سياسةُ الطاقة السعودية والنظامُ العالمي

هادي فتح الله*

تعرّضَ صُنّاعُ سياسات الطاقة في السعودية للضغوط تكرارًا – من داخل بلدان منظمة “أوبك+” ومن الخارج – لوَضعِ سياساتٍ من أجل التخفيف من الاضطرابات الاقتصادية العالمية وتلبية المطالب ذات الدوافع السياسية، فيما تُمارَس عليهم ضغوطٌ داخليًا لإرضاء التطلعات الاجتماعية الاقتصادية المحلية والاستجابة لها. ويجب عليهم في الوقت نفسه مواكبة الاحتياجات والقيود والمراحل الانتقالية التي يفرضها تطوير القطاع.

إنطلاقًا من هذه الخلفية، ابتعد صنّاعُ السياسات السعوديون، منذ العام 2015 وعملًا بالسياسة الجديدة “السعودية أولًا”، من السياسة التي اتُّبِعت طوال عقودٍ وقامت على أداء دور الجهة التي تُرسي توازنًا في الأسواق وتَقبَلُ بالأسعار التي يفرضها السوق، وتحوّلوا نحو أداء دورٍ أكثر فاعلية في تحديد أسعار الطاقة، والتدخّل في أسواق الطاقة العالمية والتأثير فيها. يؤدّي ذلك إلى تخلّي سياسة الطاقة السعودية عن دورها في تثبيت استقرار إمدادات الطاقة العالمية، وبالتالي إلى فكّ ارتباط هذه السياسة بالنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.

بعد العام 2015، باتت الخيارات في سياسة الطاقة مدفوعةً بالظروف السياسية وظروف الأسواق بما في ذلك المنافسة الجيوسياسية والإقليمية، والإنتاج النفطي والتوازن بين العرض والطلب، والتسعير والمنافسة على الحصّة في الأسواق، والقدرات الإنتاجية والاحتياطية والاعتبارات الاقتصادية المحلية. تكشف هذه الخيارات في السياسات عن الأهداف السعودية في المدى الطويل، والتي تشمل الإبقاء على الارتفاع في أسعار النفط لتمويل التنويع الاقتصادي بموجب رؤية 2023، وفي الوقت نفسه إطالة أمد سيطرة النفط والغاز في خليط الطاقة العالمي.

تشمل خصائص سياسات الطاقة في مرحلة ما بعد 2015 ترقية منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) إلى “أوبك+” ” التي فرضها الأمر الواقع في العام 2016، ما مهّدَ الطريق للابتعاد عن منظومة البترودولار، وللانخراط السعودي النشط في أسواق الطاقة غير النفطية وفي التحوّل الأوسع في مجال الطاقة. علاوةً على ذلك، باشرت السعودية في العام 2019 استكشاف تجارة النفط بعملاتٍ أخرى إلى جانب الدولار الأميركي، وفي العام 2022، بدأت المملكة جدّيًا النظر في خيارات التجارة النفطية مع الصين بعملة اليوان. وفي موازاة ذلك، تضغط السعودية من أجل زيادة الاستثمارات المحلية والعالمية في الطاقة المتجددة، فيما توظّف استثمارات في البحوث والتنمية عالميًا. وقد تعهّدت المملكة بتخصيص نحو 100 مليار دولار أميركي لهذه المهمة حتى العام 2030.

لكن، وعلى الرُغمِ من أن هذه الخيارات في سياسات الطاقة بعد العام 2015 تمنح السعودية تمكينًا على الساحة السياسية العالمية، يُمكنُ أن تَرتَدَّ الديناميات السياسية الناجمة عنها بنتائج عكسية على المستويَين المحلي والعالمي. ومن أبرز جوانب السياسات السلبية التي تسببت بها هذه الخيارات فكّ الارتباط بين سياسة الطاقة والسياسة الأمنية. فالطاقة السعودية مُتجذّرة في البنية الأمنية العالمية منذ تأسيس القطاع (والبلاد) في ثلاثينيات القرن العشرين. وقد ولّدت السياسات الناجمة عن سياسة الطاقة السعودية الجديدة بالفعل تصدّعات في الاتفاقات السياسية التي ارتكز عليها أمن المملكة لوقتٍ طويل. وأدّت هذه التطوّرات إلى ترسيخ الموقف الأميركي الذي أسقطَ الخليج والأمن السعودي من قائمة أولوياته، بدلًا من أن تساهم في عودة الولايات المتحدة عن قرارها بفك الارتباط مع المنطقة. ولعلّه ليس مفاجئًا أن يتزامن ذلك مع النظرة الأميركية التي تعتبر أن السعودية تعمد بصورة متزايدة إلى استخدام النفط أداةً سياسية في يدها.

علاوةً على ذلك، وفيما دفعت ثورة النفط الصخري بالولايات المتحدة إلى شطب النفط السعودي من قائمة أولوياتها، أخفق صنّاعُ السياسات السعوديون في أن يفرضوا، من جديد، معادلة النفط مقابل الأمن التي كانت سائدة في المملكة قبل العام 2015، فكانت النتيجة تمكُّن التيّار الحوثي من شنّ هجمات على منشآتٍ نفطية سعودية أساسية في العامَين 2021 و2022. أما إفساح المجال أمام الاستثمارات الصينية في قطاع الطاقة السعودي من خلال شركة “سعودي أرامكو” فيزيد من تعقيدات المشهد السياسي والأمني، حتى لو استحوذت شركات أسهم خاصة أميركية بصورة مشتركة على هذه الاستثمارات. من الأمثلة الحديثة على ذلك خصخصة خطوط أنابيب الغاز بقيمة 15.5 مليار دولار أميركي، في خطوةٍ تهدف، مبدئيًا، إلى حماية البنى التحتية السعودية من الهجمات في المستقبل.

فيما تتّجه الحكومة السعودية إلى إعادة النظر في السياسات وعملية صنع القرار في قطاع الطاقة، يجب عليها أن تُدرِكَ أن السياسات المُتَّبعة تنطوي على تبعاتٍ سياسية. وفي إطار إعادة الترتيب الجارية للنفوذ الدولي، قد تُشكّلُ هذه التداعيات السياسية تهديدًا لمكانة السعودية السياسية العالمية وأمنها.

  • هادي فتح الله هو شريك في شركة RETGO Consulting المتخصصة بالاستشارات في مجال الطاقة، ومدير في شركة NAMEA Group للاستشارات بشأن السياسات. وهو أيضًا مُحاضِرٌ زائرٌ في الاقتصاد السياسي للطاقة والمفاوضات الاستراتيجية في كلية” IFP School في باريس. يمكن متابعته عبر تويترعلى: @Hadi_FAO

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى