القمّة العربية، ماذا علينا أن نَنتَظِرَ؟
الدكتور ناصيف حتّي*
ياتي انعقادُ القمّة العربية في المملكة العربية السعودية في لحظةٍ تغييرية في الشرق الاوسط فتحت الباب على مصراعيه أمام تَحَوُّلٍ أساسي في المنطقة. لحظةٌ جاءت نتيجةَ مسارات أو عملياتِ التطبيع التي حصلت بين خصومِ وأعداءِ الأمسِ في الشرق الاوسط، ولو حصلت وتحصل بسرعاتٍ مُختلفة. وللتَّذكير، بدأت هذه مع التطبيع العربي-التركي الذي جاء بعد أن تراجعت تركيا عن دور الراعي والحاضن للتيارات الإسلاموية في المنطقة، غداةَ ما اتُّفِقَ على تسميته ب”الربيع العربي”، إلى دورِ القوّة الإقليمية الطبيعية بعيدًا من العناوين الإيديولوجية التدخّلية، والتطبيع السعودي-الإيراني الذي انطلقَ من لقاء بكين، والتطبيع العربي-السوري الذي تُوِّجَ بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. وقد جاء هذا الأخير نتيجةَ مسارٍ بسرعاتٍ مختلفة من التطبيع الثنائي السوري مع دولٍ عربية كانت في حالة عداء أو قطيعة مع سوريا. ونشهدُ حاليًا مسارًا تطبيعيًّا سوريّا-تر كيًّا برعاية روسيا اساسًا ومعها إيران.
يستدعي ذلك من القمّة العملَ على ترجمةِ هذه المناخات، والمُعطيات الجديدة الناتجة عن هذه التفاهمات، إلى قواعد وأُسُسٍ يُتَّفَقُ عليها عربيًا، وكذلك مع كلٍّ من تركيا وإيران عبر حواراتٍ عربية قائمة ولاحقة مع هاتين القوّتين الجارتين بهذا الشأن. قواعدٌ وأُسُسٌ تُنظِّم وتَحكُم العلاقات المستقبلية في المنطقة بين مختلف هذه الاطراف، خصوصًا بشأن إدارة الخلافات أو سُبل احتوائها وتسويتها وتعزيز التعاون والبناء على المُشتَرَك لإدارة العلاقات في ما بينها في الإقليم الشرق أوسطي.
فالمُقاربة المرحلية لاحتواء وتسوية بعض الخلافات الضاغطة أو الساخنة أمرٌ ضروري ولكنه غير كافٍ إذا لم يتم العمل في السياق ذاته على معالجة مختلف النقاط الساخنة والقادرة على الاشتعال لأسبابٍ مختلفة. النقاطُ التي قد تُضعِفُ، إذا ما حصل هذا الأمر، التفاهمات التي تمَّ التوصّلُ إليها وقد تهدّدُ مسارها المستقبلي في الإقليم. ولنتذكّر أنَّ هناكَ ترابطًا بالفعل بين مختلف النقاط الساخنة بسبب عوامل خاصة بهذه الأخيرة، أو بسبب التنافس في لعبة المصالح بين القوى المعنية عبر هذه النقاط الساخنة والمفتوحة على التصعيد والتي تُوَظَّفُ في سباق النفوذ في المنطقة. ولا بد من التذكير في هذا السياق أنَّ المقاربة الشاملة، ولو بشكلٍ تدرّجي والقائمة على الاولويات التي تحددها الاطراف المعنية، امرٌ أكثر من ضروري لاطفاء كافة النقاط الساخنة وتلك القابلة لمزيدٍ من السخونة والاشتعال بغية تعزيز الاستقرار الإقليمي المطلوب والذي هو لمصلحة الجميع في نهاية المطاف.
المطلوب من القمّة أيضًا أن تُبِلوِرَ سياساتٍ ومبادراتٍ تقوم على انخراطٍ عربي مباشر في عملية تسوية الصراعات القائمة والمستمرّة وكذلك الجديدة في بعض الدول العربية مثل الحالة السودانية، وعدم الاكتفاء بدورِ المؤيِّد للآخر الدولي أو الأُممي الذي يعمل على تسوية هذه الصراعات. ولا بدَّ من التأكيد هنا أنَّ هناكَ مصلحةً عربية أساسية في تسوية هذه الصراعات لما لها من انعكاسات على الإقليم، وبالتالي هناك مسؤولية أساسية لأهل الإقليم للمبادرة الديبلوماسية نحو العمل على إطفاء الحرائق بالتعاون مع الآخر الدولي أو الأُممي حيث يجب التعاون. فالمطلوب هو العمل أو الإسهام في تعريب الحلول وليس الاكتفاء بدور المتفرّج أو المُشجّع عن بعد في هذا الخصوص.
وتعود القضية الفلسطينية بقوّة على جدول الأعمال العربي الفعلي بعد غيابٍ طويل فرضته التطورات الإقليمية وما حملته من أولويات ضاغطة على الجميع. وتعود بقوة بسبب السياسات الإسرائيلية الراهنة، سياساتُ حكومة اليمين الديني المُتشدّد الهادفة إلى إنهاء القضية الفلسطينية عبر إقامة دولة إسرائيل الكبرى من النهر الى البحر. يدلُّ على ذلك ليس فقط خطابها السياسي ولكن ممارساتها العنفية المستمرة والمتزايدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فلا يكفي الركون إلى وقف إطلاق النار والتوصّل إلى هدنة تبقى هشّة في ظلّ استراتيجية الإلغاء التي تتبعها إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني. ذلك أمرٌ ضروريٌّ، ولكنه لن يصمد امام سياسة إسرائيلية واضحة الأهداف والمعالم. البعضُ يقول أنَّ حلَّ الدولتين صار امرًا مستحيلًا في ظلِّ الأوضاع الجديدة التي أوجدتها إسرائيل، وأعتَقِدُ أنه صار امرًا صعبًا وتزداد صعوبة تحقيقه مع كل يومٍ يمضي، ولكنه يبقى الشرط الوحيد للتوصّل إلى سلامٍ حقيقي وبالتالي دائم، رُغمَ أنَّ فجوةَ الأمر الواقع تزداد كل يوم بين هذا الهدف وإمكانية تحقيقه. ولكن هذا الحل يبقى الحل الوحيد الواقعي والممكن لإنهاء النزاع كليًا وفتح صفحة جديدة في المنطقة لمصلحة الجميع. بدون ذلك سيبقى النزاع قابلًا للاشتعال في أيِّ لحظة خصوصًا في ظلِّ السياسات الإسرائيلية الحالية وقابلًا للتوظيف من أيِّ “لاعب” لأهدافٍ لا علاقة لها بالقضية نفسها. وأرى أنَّ على القمة ان تُبلورَ خطة عمل لإعادة إحياء ولو تدريجي لعملية التسوية السياسية للصراع من خلال التحرّكِ المطلوبِ والضروري مع الفاعلين على الصعيد الدولي، ولوضعها مُجَدَّدًا على أجندة الأولويات الإقليمية والدولية في المنطقة. تحدٍّ آخر ليس بالسهل النجاح به، ولكن من الضروري توظيف الامكانات المطلوبة له، لأنه أيضًا إلى جانب هدف تحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة فهو لمصلحة إقامة الاستقرار الفعلي في المنطقة.
وتوفّرُ القمّة الفرصة الضرورية لاعتمادِ مُقاربةٍ عربية ناشطة وجديدة وفاعلة، شاملة وتدريجية، تجاه هذه التحديات الصعبة والكبيرة. ويبقى الأملُ قائمًا لأن تُشكِّلَ هذة القمّة قطيعة مع تقاليد استقرّت وللأسف مع قمم عربية عديدة. قممٌ تُصدِرُ قرارات تذكيرية بما يجب أن تكونَ أو تصبح عليه الأمور. وتبقى هذه حبرًا على ورق إذ لا تُوَظَّفُ سياسة ناشطة في خدمتها، والمطلوب اليوم من القمة صدور قرارات تغييرية ذات نتائج على أرضِ الواقع، والعديد من المؤشرات تُشجّعُ على احتمالِ النجاح في هذا التحدّي .
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).