لاستعادةِ مِصداقيّةِ مَصرف لبنان، استقلالِيَّتُهُ أمرٌ أساس

يدفع لبنان ثمن سنواتٍ من السياسات المالية وسياسات الديون غير المستدامة، والتي اعتمدت على أسعار الصرف الثابتة.

رياض سلامة: ترك إرثًا ثقيلًا.

ناصر سعيدي*

يواجه لبنان الآن أكبر أزمة مالية في التاريخ، وهي الإرث الثقيل الذي تركه رياض سلامة، الحاكم السابق لمصرف لبنان. تعهّدَ الحاكم الجديد بالإنابة، وسيم منصوري، بأن البنكَ المركزي “يجب أن يتوقّفَ تمامًا عن تمويل الحكومة خارج الإطار القانوني”، داعيًا مجلس النواب إلى إقرارِ قانونِ تمويلِ الدولة.

وهذا غير ضروري ويُشكّلُ سابقةً خطيرةً رفضها حكامٌ سابقون مثل إدموند نعيم. فقانون النقد والتسليف – القانون المصرفي اللبناني – يوفّرُ قدرًا واسعًا من الاستقلالية لمصرف لبنان مع شروطٍ مُحَدَّدة وصارمة بشأن تمويل الحكومة. لقد تمَّ انتهاكُ القيود القانونية التي يفرضها قانون النقد والتسليف، بما في ذلك المبدأ التشغيلي الذي ينصُّ على أن البنك المركزي لا يمنح ائتماناتٍ للحكومة والقطاع العام (المادة 90 من قانون النقد والتسليف). كيف تمَّ ذلك؟

قام مصرف لبنان بتمويلِ العجز غير المستدام في الموازنة (بمتوسط 8.4% من الناتج المحلي الإجمالي بين العامين 2014 و2019) وتحويل الدين العام إلى نقد، في محاولةٍ للحدِّ من العبء المتزايد لمدفوعات الفائدة. ويشمل الإنفاق الحكومي المُسرِف دعم توليد الكهرباء لشركة كهرباء لبنان، والذي وصل إلى 1.8 مليار دولار في العام 2018، أو 3.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وكان هذا أكبر استنزاف للمالية العامة، في حين كانت الشركة توفّرُ حوالي ثلاث ساعات من الكهرباء يوميًا. وارتفع الدين العام من 139 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2014 إلى 172 في المئة في العام 2019. وتسارعَ هذا إلى 282.3 في المئة في العام 2022، في حين اتسع عجز الحساب الجاري من 26.2 في المئة إلى 28.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بين العامين 2014 و2019.

كما قام مصرف لبنان بتوسيع تمويل القطاع العام من خلال توفيرِ تمويلٍ تفضيلي بأسعارٍ مدعومة للإسكان والعقارات والتعليم والسياحة والابتكار والشركات الصغيرة والمتوسطة. وكان هذا بمثابة إنفاقٍ شبه مالي: فقد قام مصرف لبنان بتمويل الأنشطة التي كان ينبغي أن تُمَوَّلَ من موازنة الحكومة تحت التدقيق البرلماني. وقام مصرف لبنان بتوسيع الإنفاق شبه المالي بدون إفصاحٍ علني أو شفافية في ما يتعلق بالمبالغ والمستفيدين. ونتجَ عن ذلك غيابُ المُساءلة وتنامي المحسوبية وتمويل الأنشطة بناءً على طلب السياسيين وأعوانهم، ما أدّى إلى اتساعِ شبكة الفساد.

بعدما سوّق عمليته تحت عنوان “الهندسة المالية”، قام مصرف لبنان بإنقاذ النظام المصرفي في العام 2015 بمبلغ يصل إلى 5.3 مليارات دولار (حوالي 12.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي) من دون موافقة مجلس إدارة مصرف لبنان أو الحكومة أو البرلمان. كان تمويل مصرف لبنان محاولة مُكِلفة وعقيمة لتعويض آثار سياسة سعر الصرف الفاشلة وسعر التعادل المُبالَغ في تقديره وتسعيره. لكن تمويل مصرف لبنان كان مناسبًا للحكومات المتعاقبة، إذ لم تكن مضطرة إلى دفع الفاتورة وزيادة الضرائب.

وبشكلٍ أعّمّ، فإن أسعار الفائدة المتزايدة الارتفاع التي كان مصرف لبنان يدفعها لجذب الودائع من البنوك التجارية وتدفّقات رأس المال لزيادة احتياطاته من العملات الأجنبية والدفاع عن سعر التعادل الثابت لليرة اللبنانية والمُبالَغ في تقديره وتسعيره إلى حدٍّ كبير، أدّت إلى انكماشٍ حاد في الائتمان المُقَدَّم للقطاع الخاص. وكان سعر الصرف الحقيقي المبالغ في تقديره بمثابة ضريبة على الصادرات وامتصَّ الواردات، ما أدّى إلى تزايد العجز في الحساب الجاري. وكانت القطاعات الإنتاجية في لبنان تعاني بسبب سياسة سعر الصرف الثابت التي ينتهجها مصرف لبنان، ولم تتمكن من الحصول على التمويل من القطاع المصرفي.

لقد تمَّ تمهيد الطريق للانهيار الاقتصادي والمالي من خلال تمويل مصرف لبنان للعجز المزدوج في الحساب الجاري والموازنة. إنفجر المخطّط ال”بونزي” لمصرف لبنان، الناجم عن إغلاق البنوك في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، وفقدان الثقة والتهافت على البنوك. في نهاية المطاف، تخلّفت الحكومة عن سداد سندات اليورو المستحقّة في آذار (مارس) 2020. وأعدّت حكومة حسان دياب، رئيس الوزراء آنذاك، خطةً للتعافي المالي تضمّنت إصلاحات مالية ومصرفية وهيكلية. وقد تم تخريب ذلك من قبل مصرف لبنان والمصالح السياسية والمصرفية الخاصة التي تقاوم الإصلاح وإعادة الرسملة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي.

وبالمثل، لا يزال الاتفاق على مستوى موظفي صندوق النقد الدولي المُبرَم في نيسان (أبريل) 2022 متوقّفًا بدون أيِّ إشارةٍ إلى استعداد حكومة تصريف الأعمال والسياسيين في لبنان لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة المُتَّفَق عليها مع الصندوق. ومع عدم قدرة الحكومة على الاستفادة من أسواق الدين المحلية أو الأجنبية، تمَّ اللجوء بشكلٍ متزايد إلى تمويل مصرف لبنان من خلال السحب من أصول العملات الأجنبية (في الواقع، ودائع العملاء التي أودعتها البنوك لدى مصرف لبنان) وطباعة النقود. وأدى ذلك إلى انهيار سعر الصرف (انخفاض بنسبة 98.5 في المئة) واقتراب معدلات تضخم  من ثلاثة أرقام من التضخم المفرط (296 في المئة في العام 2023)، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 40 في المئة، وتوسع الاقتصاد غير الرسمي (الذي لا يدفع ضرائب) القائم على النقد، مع تزايد دولرة المعاملات. وكانت النتيجة الصافية لأنشطة مصرف لبنان التمويلية هي الخسائر المتراكمة التي تجاوزت 76 مليار دولار، والتي تم تعويضها في الموازنة العمومية لمصرف لبنان من خلال خلق “أصول أخرى” وهمية، كما ورد في تقرير التدقيق الجنائي لشركة “ألفاريز ومارسل” (Alvarez & Marsal).

إنَّ منصوري ونواب حاكم مصرف لبنان الذين تم تمكينهم حديثًا يواجهون مهمة شاقة تتمثل في حل بعض القضايا التي تتعلق بتراث المؤسسة. فقد اقترحوا إعادة بناء الثقة من خلال مقترحات تشمل الموافقة على الموازنة وتفعيل الإصلاحات المالية (قانون مراقبة رأس المال بحلول نهاية أغسطس/آب، فضلًا عن قانون إعادة هيكلة رأس المال المالي). يحتاج مصرف لبنان إلى الانتقال إلى نظام سعر صرف مُعَوَّم، والابتعاد عن أسعار الصرف المتعددة المسّببة للتشويه ونشر الفساد في ظل منصّة “صيرفة” الحالية، إلى منصة واحدة (على سبيل المثال بلومبيرغ أو رويترز) واعتماد سياسة نقدية تستهدف التضخم.

ولوقف تمويل الحكومة، يوفر قانون النقد والتسليف السلطة للبنك المركزي، إذا قرر القيام بإقراض الحكومة بموجب الشروط التي يفرضها. وينبغي أن يكون هذا القرض المشروط بالليرة اللبنانية لتجنب المزيد من استنزاف “احتياطات” العملة الأجنبية (التي تقل الآن عن 6.3 مليارات دولار). وهذا سيجبر الحكومة على الاستفادة من سوق الصرف الأجنبية المحلية إذا كانت بحاجة إلى تمويل الإنفاق بالعملات الأجنبية، وبالتالي تحمل آثار انخفاض سعر الصرف لاقتراضها من العملات الأجنبية. وهذا من شأنه أن يفرض انضباط السوق على الحكومة، وهو ما كان غائباً في ظل السياسة الحالية.

وكجزء من هذه الشروط، ينبغي لمصرف لبنان أن يطلب من الحكومة تنفيذ مجموعة من سياسات العلاج بالصدمة. إن استعادة الثقة في الاقتصاد ستنبع من إصلاحاتٍ اقتصادية عميقة وشاملة. وينبغي أن تشمل هذه الإصلاحات إعادة هيكلة الدين العام والنظام المصرفي (بما في ذلك مصرف لبنان وخسائره)، وإصلاحات الحوكمة وإلغاء الدعم من طريق الإلغاء الفوري للتحويلات إلى المجالس الوطنية المتعثّرة والمُبتلاة بالفساد، والشركات المملوكة للدولة والكيانات الحكومية ذات الصلة.

ولابدّ أن تكون هناك أيضًا استراتيجية مالية لتحسين الموارد المالية للدولة بشكل مستدام، من خلال تقليص حجم الحكومة وتحريك الإيرادات (على سبيل المثال، من خلال توسيع القاعدة الضريبية وتحسين كفاءة إدارة الضرائب) وترشيد الإنفاق من خلال تنفيذ إصلاح نظام المشتريات العامة. وفي حين أن إعادة الهيكلة المالية ذات المصداقية تتصدّر قائمة الإصلاحات المطلوبة، إلّا أنها يجب أن تكون مدعومة بمؤسسة الضوابط والتوازنات، والمساءلة العامة، فضلًا عن الشفافية والإفصاح.

يدفع لبنان ثمن سنوات من سياسات سعر الصرف والسياسات المالية والديون غير المستدامة. إن رفض تمويل الحكومة بشكل صريح من شأنه أن يجبرها بدلًا من ذلك على اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، حيث يعتمد تمويله (وكذلك أي مساعدات وتمويل دولي) على التنفيذ، وليس على الوعود الفارغة، بل على الإصلاحات. وإلّا فإَّن مصرف لبنان سيفقد مصداقيته المتبقية، وسيعود مرة أخرى إلى كونه مموِّلًا للحكومة، وبالتالي المخاطرة بفترة طويلة من التضخم المفرط. إن استعادة المصداقية لمصرف لبنان تتطلّب ثباته على استقلاليته عن الحكومة والبرلمان، فضلًا عن إفهام السياسيين على أنهم سيُحاسَبون على تقاعسهم وسياساتهم غير المسؤولة. وفي غياب الإصلاحات الشاملة، سيواصل لبنان الانزلاق إلى هاوية الجحيم.

  • ناصر سعيدي هو رئيس شركة ناصر سعيدي وشركاه. كان سابقًا وزيرًا للاقتصاد اللبناني ونائبًا لحاكم مصرف لبنان المركزي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى