بوَّابةُ السماء تنفتحُ على جبال البحر

هنري زغيب*

يومَ عدتُ نهائيًّا إِلى لبنان (1994) من “المنأَى الموقَّت” على “بحيرة الليمون” (فلوريدا)، كان المطار مغْلَقًا فجئْتُ في الباخرة من لارنكا إِلى شطِّ مدينتي البحرية جونيه.. يومَها كان شوقُ الحنين إٍلى الرجوع يشُدُّ بي عنيفًا فلم أَتمتَّع برؤْية الشط اللبناني من البحر، لوصول الباخرة في فجر ضبابي، وكنتُ لهيفًا إِلى الترجُّل على أَرض بلادي بعد غَيْبة عنها طيلة ست سنوات مالحة..

بقيتُ ردَحًا أُعلِّلُني بيوم أَرى فيه شطَّ لبنان من البحر، حتى تسنَّى لي ذلك، السبت الماضي، في يخْت الصديق رمزي الشامي إِذ دعاني إِلى رحلة بَحرية تنطلق من “زيتونة” بيروت شمالًا إِلى خليج جونيه.. وما إِن راح اليخْت يَهدر بنا مُقْلِعًا بإِيقاع رومانسي هادئ، حتى أَخذَ البحر يَغْمُرُنا، وتراجعَتْ عنا بيروت فبَدَتْ سفينةً راسيةً وسْط هدْأَة رأْس بَحري، حاملةً كواكبَ من بيوت وعمارات في زوغة حياةٍ تعجُّ بالآمال والحركة..

اليختُ يمضي بنا.. يتَّسع المدى البحري، والمدينةُ تنجلي في صفاء ربيعي تتعاكس شمسه على واجهاتِ أَبنيةٍ شاهقة، أَعلاها أَناقةً وغوًى: “بوابةُ السماء” (Sky Gate) حقَّقَها نبيل صوابيني محطةَ استراحةٍ للغيم العابر والطيور المهاجرة.. هذه المرَّة لم يَشرُد بي الحنين عن تأَمُّل المنظر من البحر، لأَنني هانئٌ بطمأْنينةِ أَنني لستُ (كما سنة 1994) عائدًا إِلى بلادي بل راسخٌ فيها تَغمُرُني وأَغمُرها بمتعةِ أَنْ لن أُغادرها مهما جرى..

واليختُ يمضي بنا.. وأَنا ساهٍ أُرسل عينَيَّ إِلى البرِّ بصخْبه وبيوته، تُطل عليَّ من خصره علْواتٌ وتلالٌ تَضُجُّ بها صامتةً أَبنيةٌ مشقوعة، هُنا بانسجام، هناك بغير انسجام، هنالك بتكتُّلات معمارية لم يترك لها الانفجار السكَّاني وقتَ أَن تَتَهَنْدَمَ كما ترتجي..

واليختُ يمضي بنا.. ونحن بين الـ”رشاد” والـ”غِيْدة” في حضور نبيل يتناغم مع أَجيج الماء يشُقُّه محرِّك اليخت بلا رحمةٍ عابرًا بنا هَنَّا عاليًا بين قمَم الموج وهَنَّا هابطًا إِلى سُهول المياه تاركًا خلفه فُلُولًا من ثلوج الماء تتكسَّر عن جانبيه في ابتعاد الخوف والحذَر..

واليختُ يمضي بنا.. فإِذانا في الهلال وسْطَ خليج جونيه.. أَسيح في ماضيَّ البعيد حين كنتُ، في طريقي إِلى حريصا، أَقفُ عند عَلْوَةٍ شمَّاء، على جبينها بلاطةٌ رخاميةٌ بيضاءُ محفورٌ عليها: “من هنا يظهر أَجمل خليج في العالم”.. وكنتُ أَغتبط للعبارة ولو انَّ فيها بعضًا من المبالغة في التعميم.. لكنني هذه المرَّة أُطلُّ على الخليج لا من فوق بل قبالتَه من بَعيدِ التَحت، فأَشعر بذراعيه تحتضنانني وفيًّا له منذ ولدتُ فيه ولا أَزال أَنهل من جماله.. إِنه حبي فضاءَ مدينَتي البحرية: تحت سمائها نشْأَتي ودراستي وحياتي اليومية منذ ثلاثة أَرباع القرن حتى إِذا نأَيتُ عنها ستَّ سنوات إِلى غيابي النيويوركي عدتُ إِليها كما مستغفرًا إِياها لغيابي الطوعي..

واليختُ يمضي بنا.. يَهدُر غير سامعٍ ضجيجَ صمتي وأَنا أَتأَمَّل نوستالجيًّا جمالَ خليج جونيه من قلب البحر، بين الشطِّ الحيَوي عند قدميه والأَكمات السبْع عند أَعلاه تتكَوكَبُ وضَّاءةً كحلقة دراويش يردِّدون تراويح الصلاة حول “سيدة لبنان”..

في طريق العودة، تحت شمس لطيفة مهذَّبة، تحلَوْلي الرحلةُ أَكثر لمعاينة المشهد مرتين ذهابًا وإِيابًا، ورمزي الشامي، جوهَرجيُّ الصداقات، يتنقَّل بيننا بحُسْن الضيافة، ويسأَلُني عن سكوتي معظم الرحلة.. أُجيبُه بتهذيب جَمٍّ قد لا يكون أَقنعَه إِنما أَظهَرَ لي اقتناعه محترمًا في صمتي زَوَغانَ ذكرياتٍ تنهمل عليَّ بين تأَمُّلي اليومَ مدينتي من البحر، وشوقيَ السابق طوال غيابي عنها ظَلَّ الحنينُ إِليها يشدُّ بي حتى أَعادني لها دُوْريًّا يَهنأُ إِلى عشِّه فيها، واعدًا أَلَّا أَهجُرها فلا أُهاجر من وطني الذي نذرتُ له حياتي وقلَمي ناسكًا في هيكله حتى آخر العمْر.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى