بوتين والإنفاق غير المُستدام: كيفَ ستؤدّي الحربُ في أوكرانيا إلى ضَربِ الاقتصاد الروسي؟

التفاعلُ بين الإنفاق العسكري على الحرب ضد أوكرانيا، ونقص العمالة، وارتفاع الأجور، كان سببًا في خَلقِ وَهمِ الرخاء في روسيا الذي من غير المرجح أن يَستَمِرّ.

محافظة بنك روسيا المركزي إلفيرا نابيولينا: ما زالت تتصرف باستقلالية ولكن إلى متى؟

ألِكسندرا بروكوبينكو*

بعد غزو روسيا لأوكرانيا في العام 2022، بدا من المؤكّد أنَّ اقتصادَها سيُعاني، حيث فَرَضَ تحالفٌ من حلفاء أوكرانيا، بقيادة الولايات المتحدة، برنامجًا غير مسبوق من العقوبات. وتوقّعَ العديدُ من الشخصيات السياسية والمالية، بمَن فيهم وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين ومبعوث عقوبات الاتحاد الأوروبي ديفيد أوسوليفان، أن تَجبُرَ هذه العقوبات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الاختيار بين الحرب والاقتصاد المُتَعَثِّر. ولكنَّ الاقتصاد الروسي تحدّى هذه التوقّعات. بفضل الإنفاق الحكومي القياسي، سينمو الاقتصاد الروسي بشكلٍ أسرع من الاقتصاد العالمي في العام 2023. وفي حين يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الأخير بنسبة ثلاثة في المئة، تتوقع الحكومة الروسية أن ينمو اقتصادها بنسبة 3.5 في المئة. وعندما تَظهَرُ الأرقامُ الدقيقة، فمن المرجح أن يَتَبَيَّنَ أنَّ النمو الاقتصادي في روسيا في العام 2023 قد تجاوز 3%، ولا شك أنَّ بوتين سوف يتباهى بهذا في خطاباته قبل الانتخابات الرئاسية في ربيع هذا العام.

لكن بدلًا من الإشارة إلى اقتصادٍ صحّي، فإنَّ هذه الأرقام تُشير إلى فرط السخونة. والواقع أن المشاكل التي يواجهها الاقتصاد الروسي بلغت حدًّا يجعل بوتين يواجه معضلة ثُلاثية مستحيلة. تتألف التحديات التي يواجهها من ثلاثة جوانب: يتعيَّن عليه تمويل حربه المستمرة ضد أوكرانيا، والحفاظ على مستويات معيشة شعبه، وحماية استقرار الاقتصاد الكلي. إنَّ تحقيقَ الهدفَين الأول والثاني سيتطلّب زيادة الإنفاق، الأمر الذي سيُغذّي التضخّم وبالتالي يَحُولُ دون تحقيق الهدف الثالث. لقد لعبت عائدات النفط والغاز المرتفعة، والإدارة المالية الماهرة من قبل السلطات الروسية، والتراخي في تطبيق القيود الغربية، دورها في النمو الاقتصادي في روسيا، ولكنها تخفي اختلالات متزايدة في الاقتصاد.

قبل الانتخابات الروسية، من غير المرجح أن يذكر بوتين أن أكثر من ثلث نمو روسيا يرجع إلى الحرب، مع ازدهار الصناعات المرتبطة بالدفاع بمعدّلات نمو تتجاوز 10%. الصناعات المدنية، التي تشارك أيضًا في إنتاج المنتجات للجبهة –مثل الأحذية والملابس والأدوية– تتخلّف قليلًا عن الركب. لقد أخفى المشهد الاقتصادي المُشرِق في روسيا في العام 2023 مُقايضاتٍ خطيرة تمّت في السعي إلى تحقيق مكاسب قصيرة الأجل. وحتى لو نجحت القيادة المالية في موسكو في تهدئة الاقتصاد بحلول نهاية العام 2024، فإنَّ المشاكل الكبرى الناجمة عن الحرب لا مَفَرَّ منها. وتشمل هذه العوامل الاستياء من نقص تمويل الصحة العامة، والنقص المتزايد في الأدوات والمعدات بسبب تشديد نظام العقوبات، والاضطرابات الكبيرة الناجمة عن الاستثمار الضخم في صناعة الدفاع. سوف تدفع أجيال المستقبل ثمنًا باهظًا للوضع الحالي، رُغمَ أنَّ هذا هو آخر ما يُفكّرُ فيه الكرملين في الوقت الحالي.

المحاريث تتحوّل إلى سيوف

لقد غَيَّرَت الحربُ الاقتصادَ الروسي بشكلٍ ملحوظ. واضطرّت موسكو إلى تعديل سياستها لتمويل صراعها المُسَلَّح ضد كييف، والحفاظ على أجهزتها العسكرية وقوة الشرطة، ودمج الأراضي التي ضمّتها من أوكرانيا. وقد استلزمت هذه الأولويات التزامات إنفاق كبيرة تُهدّدُ بشكلٍ جماعي الاستقرار الاقتصادي في روسيا. سوف يُنفِقُ الكرملين ستة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (أكثر من ثمانية في المئة عندما يقترن بالإنفاق على الأمن القومي) على الحرب في العام 2024. وهذا أكثر من 3.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي التي أنفقتها الولايات المتحدة خلال حرب العراق، على الرُغم من أنها أقل من المبالغ الهائلة التي خصّصها الاتحاد السوفياتي خلال سنوات الركود وغزوه لأفغانستان (18% من الناتج المحلي الإجمالي).

بل إنَّ الإنفاقَ العسكري تجاوز الإنفاق الاجتماعي ــالذي يقلُّ حاليًا عن 5% من الناتج المحلي الإجمالي ــ لأوَّلِ مرة في تاريخ روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي. وهذا التحوّلُ نحو الاقتصاد العسكري يُهدّدُ الاحتياجات الاجتماعية والتنموية. وقد تلقّت المناطق الأربع التي ضمّتها من أوكرانيا بالفعل ما يعادل 18 مليار دولار، وفي العام 2024، من المتوقع أن يتم تحويل ما يقرب من 5 مليارات دولار من الموازنة الفيدرالية إلى الموازنات الإقليمية. ولا تتلقّى أي منطقة أخرى في روسيا هذا المستوى من الاستثمار، الأمر الذي يؤدي فقط إلى تفاقم عدم المساواة بين الأقاليم. وبدلًا من ترميم المساكن المُتهالِكة في روسيا، يُفضّلُ الكرملين إنفاق الأموال على بناء المنازل والطرق في الأراضي التي ضمّها، لتحل محل المنازل والطرق التي دمّرتها القوات الروسية أثناء غزوها الوحشي.

لقد تَغَيَّرَت الصناعة الروسية، حيث طغت قطاعات الدفاع الآن على الصناعات المدنية. وتعمل شركات قطاع الدفاع الآن بأقصى درجات الحرارة، ونتيجةً لذلك فإنَّ أيَّ زيادة في الطلب من المرجح أن تؤدّي إلى ارتفاعِ الأسعار بسبب عدم قدرة القطاع على زيادة العرض. ويتلقى القطاع العسكري قدرًا كبيرًا بشكلٍ غير متناسب من الإنفاق الحكومي، كما إنه يستنزفُ العمالة من القوى العاملة المدنية، ما يؤدي إلى معدل بطالة منخفض بشكل غير طبيعي يبلغ 2.9 في المئة. قبل الحرب، كان معدل البطالة في روسيا يبلغ عادة حوالي أربعة إلى خمسة في المئة. يوظف القطاعان العسكري والعام الآن 850 ألف شخص أكثر مما كان عليه في أواخر 2022-2023. كما دفع غزو أوكرانيا نحو 500 ألف روسي إلى الهجرة في العام 2022، ما أدّى إلى نقص المتخصّصين المؤهّلين والعمال ذوي الياقات الزرقاء.

في الوقت نفسه، ارتفعت مستويات المعيشة في جميع أنحاء روسيا، وانخفضت نسبة الروس الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 9.8%، وهي أدنى نسبة منذ العام 1992. وبطبيعة الحال، هناك اختلافات إقليمية، ومناطق أرسلت عددًا كبيرًا من رجالها للقتال في أوكرانيا – بما في ذلك ألتاي كراي، وجمهورية ألتاي، وبورياتيا، والشيشان، وداغستان- شهدت أسرع نمو في الدخل بين المجموعات ذات الدخل المنخفض. ومن المتوقع أن تستمرَّ هذه الزيادة النسبية في الرخاء مع قيام موسكو بتوزيع الأموال على عائلات المُتَوَفّين والجرحى.

وفي الخلاصة، يرغب الكرملين في الحفاظ على وَهمِ الحياة الطبيعية، بل وحتى زيادة الرخاء لمواطنيه. وقد أدت التشوّهات في سوق العمل إلى ارتفاع الرواتب في الصناعة العسكرية، وكذلك في التصنيع المدني، بسبب الحاجة إلى التنافس على جذب العمال من المصانع العسكرية ذات الأجور الجيدة. وفي الوقت نفسه، تدفع موسكو مبالغ كبيرة للجنود والأفراد الذين يتم حشدهم للقتال في أوكرانيا، وهو ما يؤدي إلى زيادة الاستهلاك. وفي الوقت نفسه، وبفضل المعروض من الائتمان الرخيص، تقوم الحكومة بتوزيع القروض العقارية المدعومة، والتي تعمل في الوقت الحالي على حماية الأسر من الواقع الاقتصادي.

نادرًا ما تكون الأشياء كما تبدو

كان التفاعُلُ بين الإنفاق العسكري، ونقص العمالة، وارتفاع الأجور، سببًا في خَلقِ وَهمِ الرخاء الذي من غير المرجح أن يَستَمِرّ. إنَّ الخياراتَ المُتاحة أمامَ موسكو للتعامل مع النقصِ المُتزايد في العمالة غير سارة. يمكنها إنشاء إنتاج على مدار الساعة، وتشجيع توظيف النساء والمراهقين في المهن التي يهيمن عليها الذكور تقليديًا، أو محاولة العثور على المزيد من المهاجرين لملء العدد المتزايد من الوظائف الشاغرة. لكن هذه التغييرات المقترحة لن تؤدّي إلّا إلى تفاقم الوضع.

بسبب نقص العمالة، تضطرُّ الشركات الروسية بالفعل إلى دفع رواتب أعلى لعمّالها المُتبقّين أو اصطياد العمال للحصول على المزيد من المال من المنافسين أو القطاعات الأخرى. وارتفعت الأجور في العام 2023 أكثر من المتوسط الوطني في مناطق نيجني نوفغورود ونوفوسيبيرسك وسامارا وسفيردلوفسك وتولا، حيث يتركز عدد كبير من شركات الدفاع. ونتيجة لذلك، تمَّ تفكيكُ القوى العاملة في المناطق الأخرى والتصنيع المدني بسبب العمال الذين يسعون إلى الحصول على أجور عالية، ما أدّى إلى تفاقم نقص العمالة في الإنتاج غير العسكري ودفع الرواتب والتكاليف إلى الارتفاع.

كما جلب اقتصاد الحرب في روسيا تغييرات على تركيبة الطبقة المتوسطة الروسية، التي تتألف تقليديًا من المُتَخصِّصين المُتعلِّمين، ورجال الأعمال، ومحترفي تكنولوجيا المعلومات. ولكن على نحوٍ متزايد، أصبح الروس من الطبقة المتوسطة جنودًا وضباط شرطة ــ وبالتالي تابعين للدولة. ويرجع هذا التحوّل إلى التعبئة للحرب وتوسيع وكالات إنفاذ القانون، وخصوصًا جهاز الأمن الفيدرالي. وينطوي هذا التغيير على مخاطر اقتصادية، لأنه يجُبرُ الحكومة على الاستمرار في تقديم دفعات باهظة الثمن لهذه المجموعات حتى عندما تواجه تحديات في الموازنة. وتُشَكّلُ هذه المدفوعات قنبلة اقتصادية موقوتة: فمن الصعب للغاية خفض الأجور المُرتَفعة، والقيام بذلك بالنسبة للركيزة الأساسية لحكم بوتين -الجيش وقوات الأمن- ليس خيارًا واردًا.

أدّت الزيادات في الأجور ومدفوعات الدولة إلى تحفيز الاستهلاك الروسي. نمت مبيعات التجزئة، على وجه الخصوص، بنسبة 10.5 في المئة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 على الرُغم من التضخّم. وقد أدّى توجيه بوتين بتأمين توافر السلع الاستهلاكية إلى زيادة الواردات من هذه السلع، ما أدّى إلى تثبيط الإنتاج المحلي. فهو لا يستطيع زيادة الإنتاج المحلي بدون التسبب في ارتفاع الأسعار أو النقص. وهذا أمرٌ بالغ الخطورة: فقد بدأ الروس يشعرون بوطأة الأزمة بالفعل، وأصبحت الشكاوى بشأن الأسعار المرتفعة على رأس قائمة المظالم المُقَدَّمة إلى السلطات الإقليمية والفيدرالية.

مشكلةٌ في الداخل

إنَّ الاقتصادَ المستقر الذي يعطي الأولوية للحفاظ على ظروف الاقتصاد الكلي التي يمكن التنبؤ بها هو وحده القادر على تمويل حرب روسيا بشكلٍ موثوق والحفاظ على المدفوعات للسكان عند المستويات الحالية. إنَّ الإنفاقَ المتزايد على الحرب والقروض المدعومة للأفراد والشركات يُقَوِّضُ هذا الاستقرار. كانت موسكو استباقية بشكلٍ خاص في إصدار هذه القروض، واعتبارًا من 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، بلغت قيمتها الإجمالية أكثر من 130 مليار دولار. وهذا يُمثّلُ حوالي 14% من محفظة القروض في النظام المصرفي الروسي و7% من الناتج المحلي الإجمالي. ويُشَكّلُ قطاعُ الإقراض العقاري مسؤولية خاصة، لأنه مدفوعٌ الآن ببرامج القروض المُيَسَّرة التي تُمثّلُ 70% من القروض العقارية الجديدة. هذه القروض هي الأكثر طلبًا بين الطبقة المتوسطة في موسكو وسانت بطرسبيرغ، وكذلك في منطقة كراسنودار.

وبينما أصبح الاقتصاد الروسي أكثر تركيزًا على الحرب، أصبح الروس أيضًا يعتمدون بشكلٍ غير مُستدام على المدفوعات المُرتَبِطة بالحرب. وترفض الحكومة الحدّ من القروض العقارية المدعومة بسبب وجود جماعةِ ضَغطٍ قوية من مُطوّري العقارات. وعلى الرُغمِ من تشديد الشروط قليلًا، وزيادة الدفعة الأولى بنسبة خمسة في المئة، إلّا أنَّ البرنامج بقي قائمًا. وقد تجاهل الكرملين الحجج التي ساقها البنك المركزي بأنَّ هذه القروض تخلق ضغوطًا تضخّمية إضافية، وتؤدّي إلى تفاقم عدم المساواة وتشويه أسعار العقارات. ويتم تسديد تكاليف هذه القروض المدعومة من قبل كافة فئات الدخل، وهذا يعني أنَّ دافعي الضرائب من الطبقة العاملة يدعمون القروض العقارية المُقَدَّمة من الطبقة المتوسطة. يتم إصدار أكثر من 60 في المئة من القروض للأشخاص الذين سينفقون أكثر من نصف دخلهم في سدادها. وعلى نحوٍ متزايد، يتمُّ الوصول إلى برامج القروض من قبل المستفيدين من المدفوعات المُتعلّقة بالحرب. وإذا انتهت الحرب، فسيصبح من الصعب للغاية عليهم خدمة قروضهم، خصوصًا في مواجهة ارتفاع الأسعار.

كان للعقوبات الدولية تأثيرٌ مُفيدٌ وغير مُتَوَقَّع يتمثّل في عزل روسيا عن الصدمات الخارجية من خلال عزلها عن الأسواق المالية الدولية. ولكن بسبب الحرب وانهيار العلاقات مع الغرب، تجد موسكو نفسها أكثر اعتمادًا على النفط من أيِّ وقتٍ مضى. وتعملُ الحكومة الروسية على افتراض أنها ستحصل على ما يقرب من 119 مليار دولار (6.4% من الناتج المحلي الإجمالي) من عائدات النفط والغاز في العام 2024، وهو ما سيصل إلى أكثر من ثلث إجمالي إيرادات الخزانة. وتفترض موازنة موسكو لعام 2024 أيضًا أن يبلغ متوسط سعر النفط الروسي حوالي 70 دولارًا للبرميل، وأنَّ الدول الغربية ستفشل في الحد من عائدات الكرملين من النفط والغاز. هذه الافتراضات تجعل روسيا عُرضةً لتقلبات أسعار النفط وكذلك جهود الدول الغربية لتقييد صادرات موسكو.

التضخّم سرعان ما أصبح مشكلة. لقد تجاوز معدّل التضخم في روسيا بالفعل سبعة في المئة، ما اضطر بنك روسيا المركزي إلى الحفاظ على أسعار الفائدة عند 16 في المئة. وعلى الرُغم من أسعار الفائدة المرتفعة هذه، تُواصِلُ الشركات والأُسَر الاقتراض، مما يشير إلى ارتفاعِ توقّعات التضخّم. وهذا يعني أنَّ السعر الرئيس للفائدة لن يعود إلى أرقامٍ فردية في أيِّ وقتٍ قريب. وقد دفع هذا الأمر الشركات الصناعية العملاقة مثل “أفتوفاز” (AvtoVAZ) والسكك الحديدية الروسية إلى طلب إعانات الدعم لخدمة ديون شركاتها. وذهب إيغور سيتشين، الرئيس التنفيذي لشركة الطاقة الروسية “روسنفت”، إلى أبعد من ذلك، فحثَّ بوتين على التدخّل للتأثير على قرارات البنك المركزي المستقل. لم يفعل الرئيس ذلك. وعلى الرُغمِ من الهجمات التي يشنّها أنصار “الأوليغارش”، والحكومة، وحتى مساعد بوتين الاقتصادي مكسيم أوريشكين، فقد حافظت محافظة البنك المركزي إلفيرا نابيولينا على استقلاليتها في اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة النقدية. بالنسبة إلى الكرملين، تُشَكّلُ أسعار الفائدة المرتفعة مشكلة بالنسبة لصورته، وهو ما يُقوِّضُ رواية بوتين بأنَّ الاقتصاد الروسي مُستَقِرّ. ففي نهاية المطاف، لا يحتاج الاقتصاد السليم إلى معدل فائدة رئيس مُكَوَّن من رقمَين.

ويُعَدُّ التقلّبُ في قيمة الروبل دليلًا آخر على عدم استقرار الاقتصاد الكلّي. منذُ العام 2022، تأرجح سعر صرفه بين 50 و100 روبل للدولار. ويعود السبب في ذلك إلى حدٍّ كبير إلى تخلّي موسكو عن قاعدة الموازنة التي بموجبها تشتري وتبيع العملات الأجنبية من صندوق الثروة الوطني للتعويض عن النقص والفوائض في عائدات النفط والغاز. منعت هذه القاعدة زيادة الإنفاق، لكنها انتهت في أعقاب غزو أوكرانيا. وترك التخلّي عنها قيمة الروبل تحت رحمة التدفّقات التجارية. إنَّ سعرَ صَرفِ الدولار المُكَوَّن من ثلاثة أرقام لا يؤدّي إلى التضخّم فحسب؛ فإنه يثيرُ القلق العام.

لا تستطيع السلطات إزالة السبب الرئيس وراء ضعف الروبل، وهو الإنفاق على الواردات، رُغمَ أنها قادرة على فرض السيطرة على تدفقات رأس المال. ولمكافحة ارتفاع الأسعار، يمكنها أيضًا تقييد صادرات بعض المنتجات، والتهديد بفرض غرامات باهظة لإجبار تجار التجزئة على الحد من هوامش الربح. ومثل هذه الخطوات مُحتَملة، خشية أن يؤدي تدمير سمعة الروبل إلى دولرة مدّخرات الشركات والأسر، والمزيد من تدفقات رأس المال إلى الخارج. إن تقييدَ الأسعار سيؤدي إلى تسارع ارتفاعها في المستقبل.

عاصفة تتجَمّع

من الواضح أن بوتين صادقٌ في اعتقاده بأنَّ الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي انهارا إلى حدٍّ كبير بسبب سوء الإدارة المالية. فالاقتصادُ الروسي الحديث يُديره تكنوقراطيون محترفون، وبوتين يستمع إلى آرائهم. وحتى الآن، يبدو الوضعُ مُستَقرًا في المدى القصير: فتوافر احتياطات اليوان والذهب يعني أنَّ موسكو لا داعي لديها للقلق بشأن تمويل الديون الخارجية. وارتفعت تكاليف الاقتراض المحلي، وضاق الحَيِّزُ المالي، ولكن انخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في روسيا قبل الحرب يعني أنَّ الدين من غير المرجح أن يُشكِلَ خطرًا كبيرًا في الأعوام المقبلة. وقد تلجأ الحكومة أيضًا إلى أسواق رأس المال المحلية لتوفير التمويل للإنفاق الحكومي أثناء خصخصة ممتلكات الدولة، وخصوصًا أجزاء من الصناعة العسكرية.

مع ذلك، فإنَّ الحربَ تهزُّ أُسُسَ الاستقرارِ الاقتصادي في روسيا. وقد أثّرت هذه الأزمة بالفعل في ركائز السياسة الاقتصادية البالغة الأهمية لاستقرار الاقتصاد الكلي، بما في ذلك قاعدة الموازنة، وحرية تدفقات رأس المال، وإلى حدٍّ ما، استقلال البنك المركزي.

غالبية الجراح التي ألحقها الاقتصاد الوطني بنفسه لا يُمكن معالجتها وشفاؤها بدون إنهاء الحرب ونظام العقوبات. إنَّ المشاكل البنيوية ــوبخاصة الاعتماد على عائدات النفط، وعدم القدرة على العيش من دون الواردات الأجنبية، وأغلبها صينية، والاتجاهات الديموغرافية السلبية التي تفاقمت بفِعل الحرب ــ لن تختفي في أيِّ وقتٍ قريب. ويتطلّبُ حَلُّ هذه المشاكل سنواتٍ من الإصلاحات البنيوية القادرة على جذب الاستثمار وتحسين رأس المال البشري. لكنَّ الكرملين غير قادر، بل وغير راغب في بعض الأحيان، في اتخاذ هذه الخطوات بسببِ هَوَسِ بوتين بالسيطرة السياسية.

الاقتصادُ الروسي أكثر عُرضةً للخطر مما تشير إليه إحصائيات النمو، وقد تستفزُّ الانتخابات المُقبلة المزيد من القرارات المصيرية التي قد تؤدّي إلى تفاقم التحدّيات الطويلة الأمد إذا قرّرَ بوتين شراءَ ولاء الناخبين بإنفاق المزيد من الأموال قبل يوم الاقتراع.

تُشَكِّلُ سخونةُ الاقتصاد ــالتي غالبًا ما تكون مُقدّمة للركودــ تهديدًا متزايدًا، وخصوصًا عندما تكون المؤسّسات المُصَمَّمة لتخفيف الصدمات إمّا مُختَلَّة وظيفيًا أو يتمُّ طمسها بسبب ضرورات الحرب. وبما أنه من غير المرجّح أن تنتهي الحرب قريبًا، فإنَّ التكاليف المالية والاقتصادية سوف تتصاعد ومن المرجح أن تُلحِقَ الضررَ بروسيا بعد سنواتٍ عدة من الآن. ومن المُمكن أن تتسارعَ هذه العملية في حالة حدوثِ ركودٍ عالمي كبير أو تباطأ الاقتصاد الصيني، وهو ما من شأنه أن يضرب روسيا بشدة بسبب اعتمادها الشديد على العائدات من صادرات السلع الأساسية. إن شبحَ الآثار الاقتصادية المريرة يلوح في الأفق ما لم يظهر نموذجٌ اقتصادي روسي جديد ومُستدام. لكن هذا لا يزال مُستَبعَدًا إلى حدٍّ كبير. بالنسبة إلى بوتين، أصبحت الحرب الآن مبدأً مُنَظِّمًا لسياسته الداخلية والخارجية. إنَّ التخلّي عن الحرب من دون شيءٍ يستطيعُ الكرملين تعريفه على أنه انتصارٌ سيكون أمرًا مستحيلًا. إنَّ الصراعَ الطويل حول أوكرانيا لا يُرضي طموحات بوتين الجيوسياسية ورؤيته فحسب، بل يتحوّلُ أيضًا إلى استراتيجية بقاء نظامه. وستكون المشكلة أنَّ أهدافه السياسية لا تتوافق مع أهدافه الاقتصادية. في نهاية المطاف، سوف يضطر إلى إعطاءِ شيءٍ ما.

  • ألكسندرا بروكوبينكو هي باحثة غير مقيمة في مركز كارنيغي روسيا أوراسيا في برلين، وباحثة في مركز دراسات أوروبا الشرقية والدولية. عملت في البنك المركزي الروسي حتى أوائل العام 2022.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى