تشاؤمٌ رُغمَ التقدّم!

جيمس برادفورد ديلونغ*

أصبحت الإنسانية اليوم أكثر ثراءً من أيِّ وقتٍ مضى في تاريخها. ومع ذلك، بسبب تحدّي وباء كوفيد-19 والتهديد الوجودي للاحتباس الحراري، هناك شعورٌ واسع النطاق بأن الأمور تسير بشكل سيىء. بداية العام الجديد هي عادةً مُناسَبة للأمل، لكن هل التشاؤم هو الإفتراض الأنسب؟

للإجابة عن هذا السؤال، يجب أن ننظرَ إلى وضعِنا الحالي في سياقٍ أوسع. خلال العشرة آلاف سنة الأولى بعد استنباط الزراعة، لم تستطع البشرية تحقيق أي اقتراب أو تقارب من “المدينة الفاضلة”، بغض النظر عن كيفية تعريف هذا المصطلح. ثم، في حياة آبائنا وأجدادنا، ظهر شيءٌ يقترب من المثالية. ومع ذلك، فقد فشلنا مرارًا في استيعابها. وكما اعتاد الإقتصادي الأميركي الراحل ماكس سينغر أن يقول، سيظل “العالم البشري” الحقيقي بعيد المنال حتى نكتشف سياسات كيفية توزيع الثروة.

حتى بضعة أجيال مضت فقط، سارت البشرية على طبل الإقتصادي الإنكليزي توماس روبرت مالتوس، الذي يقول أن النمو السكاني يُحتَمل أن يكون متسارعًا أما نمو الإمدادات الغذائية أو الموارد الأخرى فهو نموٌّ مؤلَّف من خطوط، ما يؤدي بالمحصلة إلى تدني مستويات المعيشة إلى درجة قد تُسبّب الافتقار السكاني. مع تباطؤ التقدم التكنولوجي وتثاقله وارتفاع الوفيات بنسبةٍ عالية جدًّا، كان حجم السكان هو كل شيء. في عالمٍ حيث ما يقرب من ثلث النساء المُسنّات ليس لديهنّ أبناءٌ أو أحفادٌ على قيد الحياة وبالتالي لا توجد قوة اجتماعية، كان هناك ضغطٌ هائل لإنجاب المزيد من الأطفال في سنوات الإنجاب. وقد أدّى النمو السكاني الناتج، من دون نموٍّ مُتناسِبٍ في حجم المزارع، إلى تعويض أيّ مكاسب في الإنتاجية والدخل من تكنولوجيا أفضل، وأبقى مستويات المعيشة النموذجية مُنخَفِضة وراكدة.

كانت أفضل فرصة للمجتمع المالتوسي لتحقيق السعادة النسبية هي تعزيز عادة تأخير الزواج، وبالتالي خفض معدل المواليد. في مواجهة مشكلة النمو السكاني غير المُستدام، مثّلت هذه الممارسة حلًا اجتماعيًا وليس بيولوجيًا، والذي اتخذ شكل سوء تغذية. في الوقت عينه، كانت أفضل مناسبة لسعادة النخبة هي إنشاء عملية سَلِسة لاستخراج الثروة من المزارعين والحِرَفيين.

إننا الآن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وقد مرّت البشرية تقريبًا بما يسميه علماء الاجتماع التحوّل الديموغرافي: التحوّل من معدلات المواليد والوفيات المرتفعة إلى معدلات الوفيات المنخفضة، بسبب التنمية الاقتصادية والتقدّم التكنولوجي. الضغط السكاني المالتوسي لم يعد يُبقينا فقراء. تتجاوز إنتاجيتنا بشكل كبير إنتاجية جميع الأجيال السابقة، وهي مستمرة في النمو. في الجيلين المقبلين، سنحقق نموًا نسبيًا في قوتنا التكنولوجية بقدر ما حققه أسلافنا في العام 1870 منذ الهجرة الكبرى من إفريقيا قبل 50,000 عام.

في أجزاءٍ كثيرة من العالم، هناك بالفعل ما يكفي من الثروة لضمان عدم جوع أحد أو عدم توفير مأوى له أو تعرّضه للعديد من التهديدات الصحية التي كانت تُقصّر في أعمار معظم الناس. هناك ما يكفي من المعلومات والترفيه بحيث لا يشعر أحدٌ بالملل. هناك ما يكفي من الموارد للسماح للجميع بإنشاء أو متابعة ما يريد. صحيح أنه لن تكون هناك مكانة كافية لإرضاء الجميع؛ ولكن إذا كنا على استعداد للقبول بكرامةٍ أساسية عالمية، فلم يعد هناك أي سبب مادي يجعلنا نمتلك مُجتمعًا يشعر فيه الناس بعدم الاحترام.

لماذا إذن تبدو الأمور وكأنها تسير بشكل سيىء؟ أوّلًا، فشل العالم في بناء مؤسسات حَوكمة يمكنها إدارة المشكلات العالمية مثل تغيّر المناخ. كان من الممكن التعامل مع هذا التحدّي بتكلفة منخفضة للغاية منذ جيل مضى. الآن، سوف يؤدي تجنّب وقوع كارثة والتكيّف مع التغيير الموجود هنا أصلًا إلى تكاليف أولية أكبر بكثير. ولأي نهاية؟ فقط للحفاظ على ثروة بارونات السارقين للوقود الأحفوري لبضع سنوات أطول؟

ثانيًا، ثروة العالم التي لم يسبق لها مثيل يتم توزيعها بطريقة غير معقولة ومروّعة وسوء توزيعها إجرامي. قد يكون لدى المليار شخص الفقراء هواتف ذكية وبعض الوصول إلى الرعاية الصحية، لكن من نواحٍ عديدة، ليسوا أفضل حالًا بكثير من أسلافنا المالتوسيين قبل الصناعة. لقد مرّت 75 سنة منذ أن أضاف الرئيس الأميركي هاري ترومان بحكمة التنمية الاقتصادية العالمية إلى أجندة الشمال العالمي. على الرغم من أنه سيكون سعيدًا لرؤية أن الجنوب العالمي أصبح الآن أكثر ثراءً مما كان عليه في العام 1945، إلا أنه سيُصاب بخيبة أمل كبيرة عندما يكتشف أن الفجوة النسبية بين البلدان الغنية والبلدان النامية كبيرة كما كانت دائمًا.

حتى البلدان المتقدمة مثل الولايات المتحدة غير قادرة على ما يبدو على التوزيع المناسب للثروة الهائلة التي أوجدتها اقتصادات ما بعد الصناعة الحديثة. لقد كذّبت العقود الأربعة الماضية الادعاء النيوليبرالي بأن المجتمع غير المتكافئ من شأنه أن يُطلق طاقات ريادية هائلة، مما يرفع كل القوارب. ومع ذلك، فإن السياسات التي تمنح الرفاهية والمنفعة والكرامة لجميع الناس تم حظرها باستمرار.

إحدى العقبات الرئيسة هي فكرة أن بعض الناس غير الأغنياء في المجتمع لا يستحقون أكثر بل حتى أقل. لطالما طُبّقَ هذا الرأي على ذوي الأصول الإسبانية والأميركيين السود في الولايات المتحدة، والمسلمين في الهند، والأتراك في بريطانيا، وجميع أولئك الذين عانوا من قومية الدم والتراب. يبدو أن الكثيرين الآن يعتقدون أن رؤية التنوير للمساواة البشرية كانت خاطئة ويجب استبدالها بالمبدأ الأرسطي القائل بأنه من الظلم معاملة غير المتساوين على قدم المساواة.

عقبة أخرى اقتصادية. كان يُفترَض منذ فترة طويلة أن تعمل التكنولوجيا ورأس المال والعمالة دائمًا في نهاية المطاف كمكمّلات، لأن كل مهمة من مهام معالجة المعلومات والآلة ستظل بحاجة إلى أن يشرف عليها إنسان. لكن تقنيات معالجة المعلومات لدينا تفوّقت على نظامنا التعليمي، وأصبح الأمل في التكامل المُتناغِم حلمًا بعيد المنال.

إن تغيّر المناخ والقومية والتحديات المرتبطة بالتقنيات الجديدة ليست سوى عدد قليل من المشاكل الكبيرة التي ستواجهها البشرية في عقود ما بعد الوباء. في خطابه الافتتاحي الأول، أشار الرئيس فرانكلين روزفلت إلى الأمثال 29:18: “حيث لا توجد رؤية، يموت الناس …”، ما لم تظهر مثل هذه الرؤية لزمننا، وحتى تظهر، لن يرى الناس سوى الكآبة في المستقبل.

  • جيمس برادفورد ديلونغ هو نائب مساعد سابق لوزير الخزانة الأميركية، وأستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، وباحث مشارك في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.
  • كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى