الذكاءُ الاصطناعي لن يكونَ بديلًا من البشر
المستقبل الذي توقّعه الكثيرون بحماس يحدث الآن. بالنسبة إلى آخرين، فإن وصول هذا المستقبل أمرٌ مقلق.
بول بواست*
تترك وتيرة الابتكار المتعلّق بالذكاء الاصطناعي العديد من المتابعين الخارجيين، وحتى المُطَّلعين على الصناعة، مبهورين ومذهولين. يمكن الآن لنماذج اللغات الكبيرة –أو برامج الكمبيوتر التي يتم “تلقينها وتدريبها” باستخدام مجموعة كبيرة من النصوص– إنتاجَ نثرٍ شبيه بإنتاج البشر. يمكن لبرامج الذكاء الاصطناعي التوليدية مثل “تشات جي بي تي 4” (ChatGPT4) من “أوبن آي إي” (OpenAI) أو برنامج “بيرت” (Bert) من “غوغل” إنتاج تحليلات موجزة بسرعة حول مجموعة من الموضوعات، بالإضافة إلى كتابة رمز (كود) الكمبيوتر وإنتاج الفن وتأليف الموسيقى وحتى تقديم الآراء القانونية.
المستقبل الذي توقعه الكثيرون بحماس يحدث الآن. بالنسبة إلى آخرين، فإن وصول هذا المستقبل أمرٌ مقلق.
في الشهر الفائت، وقّعت مجموعةٌ من مسؤولي قطاع التكنولوجيا والعلماء وصانعي السياسات خطابًا مفتوحًا يدعو إلى تعليقٍ لمدة ستة أشهر على إنتاج نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية الجديدة. إذا لم تفعل مختبرات الذكاء الاصطناعي الخاصة ذلك طواعية، فإنها تريد من الحكومات “التدخل وفرض حظر”. الهدف من الإيقاف المؤقت هو السماح بتطوير ضمانات البرمجة لأنظمة الذكاء الاصطناعي المستقبلية، بحيث “ستكون آثارها إيجابية ويمكن التحكّم في مخاطرها”.
في الواقع، وقعت الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بالفعل على التزام في العام 2019 للقيام بذلك. إن فشل الحكومات في الوفاء بالتزامٍ دولي ليس مفاجئًا. لكن وتيرة الابتكار تدفع الآن إلى توجيه نداءات عاجلة للحكومات لمتابعة هذا الالتزام.
ما هي المخاوف؟ في أقصى الحدود، الخوف هو من سيناريو يوم القيامة الذي يُشَكّلُ خطرًا وجوديًا على البشرية – فَكّر في “سكاي نِت” (SkyNet) من سلسلة أفلام “المُنهي” (Terminator). بشكلٍ مباشر وواقعي، يشعر البعض بالقلق بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي، وبالتحديد الدور الذي سيلعبه البشر فيه. في حين أن أجهزة الكمبيوتر لن تحلَّ محل جميع الأعمال البشرية على الفور، فقد نشهد قريبًا اضطرابات كبيرة، داخل وعبر الاقتصادات الوطنية. مع تقدم الذكاء الاصطناعي إلى نقطة تكرار فهم السياق البشري –ما يُسمَّى “الذكاء العام الاصطناعي”– فإن الخوفَ هو ألّا تكون هناك حاجة لليشر بعد الآن لمعظم الأعمال الفكرية. في الآونة الأخيرة ، حذّر البروفسور “بانغتشينغ شي” (Pengcheng Shi) من معهد روتشستر للتكنولوجيا الأميركي من أن الذكاء الاصطناعي سيحل محل الكثير مما يُنظَرُ إليه على أنه عملٌ لأصحاب الياقات البيضاء. قال شي: “لا أعتقد أن أيَّ شخصٍ يمكنه إيقاف ذلك. هذا ليس ذئبًا يعوي من بعبد. الذئب صار على الباب”.
هذه المخاوف مفهومة، لكن لا ينبغي أن نُبالِغَ في ردّ الفعل. سيستمر البشر في الازدهار في الاقتصاد الذي يُحرّكه الذكاء الاصطناعي لثلاثة أسباب:
أوّلًا، العديد من المخاوف التي يتم التعبير عنها حاليًا تعاني من مغالطة “كتلة العمل” المعروفة – الفكرة القائلة بأنه لا يوجد سوى قدر ثابت من العمل الذي يتعيّن القيام به. “تشات جي بي تي” (ChatGPT) هو مجرد أحدث ابتكار تقني له تأثير في سوق العمل. مع كل ابتكار، تختفي وظائف قديمة. لكن يتم إنشاء وظائف جديدة، بعضها لم يتم حتى تصورها. في الواقع، أصدر المنتدى الاقتصادي العالمي تقريرًا في العام 2020 يجادل فيه بأن الأتمتة ستؤدي في الواقع إلى تحقيق مكاسب صافية في الوظائف بحلول العام 2025. وسيكون مفتاح هذه العملية هو كيفية تعزيز الذكاء الاصطناعي لإنتاجية العمال. كما لاحظت “آنو مادغافكار (Anu Madgavkar) من مجموعة ماكينزي الاستشارية: “علينا التفكير في هذه الأشياء كأدوات لتحسين الإنتاجية، وليس أدوات للاستبدال الكامل”.
ثانيًا، ستظل هناك قيمة في العمل الذي يُوَلّده الإنسان. ربما يكون هذا أكثر وضوحًا في صناعةٍ تُعتَبَرُ الأكثر عرضةً لاضطرابات الذكاء الاصطناعي: الفنون. كما جادل الأكاديمي “كرزتوف بيلك” (Krzysztof Pelc) أخيرًا في مقال لمجلة “وايرد ماغازين” (Wired Magazine)، فإن الذكاء الاصطناعي سيجعل الفن البشري أكثر قيمة، وليس أقل. مثلما أثار الفن والأثاث والديكور الذي يتم إنتاجها بكميات كبيرة اهتمامًا أكبر بحركة الفنون والحِرَف اليدوية بسبب “أصالتها” المصنوعة يدويًا، فإن الذكاء الاصطناعي أيضًا سيُنتِج استجابةً مماثلة.
أو فَكّر في نشاطٍ بشريٍّ طويل الأمد خسر بالفعل حربه ضد الآلة: الشطرنج. في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كان الناس ما زالوا يتساءلون عما إذا كان بإمكان أجهزة الكمبيوتر التغلب على أفضل لاعبي الشطرنج البشريين. حدث ذلك أخيرًا في العام 1997، عندما تفوّق حاسوب “آي بي أم” (IBM) العملاق، “الأزرق العميق” (Deep Blue)، على بطل الشطرنج العالمي في ذلك الوقت، غاري كاسباروف. الآن لا يضاهي البشر أجهزة الكمبيوتر في الشطرنج. ومع ذلك، أصبحت اللعبة أكثر شيوعًا من أي وقت مضى، ويرجع ذلك جزئيًا إلى التقدم التكنولوجي، من نمو اللعب عبر الإنترنت إلى استخدام أجهزة الكمبيوتر لتعلم الأخطاء بسرعة، ما يجعل اللعبة أسهل في التعلم واللعب.
تظل مثل هذه الأنشطة ذات قيمة لأنها مُسلّية وممتعة، وتحتوي على دروسٍ تنطبقُ على مهامٍ أكثر أساسية. على سبيل المثال، يمكن أن ينتج “تشات جي بي تي” (ChatGPT) أطروحةً مقبولة يعتقد البعض أنها تجعل كتابة الأطروحات والمقالات بائدة وباطلة، ما يُجبِرُ المعلمين على تطوير طرق لمنع الغش على نطاق واسع. ولكن من الضروري الوضع في الاعتبار أن الحصول على درجة جيدة في بحث تم إنتاجه بواسطة البرنامج يُعَدُّ انتصارًا باهظ الثمن في أحسن الأحوال. بالتأكيد، سيتمكن بعض الطلاب من الغش. لكن المعلمين لا يطلبون من الطلاب كتابة أطروحات لأن العالم يحتاج إلى المزيد منها. بدلًا من ذلك، فهي طرق مهمة للطلاب لتطوير مهارات التفكير النقدي والمفاهيم. ستصبح هذه المهارات أكثر أهمية في عالم يسيطر عليه الذكاء الاصطناعي، وليس أقل.
ثالثًا ومرتبط، ستكون هناك دائمًا حاجة ملحة للاحتفاظ بأمان الإنسان. يجب أن يفهم البشر ما يفعله نموذج الذكاء الاصطناعي وكيفية تقييم عمله، بما في ذلك تجاوزه عند الضرورة. تم توضيح هذا بشكل مأسوي في العامين 2018 و2019، عندما تحطمت طائرتان من طراز “Boeing 737Max”. كان السبب هو وجود جهاز استشعار معيب في نظام ذكاء اصطناعي يهدف إلى إبقاء الطائرة بزاوية مناسبة أثناء الإقلاع والطيران. أدى مزيج من تصميم الكمبيوتر الآلي السيئ ونقص التدريب المناسب إلى عدم قدرة الطيارين على استعادة السيطرة على الطائرة من نظام الكمبيوتر.
من المُسَلَّم به أن “737Max” مثالٌ مثير. ولكن هناك مثال أقل دراماتيكية، ربما يكون أكثر انتشارًا، للتحكم البشري الذي يظل مرغوبًا فيه: التفسير القانوني. يمكن الآن أن تقوم نماذج لغة كبيرة بمعالجة وتحديد القرارات القانونية الرئيسة والآراء والقوانين. يمكنها حتى صياغة آراء حول تلك القوانين. ولكن هل يجب أن يثق الإنسان بهذا الرأي؟ هل يأخذ في الاعتبار السياق السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تَمّت فيه صياغة الحالات والسوابق القانونية، أو التي يتم تفسيرها فيها حاليًا؟ دانيال كاتز، أستاذ القانون في كلية كَنت للقانون في معهد إلينوي للتكنولوجيا وخبير في دور التكنولوجيا في الصناعة القانونية، قال في محاضرة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن البشر يجب أن يظلوا على اطلاع و”في الحلقة” في عملية صنع القرار القانوني. وأضاف: “لا يجب أن تأخذَ مخرجات هذه الأنظمة فقط، ولا تُراجِعها، ثم تُعطيها للناس”.
إن ابتكارات الذكاء الاصطناعي تقترب وتحدث فعليًّا بسرعة. التقدم التكنولوجي يعني أن التطورات التاريخية بشكل عام تحدث اليوم بسرعة أكبر من قرون وحتى قبل عقود. لكن الابتكار والتحولات المصاحبة للاقتصادات ليست جديدة. كما كان الحال في الماضي، ستنتج فرصًا جديدة ومخاطر جديدة وتفاوتات جديدة. سيحتاج البشر والحكومات إلى التكيف مع هذه التغييرات وتشكيلها، وليس الخوف منها.
- بول بواست أستاذ مشارك في قسم العلوم السياسية بجامعة شيكاغو وزميل غير مقيم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية. يمكن متابعته عبر تويتر على: @ProfPaulPoast
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.