الفساد، الإرثُ المَنسي لغزو العراق
أدّى تدفق المساعدات لإعادة الإعمار في العراق بعد العام 2003 وغياب المُساءلة عن التعاقد والإنفاق إلى وصول الفساد في القطاع العام إلى مستويات متطرفة جديدة.
ريفا دينغرا ومارسين الشمري*
بعد عشرين عامًا على غزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة، أعلن رئيس الوزراء العراقي السابع، محمد شيّاع السوداني، أن الفسادَ هو أحد أكبر التحديات التي تواجه الأمة، واصفًا إياه بأنه “لا يقلّ خطورةً عن تهديد الإرهاب”. ويتفِّقُ العديد من مواطني العراق البالغ عددهم 43 مليون نسمة مع السوداني، كما يتَّضح من استطلاعات الرأي العام وحركات الاحتجاج الواسعة الانتشار، لكن القليل منهم يربط أزمة الفساد بحرب العام 2003 والاحتلال الأميركي اللاحق. يلقي العراقيون اللوم إلى حد كبير على اتفاقِ تقاسُمِ السلطة الذي يسود حكومتهم وعلى الأعضاء الأثرياء من النخبة السياسية.
ومع ذلك، يُمكنُ إرجاعُ صراع العراق مع الفساد – وتحديدًا فساد القطاع العام – إلى سياسات إعادة الإعمار في عهد الاحتلال وإلى رعاية الحقبة البعثية. في إعادة إعمار العراق، قامت الولايات المتحدة بنثرِ أموالٍ غير مُنَظَّمة وغير خاضعة للرقابة في العديد من المشاريع، وفي أثناء ذلك، أطلقت العنان للتعطّش للكسب غير المشروع والمال السهل على كل مستوى من مستويات الحكومة تقريبًا، وحتى في منظّمات المجتمع المدني. وبينما تسعى حكومة السوداني الآن إلى تحسين الخدمات العامة والبنية التحتية لإرضاء المواطنين المُحبَطين، يجب عليها كسر أنماط الفساد بعد إعادة الإعمار.
كان الفساد والتوزيع الانتقائي للخدمات العامة موجودَين بالتأكيد قبل الغزو في ظل نظام صدام حسين. في العام 1968، سيطر حزب البعث العراقي على العراق من خلال انقلاب، واستثمر بعد ذلك بكثافة في توفير الخدمات العامة التي تُغذّيها عائدات النفط. ومع ذلك، أدى انخفاض عائدات النفط في الثمانينيات الفائتة، والحرب مع إيران، وإجراءات الإصلاح الاقتصادي إلى انخفاضٍ كبير في إنفاق الحكومة العراقية على الخدمات العامة. أدت حرب الخليج في العام 1990 والعقوبات التي تلت ذلك إلى تدمير البنية التحتية للدولة، ولا سيما شبكة الكهرباء وشبكات المياه. بحلول نهاية التسعينيات، لم يكن لدى معظم الأسر العراقية وصولٌ ثابتٌ للكهرباء وارتفعت معدلات سوء التغذية بشكلٍ كبير، خصوصًا بين الأطفال.
في ظلِّ هذه الظروف الصعبة، سمح برنامج النفط مقابل الغذاء ببيع النفط العراقي مقابل دعم إنساني. عانى البرنامج من عمليات احتيال واسعة النطاق من قبل المسؤولين العراقيين والشركات الدولية وموظفي الأمم المتحدة. داخل العراق، حصد صدام ودائرته غالبية الفوائد من هذا البرنامج وظهرت أنماطٌ جديدة من الفساد خلال فترة العقوبات. أدّى الارتفاعُ الهائلُ في معدلات البطالة إلى زيادة عدد البيروقراطيين العراقيين الذين يفرضون رسومًا على الوصول إلى الخدمات العامة خلال التسعينيات، وهو نمط لا يزال مستمرًّا حتى يومنا هذا.
ومع ذلك، فقد أدّى تدفّقَ المساعدات لإعادة الإعمار بعد العام 2003 وغياب المُساءلة عن التعاقد والإنفاق إلى وصول الفساد في القطاع العام في العراق إلى مستويات متطرفة جديدة. أعقب الغزو جهود إعادة إعمار واسعة النطاق من قبل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والحكومة العراقية الجديدة ومجموعة من المانحين الدوليين. من العام 2003 إلى العام 2014، تمَّ إنفاقُ أكثر من 220 مليار دولار على إعادة الإعمار وحدها، بما في ذلك أكثر من 74 مليار دولار من المساعدات الخارجية. بالإضافة إلى العنف وإقصاء العراقيين الذين يُقوِّضون إعادة الإعمار، فقد تعثّرت جهود إعادة البناء بسبب الإنفاق الهائل المُهدَر والفساد على جميع المستويات.
شاركَ عددٌ كبير من مقاولي مشاريع المساعدات والمسؤولين العراقيين والأميركيين بشكلٍ مباشر في الفساد أثناء تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار. وقد وثّقَت التقارير حالات من المتعاقدين والأفراد الأميركيين الذين قاموا بارتكاب سرقة صريحة للمساعدات وتنفيذ مخططات الرشوة. تمكّنَ المقاولون الدوليون والمحليون على حد سواء من جني الفوائد من مشاريع المساعدة من خلال زيادة رسوم المشروع والانخراط في الهدر والإنفاق المفرط. قدّرَ تقريرُ المفتّش العام الأميركي الخاص بإعادة إعمار العراق أن ما لا يقلّ عن 8 مليارات دولار من أكثر من 60 مليار دولار لإعادة الإعمار قد أُهدِرَت بالكامل.
في حين تم تحقيق مكاسب من خلال إعادة تأهيل البنية التحتية العامة المدمّرة أو التي تقوّضت بشدة، مثل النظام الصحي والشبكة الكهربائية، فقد أخذت فترات زمنية أطول بكثير مما كان مخططًا لها في البداية وبتكاليف أعلى بكثير. وبدلًا، عزّزت الزيادة الكبيرة في تمويل إعادة الإعمار بعد الحرب التصوّر القائل بأن مشاريع المساعدة على وجه التحديد والخدمات العامة على نطاق أوسع يمكن أن تكون مصادر للربح الفردي والقائم على الاتصال مع القليل من النتائج. في حين تمّت مقاضاة بعض حالات الاحتيال التي أقدمَ عليها المتعاقدون والموظفون الأميركيون، فمن المحتمل ألَّا يَرجَع السبب في ذلك إلى ضعف حفظ السجلات من قبل حكومة الولايات المتحدة مما جعل معرفة المدى الدقيق للاحتيال والتبديد أمرًا مستحيلًا. في العراق، أثبتت مبادرات مكافحة الفساد التي تمّ اتخاذها في أعقاب الغزو أنها تشكل حاجزًا ضعيفًا ضد مسؤولي الحكومة والوزارات الذين يحمون الأفراد من المساءلة على أساس الانتماء الطائفي والحزبي.
طلبَ المسؤولون العراقيون في القطاع العام على نطاق واسع رشاوى في قطاعاتٍ مهمّة مثل الصحة والكهرباء مع مُساءلةٍ محدودة من الحكومة أو الجهات المانحة التي تموّل الخدمات العامة. في حين أن هذا النمط سبقَ الغزو، فقد تفاقم بشدة في فترة ما بعد العام 2003 مع تدفق التمويل. وكما كتب الخبير العراقي عباس كاظم في العام 2010، فإن النظام القانوني المدعوم من الولايات المتحدة مكّنَ الأحزاب الطائفية من حماية المسؤولين الفاسدين على كل المستويات من المساءلة. وقد أثبتت أعمال العنف والاغتيالات ضد مسؤولي مكافحة الفساد تحديًا قاتلًا آخر. في العام 2006، على سبيل المثال، اختُطِفَ نائب وزير الصحة عمار الصفار وقُتِل على أيدي جماعة مسلحة تسيطر على وزارة الصحة بسبب تحقيقات مكافحة الفساد التي كان يترأسها.
من ناحيةٍ أخرى، تمّت التعيينات في الوزارات الرئيسة في فترة ما بعد إعادة الإعمار على أساس العلاقات السياسية وليس على أساس الكفاءة. نتيجة لذلك، غالبًا ما كانت مشاريع إعادة الإعمار المُموَّلة بالمساعدات تُدار بشكل سيّئ بمجرد اكتمالها وتسليمها إلى الحكومة. حتى العديد من المشاريع التي تم إبرازها كنجاحات تبيَّنَ أنها لا تعمل أو تتم إدارتها بشكل سيئ بسبب الفساد واستبعاد العراقيين من عمليات صنع القرار. على مرِّ السنين، أصبح القطاع العام في العراق أداة رعاية مع زيادة عدد مناصب النخبة في الخدمة المدنية (“الدرجات الخاصة”) للموالين للأحزاب. وهذا له جذور تاريخية – فقد أظهرت أبحاث العلوم السياسية أنه في التسعينيات، تم توظيف أفراد من مدينة تكريت مسقط رأس صدام حسين بمعدلات أعلى في القطاع العام مُقارنةً ببقية السكان.
بعد عشرين عامًا على الحرب، لا تزال الخدمات العامة في العراق متضرّرة بشدة بسبب أنماط فساد النخبة المترسّخة في فترة ما بعد الحرب. وقد وجدت دراسة أجرتها “المكتبة العامة للعلوم” (PLOS) أنه من بين 405,000 حالة وفاة زائدة ناتجة عن الحرب بين العامين 2003 و2011، كان ثلثها بسبب فشل البنية التحتية مثل الصرف الصحي والنقل والصحة. ويُبرزُ تقريرٌ حديث أعدّه “ويل تودمان” و”لبنى يوسف” من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية كيف تتلقى الفصائل السياسية رشاوى من مشاريع الكهرباء العامة. إن الانقطاعات الكهربائية الشائعة أصلًا آخذة في التدهور، وغالبية العراقيين ليست لديها كهرباء لمدة نصف اليوم. ووفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة، فإن 3.2 ملايين طفل في سن الدراسة لا يذهبون إلى المدرسة. وقد احتلَّ القطاع العام في العراق المرتبة 23 في العالم الأكثر فسادًا في العام 2022 – وهو تحسُّنٌ مُقارنةً بالوقت الذي كان فيه ثاني أكثر القطاعات فسادًا في العام 2006. وقد أثار الوضع احتجاجات في السنوات الأخيرة، لا سيما بين الشباب المُحبَطين من آثار الفساد على الخدمات العامة والاقتصاد.
واليوم، لدى العراق 115 مليار دولار من الاحتياطات الأجنبية وقد وافق مجلس الوزراء على موازنة (تنتظر الآن موافقة البرلمان) بقيمة 152 مليار دولار. وهذا من أعلى الأرقام التي شهدها العراق في تاريخه بعد العام 2003 وتمثل فرصةً للاستثمار طويل الأجل في البنية التحتية والخدمات العامة في البلاد. ومع ذلك، فإن هذه الأرقام تخاطر أيضًا بإلهام المزيد من الكسب غير المشروع. بعد كل شيء، قبل بضعة أشهر فقط في ظل إدارة الكاظمي تم سرقة أو إخفاء 2.5 ملياري دولار من البنوك المملوكة للدولة فيما وصفه الصحافيون بـ”سرقة القرن”.
ما الذي يمكن فعله بشكل معقول لحماية ثروة العراق لشعبه؟ إن محاربة الفساد هي عملية وقائية وتفاعلية، وقد دعا الخبراء منذ فترة طويلة إلى مضاعفة الجهود في مبادرات مكافحة الفساد في العراق. عزّزَ البحثُ والتعلم من سياقات أخرى، مثل دراسة جيمس لوكستون عن بنما، الأفكار بما في ذلك إنشاء “جزر النزاهة” التي تحمي المؤسسات العامة الرئيسة حتى وسط الفساد المنهجي الأوسع. قدّمَ سَجَد جياد من “مؤسسة القرن” توصيات ملموسة بما في ذلك بناء شبكة لمكافحة الفساد من أعضاء المجتمع المدني والسياسيين وتعزيز المؤسسات المحلية مثل هيئة النزاهة.
أوصى محللون آخرون في العراق بنقل البلاد بعيدًا من الاقتصاد القائم على النقد. بدأت إدارة السوداني العمل على هذا الأمر تحت ضغط من الولايات المتحدة – على الرغم من أن واشنطن كانت منخرطة بشكل مباشر في إنشاء القطاع المصرفي العراقي وفي تنظيم مزاد الدولار الذي أصبح في ما بعد وسيلة لغسيل الأموال لإيران وتركيا المجاورتين. أخيرًا، أصبحت الحكومات العراقية تنظر إلى ثروة العراق النفطية على أنها غير مُنَظَّمة، وقد حاربت الأحزاب السياسية والجماعات المسلحة بنشاط ضد أي تنظيم. هذه الثروة التي استُخدِمت كأداةِ رعاية في عراق البعث وما بعد البعث، يجب أن ينظمها الشعب العراقي إذا كان للعراق أي فرصة للتغلب على الفساد.
وكما يقول المثل الشائع في العالم العربي: “المال السايب يعلم الناس على السرقة”. العراق ما بعد 2003 هو خير مثال على ذلك. كانت الآثار طويلة المدى لتدفق الأموال خلال فترة إعادة الإعمار هي المساعدة على ترسيخ القطاع العام كمركزٍ للفساد. إن فَهمَ أنماط الفساد المترسّخة أثناء إعادة الإعمار هو جُزءٌ مُهِمٌّ من مساعدة العراق على إجراء إصلاحات القطاع العام التي تشتد الحاجة إليها لبناء خدماتٍ عامة فعّالة لمواطنيها.
- ريفا دهينغرا انضمت إلى معهد بروكينغز كزميل أبحاث ما بعد الدكتوراه في برنامج السياسة الخارجية للعام الدراسي 2022-23. وتركّز أبحاثها على سياسات الهجرة القسرية والاستجابات الإنسانية في الشرق الأوسط والدول النامية الأخرى. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @Reva__D
- مارسين الشمري هي زميلة غير مقيمة في برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكينز، حيث كانت زميلة أبحاث ما بعد الدكتوراه في الفترة من 2020-2021. وهي أيضًا زميلة باحثة في مبادرة الشرق الأوسط في مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية في كلية كينيدي في جامعة هارفرد. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @MarsinRA
- كُتِبَ الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.