحب النظرية إِن كان خطُّها سليمًا ومفيدًا”. من هنا، تمامًا (كما “تأَمُّلات” ماركوس أُورليوس) ما زالت تلك النصائح السينيكية صالحة حتى اليوم لأَنها مفيدةٌ لكل زمان ومكان. وله مقولة أُخرى ساطعة: “إِن كنا صادقين في حياتنا، نجد حولنا مَن يُسدون إِلينا النصائح الجيدة”.

طبعة جديدة لدى “بنغوان” – لندن

سينيكا النَصُوح

هكذا سينيكا في عصره لعب دورًا مهمًّا جدًّا، وكان نَصوحًا ممتازًا لأَصدقائه الخُلَّص حوله (ومنهم الطاغية نيرون). ويظهر ذلك واضحًا في رسائله إِليهم، وفي نُصحه إِياهم من وجهة فلسفية مرةً أَو اجتماعية أُخرى، أَو حكمية مراتٍ كثيرة، وفْق ما يكون هو اختبر في حياته الشخصية.

وهنا أَهمية تجربته الروحية وما نجَم عنها في إِطلالات حكمته الفلسفية، لذلك لم يتورَّع أَحيانًا كثيرة عن أَن يكون ساخرًا بقسْوة ضد سُوء معاملة العبيد وضدّ المشاهد البربرية القاسية اللاإِنسانية التي كانت تجري في مُدَرَّج روما (الكولوسيوم).

هي هذه أَهمية هذا الكتاب في العصر اللاتيني الذهبي، وهي هذه رسائله “الأَخلاقية” الموجَّهة إِلى لوسيليوس، وعددُها 122 رسالة، صدرَت بترجمة ريتشارد مُوْتْ غومّير (1883-1969) في ثلاثة أَجزاء: الأَول سنة 1917 (65 رسالة)، الثاني سنة 1920 (26 رسالة)، والثالث سنة 1925 (31 رسالة).

ماذا عن الكتابين الرابع والخامس الباقيين؟

هذا ما أوضحه في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى