فان غوخ وحكاية زهر اللَوز

لوحة “تَفَتُّح زهر اللوز”

هنري زغيب*

طوال حياته، ورغم إِنتاجه نحو 2000 عمل بين 900 زيتية و1100 رسم بالقلَم الرصاص، لم يَــبِـع إِلَّا لوحةً واحدة فقط: “الكَرْم الأَحمر” فيما آلَت بعده جميع أَعماله إِلى شقيقه تِــيُــو فاحتفظ بها فترة قصيرة حتى وفاته المفاجئة ،وانتقلَت إِلى زوجته.

بين أَشهر الأَعمال التي بقيَتْ من فان غوخ: لوحة “تَفَتُّح زهر اللَوز”، وضَعَها قبل خمسة أَشهر من وفاته.

فما قصة هذه اللوحة؟

تفصيل من اللوحة

بياض الزهر وزُرقة الفضاء

عاش فنسنت فان غوخ (1853-1890) حياته القصيرة (37 سنة) عاطلًا عن العمل إِلَّا عن الرسم. عاش طوال حياته متكلًّا لإِعاشته على شقيقه الأَصغر تيودُورُس (تيو: 1857-1891)، فانصرف كليًّا إِلى الرسم، ولم ينشغل بِــهَمّ معيشته. من هنا تعلُّقُهُ الكبير بشقيقه وكميةُ الرسائل التي كتبها إِليه، معترفًا في غير واحدة منها بأَنه لولا تيو لَما كان أَنتج ذاك العدد الكبير من اللوحات، وأَهداه قسمًا كبيرًا منها، بينها لوحة “تَفَتُّح زهر اللوز”.

هذه اللوحة رسمها فنسنت حين كان في سانت ريمي (جنوبي فرنسا) ذات يوم من شباط/فبراير 1890 (قبل وفاته بخمسة أَشهر). كان ذلك في نهار ربيعي، وزهر اللوز في مطلع تَفَتُّحه، فبدا تناقضٌ جميلٌ بين بياض زهر اللوز الساطع في القريب وزُرقة الفضاء المضيئة في البعيد. من هنا رمزيةُ الحياة الطالعة حديثًا على أَطراف الأَغصان في هيكل شجرة اللوز، تناقُضًا مع فراغ خلفية المشهد الخالي في البعيد من الحياة. وهي هذه شهرة هذه اللوحة الفريدة: جمال ولادة الزهر في بُزُوغ حياة جديدة.

تفصيل آخر من اللوحة

هدية إِلى طفل تيو

لِـمَ هذا المنحى في اللوحة؟ لأَن لها مناسبةً خاصة بالولادة. فهو رسمها عند ولادة ابن شقيقه تيو الذي حرص على تسمية وليده الجديد فنسنت تَيَمُّنًا بِاسم شقيقه الرسام.

كانت اللوحة تكريمًا من الرسام لابن أَخيه، حيال تيو وزوجته جو (التي سيكون لها لاحقًا أَن تهتم بلوحات فنسنت إِثْرَ وفاته ووفاة زوجها تيو فجأَةً بعد موت فنسنت بأَشهر قليلة).

هكذا بقيَت اللوحة في المجموعة الخاصة بالأُسرة، ولَم تُعرَض للبيع مع لوحات أُخرى لفنسنت كان تيو عرضها للبيع ولم ينجح في بيع أَيٍّ منها. مع ذلك كان تيو، من ماله الخاص، يُعيل فنسنت بكل رضا وتقدير لريشة شقيقه المبدعة، فيرسل له المال بصورة دورية لا إِلى انقطاع.

فنسنت فان غوخ حافظ الإِرث ومؤَسس المتحف بِاسْم عمه

بالأُسلوب الياباني

أَهمية هذه اللوحة الرائعة، فنيًّا، كما عالَـجَها النقاد لاحقًا، أَنهم وجَدوا فيها عملًا فريدًا دقيقًا مشغولًا بمهارة نادرة. وكان فنسنت رسمها بالأُسلوب الياباني في الرسم (طريقة جاءت سنة 1600 من الصين إِلى اليابان)، وكان هذا الأُسلوب راجَ شعبيًا في فرنسا مطلع القرن التاسع عشر. واستخدم فان غوخ للوحته خطوطًا عريضة وأَلوانًا خاصة، دون التركيز على الخلفية أَو المساحة الوُسطى أَكثر من مقدمة اللوحة. لذلك ظهرَت في هذه اللوحة ملامح من الخيالات والظلال، وهذا من خصائص التأْثير الياباني، على ملامح من الأَبيض والأَصفر ونقاط متفرقة من الأَزرق والأَحمر ما أَعطاها حالة من الدفْءِ والحرارة، بأَلوانها الساطعة والوهاجة، ما كان سائدًا في جنوبي فرنسا أَيام فان غوخ.

آخر 570 يومًا

وضَع فان غوخ هذه اللوحة قبل خمسة أَشهر من وفاته في 29 تموز/يوليو 1890، وكان وضَع لوحات عدة في تلك الأَشهر الخمسة، كما أَنه في الأَشهر التسعة عشر الأَخيرة من حياته وضع 255 لوحةً حين كان يعيش في بلدة آرْلْ وفي محيطها  (على نهر الرون في جنوب فرنسا). ويروى أَنه في تلك الفترة بالذات (خلال570 يومًا) كان يرسم لوحتَين أَو ثلاثًا في اليوم الواحد. وكان فترتئذٍ غزيرَ الرسم حتى الولع، حين رسَم هذه اللوحة وأَهداها إِلى أُسرة شقيقه تيو. وتلك الفترة الأَخيرة من مسيرته الفنية تميَّزَت بانتقاله من الانطباعية التقليدية إِلى مطالع التعبيرية المباشرة.

من هذا المنظار تبدو هذه اللوحة بسيطة مسطَّحة للنظرة الأُولى، لكن بساطتها هي التي تجعلها جاذبة لقراءتها مليًّا بهدُوء وسلاسة، بِـما فيها من رقَّةٍ وقوَّة وعذوبة معًا في الرُقشَة اللونية الواحدة، وهنا فرادتُها، فهي على صورة الحياة ذاتها التي تجلَّت لفنسنت وهو يتأَمل الوليد الجديد ابن شقيقه تيو.

فنسنت الوفيّ لعمّه

لا عجب، بعدها، أَن يتولى فنسنت (وحيد تيو) إِنشاءَ متحف خاص على اسم عمِّه فنسنت، بات اليوم “متحف فان غوخ الوطني” في قلب أَمستردام، جمع فيه ما كانت أُمُّه ورثَت عن زوجها تيو من لوحات وحافظت عليها حتى وفاتها سنة 1925، حتى كبر ابنها فنسنت وليم فان غوخ (1890-1978). وبعد تجهيز المتحف، تم افتتاحُه في 3 حزيران/يونيو 1973 مكرَّسًا لأَعمال عمّه فنسنت سيرةً ومسيرةً وكلِّ ما في حياته من معلومات وتفاصيل.

ولعلَّه، يوم تُوُفِّي سنة 1978، غاب مرتاحَ الضمير إِلى أَنه أَعاد إِلى عمه وفاءَه، من لوحة وضعَها عمُّه احتفاء بولادته سنة 1890، فخصَّص له متحفًا هو اليوم أَحد أَكبر وأَهم المتاحف في العالَم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى