آفة الإزدواجية في أمتنا العربية
بقلم الدكتورة أمل الشنفري*
تتفشّى إزدواجية المعايير في مجتمعاتنا العربية لدرجة أن النفاق أصبح جزءاً من ثقافته. فالكيل بمكيالين في كل شؤوننا اليومية هو شيء لا نستغربه بل وقد ألفناه لدرجة السقم حيث صار مرضاً عضالاً يفوح عفن روائحه في كل جنبات وزوايا حياتنا ليطغى على كل ما هو جميل فينا وبيننا. إن الإزدواجية بين ما نُظهره وبين ما نُبطنه في المُثل والأخلاق والدين والحرية الفكرية والديموقراطية هي أقنعة نرتديها أمام عامة الناس سرعان ما نميطها عن الوجوه في حياتنا الخاصة. فهذه أقنعة نرتديها من أجل الأخرين كلوازم ل”البرستيج” والوجاهة الإجتماعية، فما أروع خطاباتنا وحديثنا عن القيم والحرية والحلال والحرام والعيب وحقوق المرأة وتكريم مجتمعاتنا لها، وهي شعارات تُنقش من ماء الذهب خالدة في مجلّداتنا وكتبنا نحفظها عن ظهر قلب لتنساب كالماء الزلال من بين شفتي كل فرد في مجتمعنا.
فنحن نحمل راية المثل العليا التي سرعان ما تهوي أمام مصالحنا وفي داخل منازلنا حيث نجد أنفسنا حاملين السوط والعصى لأبنائنا لحبس حرية الفكر التي ننادي بها. فعندما ندخل بيوتنا لا كلمة مسموعة غير كلمتنا. ونلبس لباس التقوى والحرام والحلال حتى ننال الإنبهار والتبجيل والثقة ممن حولنا لنختلي بأنفسنا ونمارس كل أنواع الغش والإختلاس والتدليس. وننادي بحرية المرأة وحقوقها ونحن أخر من يصدق هذه “الترهات”، فهذه الحرية هي للأخريات وليست لبناتنا وزوجاتنا، حاشى عليهن أن يصبحن مثل البقية من النساء اللواتي نتبجح أمامهن بهذه الحرية كي نأسر قلوبهن.
هي حالة تخبط وتناقض وإنفصام في الفكر والسلوك إستفحلت بيننا ومن دون وصية منا تتوارثها أجيالنا لنصبح اليوم مثالاً وقدوة في الفساد والضمائر المنتحرة على ضفاف شواطئ قوائم مُثُلنا. صورة رسمها لنا الأديب نجيب محفوظ في شخصية السيد أحمد عبد الجواد. هذه الشخصية التي جمعت كل هذه التناقضات الأخلاقية أحدثت زوبعة من الإستهجان لمثل هذه الشخصية في ذلك الحين، ولكن اليوم فهي الشخصية المألوفة بيننا والسائدة. أصبحنا قوماً نقول ما لا نفعل، وهو وصف مختصر مفيد لما نحن عليه اليوم، فلا غرابة إذاً أن نرى مجتمعاتنا تتصدر بلا منازع قوائم الفساد العالمية، فالله درنا قد أصبح لنا بعض الإنجازات أخيراً وتصدّرنا شيئاً ما في الحضارة الحديثة المليئة بالمنجزات والإختراعات. فاليوم نحن أمة للتناقضات نبراس وعنوان لينطبق علينا قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) ﴾ ( سورة الصف ).
وصفٌ دقيقٌ ومختصرٌ لما أصبحنا عليه اليوم في مجتمعاتنا العربية، وكأن هذه المجتمعات أدمنت على أن لا تتعلم من مأسيها السابقة عبر التاريخ مع أن غالبية شعوب العالم اليوم قد أخذت من ماضيها العبر لتختزل على نفسها الوقوع في قيعان الحفر، فإتّخذت من كبوات ماضيها دروساً لبناء مستقبلها. ولكن أمتنا العربية هيهات أن تعتبر رغم أن رفوف مكتباتها تعج بأزهى السَيَر ولكنها تُلَقَّن في المدارس ولله درّهم الأجداد، لقد كانوا وكانوا وخلّفوا لنا الأمجاد، فهيهات أن تخرج خارج هذه العقول لتحتذي بها، بل هى فقط للتباهي بين البشر وليست لتجنّب عيوب الماضي وتوخّي الحذر.
مليءٌ هو تاريخنا بالدروس، ولو تمعَّنا به قليلاً لما أصبحنا على ما نحن عليه اليوم من تخبط وتشرذم، فما أشبه حالنا اليوم بحالنا أثناء القرن السابع الهجري عندما إنهارت الدولة العباسية ومعها حضارة العرب بسبب إنهيار المعايير الأخلاقية التي كانت وراء عظمة هذه الحضارة والتي كانت مصدر إلهام لكل أمة سعت إلى الرقي والإبداع. وهنا نستذكر قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه … فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
إذا أصيب القوم في أخلاقهم … فأقم عليهم مأتماً وعويلاً
ونحن الآن نرى ونشاهد هذا المأتم كل يوم أينما توجّهنا، ولم نعد نملك غير العويل والإنتحاب على صفحات الجرائد والمجلات وشاشات التلفزيون صبحاً ومساء. فلا يعجب كل متدبر بأن تصبح أمة العُرب اليوم أمة للهوان مرتعاً ومضجعاً.
• كاتبة عُمانية