وَعدُ عبّاس

البروفِسور بيار الخوري*

لطالما اعتقدتُ أنَّ عقولَ الأمن هي أفضل عقولِ الدول، بل الأكثر عقلانية. رجالٌ ونساءٌ يعرفون الكثير ويقولون أقلَّ المُمكن. وينطبق ذلك إجمالًا على رجال الأمن البارزين في لبنان منذ الاستقلال.

شاهدتُ بالأمس المُداخلة التلفزيونية للمدير العام السابق للأمن العام اللواء عبّاس ابراهيم، وشعرتُ بأني أُشاهدُ زلزالًا سياسيًا كبيرًا يُعادلُ في السياسة رائحة الدم الكبير في فلسطين وبدرجةٍ أقل على الحدود اللبنانية.

تحدّثَ الرجلُ بالكثير من الثقة، وهو من الذين لم نَعتَد أن نسمع منه أي “هَوبَرة” في تناول السياسة أو الأمن، عن “عصرِ فلسطين” الذي ما لبث أن فسّره بأنه عصرُ الدولة الفلسطينية الواحدة وليس أقصى ما كان يطمح إليه العرب قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وهو حلّ الدولتين العتيد.

لقد اضطرب الموقف العربي عبر ثمانية عقود من رمي اليهود في البحر إلى القبولِ بأمرٍ واقعٍ مرير يُعبّرُ عنه واقع السلطة الفلسطينية بعد ثلاثين عامًا على أوسلو، في ظلِّ طموحٍ صهيونيٍّ ثابت ب”الترانسفير”.

تحدث ابراهيم عن مُعطياتِ ما بعد “طوفان الأقصى” مُتَوَقِّعًا أن تعودَ غالبية ساكني إسرائيل إلى بلدها الأصلي ويعود الفلسطينيون أو يبقون (أكانوا عربًا أو يهودًا) في أرضهم.

رؤيا يُستمَدُّ أساسها من أنَّ مَن أتوا إلى “أرضِ الميعاد” طمعًا بأمنٍ واستقرارٍ لم يؤمّنّه لهم شتاتهم خصوصًا في أوروبا، لن يبقوا في فلسطين التي لن تكون بعد اليوم أرض آمان لهم.

كأني أقرأ أنَّ ابراهيم يرى أنَّ إسرائيل ستكون مُخَيَّرة بين النموذَجَين اللبناني أو السوري بعد الحرب: إما دولة فلسطينية متعددة الأديان كما لبنان، وهو الحل الذي يضمن حق اليهود بمقدساتهم وأثرهم الاقتصادي كما حق المسيحيين والمسلمين، وإما أرضٌ بحدودٍ سائلة تتدخل فيها عشرات الدول ومئات القوى.

القلق الذي يعتري الإسرائيليون اليوم قد يدفع الأكثر تطرفًا لمحاولة أخذ زمام الأمور بيدهم، وربما يؤدي ذلك لبداية تفكك إسرائيل من الداخل ليضاعف ذلك من مفعول القلق في الهجرة المعاكسة والفوضى الأمنية.

رجل الواقعية السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية، نايف حواتمه، كان طرح مفهوم الدولة الديموقراطية للعرب واليهود، كانت إسرائيل في اقصى تألقها وكان ذلك يعني بقاء المهاجرين الأقوياء مع الفلسطينين الضعفاء، وهو حلٌّ لم يقبله لا العرب ولا الإسرائيليين بأيِّ حال.

ما الذي تغيَّرَ اليوم لجعل شخصية غير شعبوية بحجم عباس ابراهيم أن يتوقّعَ حل الدولة الواحدة وأن يتحدث بثقة عالية عن عصر فلسطين المقبل؟ أهو منسوب الخوف لدى الإسرائيليين الذي لم يعد من الممكن نزعه بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)؟

يقول صاحب الوعد المشؤوم آرثر بلفور: “ليس في نيّتنا حتى مراعاة مشاعر سكّان فلسطين الحاليين. إنّ القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية، وسواء أكانت الصهيونية على حقّ أم على باطل، جيّدة أم سيّئة،… وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمئة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة”.

فهل باتت مراعاة مشاعر الإسرائيليين مستحيلة، وهي التي قامت بالضبط على عدم مراعاة مشاعر الفلسطينيين؟ هل انتهى الأساس المادي لوعد بلفور؟

هل يمكن تسمية ما قاله رجل الأمن اللامع بـ”وَعد عبّاس”؟

البروفسور بيار الخوري هو باحثٌ أكاديمي لبناني وكاتب في الاقتصاد السياسي. وهو حاليًا عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: info@pierrekhoury.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى