أَيُّ رسائل لإبعادِ شمخاني من الاتفاق مع السعودية؟

محمّد قوّاص*

قد يَندَرِجُ قرارُ استقالةِ أو إقالةِ علي شمخاني من منصبه أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني في إطارِ مُناقلاتٍ محلّية أو مناكفات بيتية. غَيرَ أنَّ التخلّصَ من الرجلِ الذي مَثَّلَ بلاده في التوقيعِ على الاتفاق السعودي-الإيراني في بكين في 10 آذار (مارس) الماضي يطرحُ أسئلة كثيرة بشأن ظروف الحدث ومعانيه ورسائله.

ولئن يُعتَبَرُ الاتفاقُ الذي تمَّ برعايةِ دولةٍ كُبرى مثل الصين بين الرياض وطهران لافتًا ومُفاجِئًا وتاريخيٍّا يُفتَرَضُ أن يُغيِّرَ المشهدَ الإقليمي العام، فإن تلك الأهمية كانت لوحدها سببًا لعدم الإقدام على إبعاد شمخاني أو على الأقل تأجيل الأمر إلى أجَلٍ لاحقٍ أو حتى التهيّب من أمر تغيير رأس المجلس لما قد يكون له من تداعيات على الاتفاق مع السعودية، ولما قد يحمله من رسائل ملغّمة في هذا الصدد.

والمجلسُ الأعلى للأمنِ القومي الإيراني هو هيئة قيادية في البلاد تجمعُ تحت سقفها بين القيادة المدنية والعسكرية والأمنية، ويلعب دورًا رئيسًا في رسم السياسات العامة للأمن الخارجي والوطني. وهذا يعني أنَّ المجلسَ يرعي سياسة إيران الخارجية التي تُنَفّذها وزارة الخارجية، وأنَّ تغييرًا لهوية الأمين العام للمجلس قد تعني أيضًا تغييرًا لتلك السياسة، بما في ذلك ما تحقّق بالنسبة إلى العلاقة مع الرياض في بكين.

وكان يُفتَرَضُ إبعاد شمخاني (الذي عيّنه الرئيس السابق حسن روحاني في المجلس) عن منصبه في العام 2021 بعد تولّي الرئيس إبراهيم رئيسي مهامه كرئيسٍ للجمهورية. غير أنَّ معلومات أفادت بأنَّ المرشد الأعلى علي خامنئي قد تدخّلَ لإبقاء الرجل في منصبه للإشراف، بصفته أيضًا مُمَثِّلًا له، على مجموعةٍ من الملفّات المُتعلّقة بالسياسة الخارجية للبلاد وفي مقدّمها المفاوضات في فيينا، ومن أهمّها المفاوضات التي جرت مع السعودية في بغداد، انتهاءً بما تمّ التوصل إليه في بكين.

وليست مصادفة أن تُوكل إيران ومرشدها أمرَ العلاقة الجديدة مع السعودية لعلي شمخاني بالذات. فالرجلُ عربيُّ الأصل عيّنه رئيس الجمهورية الإصلاحي الأسبق محمد خاتمي، الذي شغل المنصب ما بين 1997 و2005، وزيرًا للدفاع. وتولّى شمخاني آنذاك ملف تطوير العلاقات مع الرياض ما أدّى إلى إبرام الاتفاقية العامة للتعاون في العام 1998، ثم اتفاقية التعاون الأمني في العام 2001. والاتفاقيتان هما اللتان قرّرَ اتفاق بكين قبل أكثر من شهرين على إعادة تفعيلهما بين البلدين.

وقد لا يكون لأمرِ إبعاد شمخاني عن منصبه علاقات مباشرة باتفاق بكين، أو يكشف عن مراجعةٍ داخليةٍ ما للصفقة الصينية بين البلدين. غير أن تعيين الجنرال علي أكبر أحمديان، وهو شخصية غير معروفة على الساحة السياسية ولم يُعرَف له موقفٌ أو رأي في السياسة الخارجية لبلاده، يطرح تساؤلات بشأن توجّهات إيران المقبلة مع دول العالم بما فيها السعودية.

فالرجلُ قائدٌ سابقٌ للقوات البحرية التابعة للحرس الثوري، وعضو في مجلس تشخيص مصلحة النظام. بمعنى أن قراءة سيرته الذاتية تقود إلى استخلاصِ مخرجاتٍ مُرتَبطة بخريطةِ السلطة في الداخل من دون أن تفرجَ عن تأثير الرجل في توجّهاتِ بلاده الجيواستراتيجية. كما أن الحدثَ أتى بعد أيامٍ على نصيحة المرشد الأعلى لديبلوماسيين إيرانيين التقاهم في 20 أيار(مايو) بـ”إظهارِ المرونة” التي “لا تتعارَض مع المبادئ”.

يأتي الحدثُ في مرحلةٍ لم يجفّ فيها بَعد حبرُ الاتفاق السعودي-الإيراني الذي لم يظهر حتى الآن وبشكل قاطع خيره من شرّه. يأتي أيضًا في ظلِّ انطباعاتٍ بأنَّ وثيقةَ الاتفاقِ كُتِبَت بقلمِ رصاصٍ وتحتاجُ إلى عبورِ امتحاناتٍ صعبة، مع ملاحظة أنَّ ما صدرَ عن طهران حتى الآن لا يُوحي بأيِّ تراجعٍ عن نصّ بكين، وأنَّ ما يصدرُ عن المسؤولين الإيرانيين، وحتى عن أذرع طهران الخارجية، لم يَحد عن السياسة التي تعتمدها إيران مع السعودية والمنطقة العربية منذ اتفاق بكين.

وعلى الرُغم من التقدّم البطيء في ملف اليمن، وتأكيد طهران من خلال زيارة رئيسي لدمشق على الحلف الاستراتيجي مع سوريا “رُغمَ التحوّلات في المنطقة”، وعدم مرونة “حزب الله” في لبنان في مسألة دعم مرشّحه سليمان فرنجية الذي لا يحظى حتى الآن بدعم الرياض وحلفائها، فإن الأمرَ يُعبّرُ أيضًا عن صعوبةِ انتقالِ طهران من سياسةٍ عقائدية إلى سياسة براغماتية بإيقاعاتٍ سريعة. ويُعبّرُ الأمرُ أيضًا عن حالةِ صراعٍ داخلي في إيران ما زالَ لم يجد نقطةَ توازنٍ بين مرحلةٍ قامت عدّتها على العداء للسعودية ومرحلةِ ما بعدَ اتفاق بكين التي تحتاج إلى عدّةٍ أخرى.

وفيما اعتبُرَت المناورة العسكرية التي قام بها “حزب الله” في أحد معسكراته في جنوب لبنان سلوكًا مُناقضًا لبيان القمّة العربية في جدة لجهة “الرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلّحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة”، فإن مراقبين لاحظوا غيابَ أيّ تمثيل ديبلوماسي لإيران لحضور هذه المناورة، بما فُهِمَ بأنه استمرارٌ، ولو بالشكل، بالالتزام باتفاق بكين وروحيته.

ويقوم جُلُّ تحليلات الخبراء في شؤون إيران على قراءة إبعاد شمخاني، الذي قاد وفد بلاده لإبرام الاتفاق مع السعودية، من زاويةِ معانيه الداخلية. يندرجُ الأمرُ داخلَ صراعٍ على السلطة بين أجنحة المعسكر المحافظ الذي يسيطر حاليًا على كاملِ مفاتيحِ الحُكمِ في البلاد، كما من ضمنِ تَمَوضِعٍ هدفه منع التيار المُعتدل من تسجيلِ أيِّ اختراقٍ في الانتخابات في العام المقبل. يذكّر المراقبون أيضًا أن شمخاني تعرّضَ لضربةٍ كُبرى بعد اتهامِ علي رضا أكبري، الذي كان نائبه السابق في وزارة الدفاع ومُقرَّبًا منه، بالتجسّسِ لصالح بريطانيا وإعدامه في كانون الثاني (يناير) الماضي.

وعلى الرُغمِ من أنَّ قرارَ العلاقة مع السعودية هو قرارٌ استراتيجي دعمته مؤسّسات إيران بمباركةٍ كاملة من المرشد الأعلى، فإنه سيكون على طهران إثر استبدال شمخاني بأحمديان على رأس المجلس الأعلى للأمنِ القومي أن تُظهِرَ بشكلٍ جدّيٍّ وسريع مآلات الأمر على العلاقات مع السعودية، خصوصًا أنَّ الشهرين اللذين وضعهما اتفاقُ بكين كمُهلةٍ قصوى لاستئناف العلاقات الديبلوماسية بشكلٍ كامل قد انتهت من دون أن تفتح السفارات أبوابها في الرياض وطهران.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى