دُروسُ النيجر… سِجالُ السيادة والديموقراطية

محمّد قَوّاص*

جرى ترتيبُ الصفوفِ الدولية على عَجَلٍ في اليوم التالي لاندلاعِ الحربِ في أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022. وبدا أنَّ الدولَ الكبرى مَعنيةٌ مُباشرةً بمآلاتِ تلك الحرب، وأنَّ انخراطَها واجبٌ يستلزمُ كلَّ الحساباتِ الجيوستراتيجية في الكَرِّ والفَرِّ والإقدامَ والتحفّظ. وسهُلَ هنا رصد النظام الدولي المُتمَوضع حول الحرب هناك وتطوّر مواقف الصين وأوروبا وأميركا كما مواقف دول الجنوب. بالمقابل يسهل رصد كل هذا الارتباك حيال انقلاب النيجر.

بدا عسكرُ النيجر مُمسكين بزمام المبادرة، خُبراءً في شؤون إفريقيا، مُدرِكين لخرائط العالم، واعين لمصالح العواصم الكبرى، والأهم من كل ذلك، مُكتشفين لأهمية بلدهم، موقعًا وثروات وحسابات تضع الغرب والشرق في الميزان. بدت خارطة طريق الانقلاب محسوبة متدرّجة تخترق المراحل باتزّان وحصافة وبرودة.

سنعرف يومًا مَصدرَ تلك المواهب التي أظهرها قادة الانقلاب في إدارة انقلابهم وحشد الدعم الشعبوي الجماهيري حوله وجعله مطلب النيجريين للتخلص من سطوة المستعمر القديم-الجديد. سنعرف حيثيات ترك الرئيس المخلوع محمد بازوم على تواصلٍ مقنّن مع العالم يسمح أن تطمئن العواصم عن أحواله وانتقاء مَن يستطيع أن يلتقي به. ولا شكّ أن تلك الاتصالات هي التي مكّنت الإنقلابيين من الاستماع إلى الرئيس و”تركيب ملف” خيانة عظمى يسمح بمحاكمته.

أجاد أعضاء مجلس الانقلاب وقائدهم بمهارة مقاربة المشهد الدولي العام وحُسن التعامل مع مواقف الخارج ضد انقلابهم. لم يطلّ بهم الوقت ليُدركوا ركاكة تهديدات المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) وتصدّع صفوفها في أمر تهديد النيجر باستخدام الخيار العسكري لتقويض الانقلاب وإعادة الحياة الدستورية في البلاد وفرض عودة بازوم إلى منصبه رئيسًا شرعيًا مُنتَخبًا.

أظهرت الدول الإفريقية عامةً ودول غرب إفريقيا خاصة إنقسامًا واضحًا في كيفية التعامل مع الحالة الانقلابية في النيجر. فشل الاتحاد الإفريقي والإيكواس في تعليق عضوية النيجر عقابًا على انقلابِ عسكرها، وبدت دول القارة السمراء لا تملك مصداقية في شأن تسيير الجيوش لإسقاط الانقلاب وهي غير قادرة على الاتفاق في ما بينها على اتخاذ هذا التدبير الديبلوماسي السياسي الذي يحمل رمزية أقل دراماتيكية من شنّ الحروب.

لم يستقبل قائد الانقلاب المبعوثة الأميركية فكتوريا نولاند التي عجَّلت إدارة الرئيس جو بايدن بإرسالها للتحاور مع الانقلاب والانقلابيين. كان غامضًا في نيامي موقف الحَرَد من مبعوثة واشنطن في وقتٍ لم يُظهِر القادة الجدد انزلاقًا صوب موسكو. سعوا إلى رشاقة في التعامل الديبلوماسي مع الخارج. اختاروا عدم استقبال وفد الوساطة الثلاثي الممثل للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والإيكواس. لكنهم استقبلوا لاحقًا وفدًا نيجيريًّا، قبل أن يُعلن عن موافقة المجلس العسكري على التفاوض.

في عدّة التفاوض الإعلان عن نيّة المجلس العسكري محاكمة الرئيس المخلوع بتهمة الخيانة العظمى. استفزّ الأمر العواصم المَعنية، وجاء مُتناقضًا مع فكرة التفاوض نفسها. بدا أن الإنقلابيين يراكمون أوراق قوة ويهتدون كل يوم، في ما يستجد في الخارج وما يكتشفونه في الداخل، إلى أوراقٍ جديدة. وعلى الرُغم من أن ردّ الفعل الإفريقي والدولي كان صاخبًا حيال انقلاب النيجر ولم يكن بهذا التوتر وهذه الشدّة حيال انقلابات إفريقية سابقة، غير أن ردّ فعل الانقلابيين كان ناضجًا نجح في احتواء العاصفة والتدثّر باحتضان داخلي لافت وإن كان لا يمكن الركون إلى حقيقته تحت جناح بنادق العسكر.

والملفت الذي يحتاج إلى وقت لاستنتاجه يكمن في سقوط فكرة الديموقراطية، أو هكذا تُظهره الأعراض الأولى في النيجر، كرافعة مخلّصة لإفريقيا من أمراضها. لم يُظهر الشارع النيجري حماسة بالمستوى الكبير دفاعًا عن الرئيس الذي انتُخِبَ عبر صناديق الاقتراع. صحيحٌ أن الجيشَ سارعَ إلى قمعِ أيِّ تجمّعٍ يُطالبُ بعودةِ بازوم إلى السلطة، غير أنَّ سهولةَ هذا القمع تعودُ إلى تواضعِ حجم الاعتراض وعدم تمتّعه بحاضنةٍ مُجتمعيةٍ واسعة. وقد يُمثّلُ الأمرُ واجهةً لما وصفه المفكر والمؤرخ الكاميروني أشيل مبامبي بأنه صراعُ إفريقيا للخيار بين الديموقراطية أو النزوع السيادي الجديد.

وجب انتظار ما ستكشف عنه الأيام بشأن مستقبل الديموقراطية في النيجر. لكن عصبية تروج في بلدان إفريقية ترى في العسكر حلًّا للفساد والارتهان للخارج وتخلّصًا نهائيًا من سطوة فرنسا وغيرها. الأمر يَشي بالعودة إلى القبول بالاستبداد وسلطة العسكر بديلًا من ديموقراطية بات أفارقة يعتبرون أنها غطاءٌ وسبيلٌ لإقامة سلطات “خانعة خاضعة” للأمر الواقع الذي يستغلُّ ثروات البلاد ويقف وراء حالة الفقر والعوز والتخلّف التي تعيشها.

وإذا كان ما سبق هو النصّ الذي يقوم عليه خطاب الانقلاب، إلّا أنَّ تمدّدَ مفاعيلة في السنوات الأخيرة على غينيا وبوركينا فاسو ومالي وصولًا إلى النيجر قبل أسابيع قد يَشي باكتمالِ قاعدةٍ إيديولوجيةٍ يلتقي بها العسكر مع أطروحاتٍ حداثية راجت لدى جيلٍ إفريقي جديد في العقدَين الماضيين يُحمّلُ الخارج الاستعماري مسؤولية كارثة إفريقيا واقتراح التخلّص من الارتهان للخارج من خلال سلطة العسكر لا سلطة صناديق الاقتراع.

واللافت، وفي ظلّ ما أظهرته الإيكواس من تعجّل وانفعالية وانقسام، وفي ظلِّ مُسارعةِ دولٍ أوروبية مثل إيطاليا وإسبانيا وغيرهما إلى عدم دعم أيِّ تدخّلٍ عسكري، وفي ظل تميّز الولايات المتحدة في تجنّب استخدام كلمات مثل انقلاب وانقلابيين ونزوعها، وفق تصريحات وزير الخارجية انتوني بلينكن، باتجاه حلٍّ سلمي للحدث، أنَّ العالم بدا مُتعايشًا مع الانقلاب، قابلًا بأمره الواقع، ساعيًا إلى الاتفاقِ وليس إلى الصدام معه.

يستفيدُ أهلُ الانقلاب من حاجة فرنسا والولايات المتحدة، اللتين تمتلكان قواعد عسكرية في النيحر (إلى جانب ألمانيا وإيطاليا)، إلى الحفاظ على مكانِ ومكانةِ البلد في خطط الحلف الأطلسي لمحاربة الارهاب. يدركون أنَّ العالمَ مُندفِعٌ نحو الطاقة البديلة وأنَّ مخزونات النيحر من اليورانيوم أساسية ومفصلية في هذا الصدد. يعرفون أنَّ صراعَ الغرب مع روسيا والصين كما المنافسة الجارية داخل هذا الصراع في إفريقيا تقوّي من أوراق عسكر النيجر، وتتيح لهم هامشَ مناورة واسعًا للعب على تناقضاتِ الكبار.

وإذا كان من المُبكر الركون إلى قراءةٍ واحدة لحدَثِ النيجر، إلّا أنَّ الاستمرارَ في إظهارِ المُعارضين للانقلاب في إفريقيا والعالم الارتباك وفقدان وحدة البوصلة مؤشّرٌ قد لا يكون مؤقتًا أو عرضيًا، بل هو من أعراضِ تحوّلٍ عام يجري في النظام الدولي بحيث تسقط نصوصٌ قيميّة ذات أصولٍ غربية تسنّ أصول الحكم والحوكمة في العالم، مقابل صعود فضاء قد يكون مرحليًا يقوم على حالة مُساكنة بين القانون الدولي و”التبرّم الإفريقي” لا الصدام معه.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى