طَيفُ الحرب القاسية

بعد عشرين عاماً على إنتاجه وعرضه في صالات السينما، لا يزال فيلم المخرج اللبناني جان شمعون مهماً وذا صلة بالواقع الحالي كما كان دائماً.

جان شمعون: سينما الناس تؤرشف ذاكرة لبنان وفلسطين.بقلم عصام القيسي*

“كانت مدينة مضيافة ولكنها [كانت] بلا قلب”. هكذا يرى رامي، إبن الثانية عشرة، وهو الشخصية الرئيسة في فيلم جان شمعون “طيف المدينة”، بيروت في بداية القصة. وصل للتو وعائلته إلى العاصمة بعد فرارهم من جنوب لبنان غير المستقر عشية الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975.

صدر فيلم شمعون قبل 20 عاماً حيث يروي قصة رامي وهو ينشأ في بيروت خلال الحرب الأهلية. اللافت في الأمر هو أنه من خلال متابعة حياة رامي وبدون التضحية بقصة متماسكة، يلتقط الفيلم الكثير من المواضيع البارزة التي ميّزت سنوات الحرب. وهذه القضايا بقيت من دون حل، ولا يزال المجتمع اللبناني يعاني منها.

يُظهر الفيلم كيف كانت بيروت موطناً للنازحين، وهي تضم اليوم لاجئين من فلسطين وأخيراً لاجئين من سوريا. في ما يزيد قليلاً عن ساعة ونصف، تمكن شمعون من معالجة الحرب مع إسرائيل في الجنوب، والتواجد الفلسطيني المسلح في لبنان، والرد على الفلسطينيين من خلال صعود الميليشيات المسيحية، واندلاع الصراع الطائفي، التوترات في بيروت وانقسام العاصمة إلى نصف شرقي ونصف غربي أثناء الحرب، وهجرة جماعية للبنانيين، والعديد من المواضيع الأخرى.

ومع ذلك، تم تسليط الضوء على هذه المواضيع في أفلام أخرى عن حرب لبنان، ولكن يتفوّق فيلم شمعون (وهو فريد) في إدراجه لمواضيع تُذكّرنا بالتوجّه السياسي للمُخرِج واهتمامه بالقضايا الإنسانية. ومن الأمثلة على ذلك تركيزه على ظهور مبادرات مدنية من أجل الحقيقة والعدالة لأولئك الذين اختفوا خلال الحرب، والتي غالباً ما كانت تقودها النساء. في الفيلم، يلتقي رامي الشاب بسهام، وهي أم شابة اختطف زوجها أثناء النزاع. على الرغم من العقبات التي تعترض طريقها، فهي مصممة على العثور عليه. وتنضم سهام إلى مجموعة من النساء اللواتي يناضلن جميعاً من أجل الحقيقة حول أحبائهن المختطفين. تستند قصة سهام إلى قصة وداد حلواني، مؤسسة ورئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان. ومن المثير للإهتمام أن حلواني ظهرت في الفيلم كواحدة من النساء اللواتي يُشكلن جزءاً من هذه المبادرة المدنية، ويشاركن في الإحتجاج أمام جماعة الميليشيا التي انضم إليها رامي في النهاية.

تمكّن شمعون أيضاً من ربط الحرب الأهلية بفترة ما بعد الحرب في لبنان. عند وصول رامي وعائلته إلى بيروت، يبحث الصبي ووالده عن أبو سمير لبعض الأعمال. أبو سمير رجل ينحدر من القرية عينها التي هم منها. عشية الحرب كان يعمل في مرفأ بيروت حيث نرى صناديق بنادق آلية يتم تهريبها إلى لبنان. خلال الحرب، أصبح قائد ميليشيا، واحد من بين العديد من المُتورّطين في اختطاف أفراد مثل زوج سهام. بنهاية الحرب، أصبح أبو سمير رجلاً “يمكنه أن يجد لنا وظيفة في الدولة حتى نأخذ الأمور بسهولة”، كما يقول أحد مقاتليه السابقين. بصفته فاعلاً عسكرياً خلال الحرب، نرى أبو سمير يتحوّل إلى فاعل اقتصادي مع نهاية الحرب، بعد أن قضى شقيقه السنوات الأخيرة من الصراع يشتري عقارات في بيروت بثمن بخس. بحلول العام 1990، كان أبو سمير هو صاحب القرار في البناء في بيروت وفي الأماكن التي ستمر فيها الطرق السريعة والأوتوسترادات الجديدة.

في مشاهد قليلة فقط، تمكّن شمعون من تصوير كيف أن الحرب الأهلية لم تنتهِ حقاً بل تحوّلت إلى حربٍ باردة من نوع ما. كانت الدولة اللبنانية مُقسَّمة بين المنتصرين في الحرب – أولئك الذين رعتهم سوريا ورأتهم بإيجابية عندما انتهت الحرب في العام 1990. تم نزع سلاح الميليشيات، باستثناء “حزب الله”، وفي كثير من الحالات تم دمج عناصرها في الدولة. تم نقل الممتلكات والثروات داخل المدن مثل بيروت من المواطنين إلى قادة الميليشيات السابقين مثل أبو سمير، أو أباطرة العقارات مثل شقيقه، الذين يمكنهم كسب المال بسهولة من خلال الأساليب غير المشروعة أو شراء العقارات بأسعار منخفضة. في آب (أغسطس) 1991، تبنّت الحكومة اللبنانية قانون عفو ​​عام يسمح لأمراء الحرب السابقين بإعادة تدوير أنفسهم إلى أدوار ما بعد الحرب. إن العدالة لأناس مثل سهام وآلاف آخرين قد نُسِيَت ووُضِعت جانباً.

حتى بعد مرور 20 عاماً على صدوره وعرضه في الصالات، لا يزال “طيف المدينة” فيلماً مهماً ذا صلة للغاية بالواقع الحالي، خصوصاً للأجيال التي لم تعش الحرب. من المؤسف عدم توفره على “نيتفليكس” (Netflix) في الشرق الأوسط، على الرغم من حقيقة أن خدمة البث المباشر أضافت أخيراً عشرات الأفلام اللبنانية إلى مكتبتها. يشير الفيلم إلى أن الحرب ما زالت جرحاً مفتوحاً لأن العدالة غائبة.

ذَكَّرَتنا بيروت في آب (أغسطس) الماضي، عندما أظهر انفجار المرفأ مرة أخرى “قسوة” بيروت، مما تسبب في مقتل أكثر من 200 شخص، وإصابة الآلاف، وتدمير نصف المدينة.

إن النظام السياسي اللبناني في فترة ما بعد الحرب المُكَوَّن من أمثال أبو سمير، بينما قد ينهار اليوم مع انهيار الاقتصاد، لا يزال قائماً. القادة السياسيون عازمون على سحب العدالة من تحت البساط لضحايا تفجير المرفأ، كما فعلوا مع ضحايا الحرب الأهلية. ومع ذلك، تظهر مبادرات للحفاظ على ذاكرة هؤلاء الضحايا. لكن لإيجاد سلام حقيقي، يجب أن تكون هناك عدالة، ومن الصعب أن نرى كيف يمكن تحقيق العدالة عندما لا يزال “أبو سميرات” لبنان في السلطة.

  • عصام القيسي هو إعلامي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @issamkayssi

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى