هل تَفتَحُ المأساةُ في تركيا وسوريا بابًا ديبلوماسيًّا؟
كابي طبراني*
في غضونِ لحظاتٍ من الزلزال الكارثي الذي ضرب الحدود بين سوريا وتركيا في ساعةٍ مُبكِرة من صباح يوم الإثنين الفائت، شاهد العالم مَشهدَين مألوفَين في أعقاب الكوارث الطبيعية الكبرى. في البداية جاءت الصور المؤلمة للناجين البائسين الذين يبحثون بيأسٍ عن أحبائهم تحت الأنقاض، ثم تبعها وصول عمّال الإنقاذ وتعبئة المجتمع الدولي.
في خضمِّ مثل هذا الحدثِ المُظلمِ والمأسوي، وسط الكثير من المعاناة الإنسانية، قدّمت التعبئة الدولية الواسعة بصيصًا من الضوء. كان جديرٌ بالملاحظة بشكلٍ خاص أنه من بين عشرات الدول التي عَرَضَت على وجه السرعة إرسالَ المساعدة كانت هناك دولٌ تربطها مع تركيا علاقات متوتّرة جدًا – دولٌ مثل اليونان وإسرائيل، إلى جانب دول غربية أخرى شهدت توتّرًا في علاقاتها مع أنقرة في السنوات الأخيرة.
هل يمكن أن يُصاحبَ أهوال الزلزال جانبٌ إيجابيّ؟ هل هناك أيُّ احتمالٍ بأن تُتَرجَمَ الجهود الإنسانية إلى إصلاحاتٍ دائمة للخلافات الديبلوماسية المُزعزِعة للاستقرار؟
تُشيرُ الأدلّة من التاريخ -على حد تعبير وسائل التواصل الاجتماعي الشعبية- إلى أن الأمرَ مُعَقَّد. لكن هذا لا يعني أنه مُستَحيل.
تعود التوترات بين اليونان وتركيا إلى قرون. وصل البلدان إلى حافة الحرب ثلاث مرات على الأقل في العقود الخمسة الماضية. كانت هناك فتراتٌ من التقارب، ولكن في الأشهر الأخيرة وصلت الخلافات إلى حدٍّ خطير لدرجة أنه في كانون الثاني (يناير)، وجد رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس أنه من الضروري تهدئة مخاوف الجمهور في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، مُعلنًا: “لن نذهبَ إلى الحربِ مع تركيا”.
لم يكن ميتسوتاكيس ميلودراميًا. لقد هدّدَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرارًا وتكرارًا باحتمال غزو القوات التركية لليونان، مُحَذّرًا في وقت ما من أن الصواريخ التركية يمكن أن تصل إلى أثينا. ويتركّز الخلافُ الجديد، الذي يؤجّج الخطاب لدى الجانبين، على الحدود البحرية المُتنازَع عليها في شرق البحر المتوسط، وهي منطقة غنية بالغاز الطبيعي.
ومع ذلك، في الساعات التي أعقبت زلزال يوم الاثنين، بدا الخطاب المُلتهب مَنسيًا ومن الماضي. أرسلت اليونان فرق إنقاذ، وتحدّث الزعيمان عبر الهاتف. وأعلن ميتسوتاكيس على تويتر أنه “كرر الاستعداد لتقديم كل مساعدة ضرورية إضافية”.
في حالة إسرائيل، قام البلدان، في الواقع، بتهدئة علاقاتهما المتوترة في السنوات الأخيرة. لقد كان أردوغان من أشدِّ مُنتقدي إسرائيل لمعاملتها السيّئة للفلسطينيين، وقامَ بطَردِ السفير الإسرائيلي في أنقرة وسحب السفير التركي من إسرائيل في 2018، وقدّمَ ملاذًا آمنًا لأعضاء حركة “حماس”. لا أحد يدّعي أن العلاقة أصبحت طبيعية حتى الآن، باتت أكثر دفئًا. لكن سفيري الجانبين عادا إلى سفارتيهما قبل شهرين فقط. قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مازحًا إن “[أردوغان] كان يناديني بهتلر كل ست ساعات”، لكن الزعيمين ينخرطان الآن في محادثات طبيعية.
لم يكن مُفاجئًا إذًا أن إسرائيل قد أرسلت العشرات من رجال الإنقاذ، من قيادة الجبهة الداخلية، إلى منطقة الزلزال كجُزءٍ من “عملية غصن الزيتون” في غضون ساعات من وقوع الكارثة. لكن الجدير بالذكر أنه عندما اتصل الرئيس الإسرائيلي حاييم هرتسوغ بأردوغان يوم الاثنين لتقديم تعازيه، وفقًا لمكتب هرتسوغ، قدّمَ أردوغان أيضًا تعازيه لإسرائيل في ضحايا الهجوم الفلسطيني خارج كنيس يهودي في القدس في الأسبوع السابق.
والأمر الأكثر لفتًا للانتباه هو ادعاء نتنياهو أنه تلقّى عبر قنواتٍ ديبلوماسية طلبًا من سوريا للمساعدة في جهود الإنقاذ والإنعاش هناك. لا تزال سوريا وإسرائيل من الناحية الرسمية في حالة حرب.
وقال نتنياهو إنه وافق على الطلب، الذي ذكرت شبكة “سي أن أن” الأميركية أن روسيا قدّمته نيابةً عن سوريا، رُغمَ أن الحكومة السورية نفت طلب المساعدة من إسرائيل. وسواء كانت القصة صحيحة أم لا، فسيكون من المُكلِف سياسيًا للنظام المُتشدّد في دمشق الاعتراف بالتواصل مع إسرائيل.
بشكلٍ منفصل، حشد حلفاء تركيا في حلف شمال الأطلسي وجيرانها الأوروبيون أيضًا أنفسهم للمساعدة، وتجاهلوا غضبهم من أردوغان لعرقلة انضمام السويد إلى الناتو – ولغته الشديدة في الأيام الأخيرة. يوم الأحد فقط، قبل ساعات من الزلزال، هدّد الرئيس التركي تسع دول أوروبية بأنها ستدفع ثمنًا “باهظًا” لإصدار تحذيرات أمنية لمواطنيها الذين يسافرون إلى تركيا وإغلاق قنصلياتها مؤقتًا في البلاد، في أعقاب حرق مصحفٍ أمام السفارة التركية في السويد من قبل ناشطٍ سياسي يميني مُتطرّف في الشهر الماضي.
هل كلُّ هذا الاستعداد لتنحيةِ التوتّرات جانبًا في أعقاب الكارثة علامةٌ على أن الخلافات الديبلوماسية يمكن إصلاحها كنتيجة غير مباشرة للزلزال؟
تُظهِرُ الأدلّة التاريخية أن المآسي يمكن أن تدفع إلى السلام – لكنها يمكن أن تؤجّجَ الحرب أيضًا.
لنتأمّل كارثة تسونامي العام 2004 في جنوب شرق آسيا، والتي خلّفت أكثر من 200 ألف قتيل في بلدانٍ عدة. في إندونيسيا، ساعدت الكارثة في النهاية الحكومة والمتمرّدين في إقليم آتشيه على التوصّل إلى اتفاقٍ أنهى هذا الصراع.
في المقابل، في سريلانكا، رأى الانفصاليون التاميل في الأزمة فرصةً لتعزيز أهدافهم. كثفت حركة “نمور تحرير التاميل” حربها ضد الدولة التي استمرت لخمس سنوات أخرى.
حتى لو لم يكن تأثير الكارثة على النزاعات الحالية هو نفسه دائمًا، فلا شكَّ في أن حدثًا كبيرًا مثل هذا الزلزال من المرجح أن يترك بصمةً ديبلوماسية. لكن كيف نجعلها إيجابية؟
إن مجالَ ديبلوماسية الكوارث مليءٌ بتحليلِ العوامل التي تُحدِّدُ النتيجة النهائية. تقول إحدى النظريات أن الكوارِثَ تفتحُ نوافذ جديدة للديبلوماسية، وتخلقُ فُرَصًا لدفع الحلول في النزاعات.
في العام 1999، عندما ضرب زلزالٌ مُروّع أثينا، أصبح رجال الإنقاذ الأتراك أبطالًا في جميع أنحاء اليونان. في إحدى اللحظات المُمَيَّزة، تمَّ إنقاذُ صبيٍّ صغير بينما كان التلفزيون اليوناني يُغطّي جهود الإنقاذ على الهواء مباشرة. “إنهم الأتراك!” صاح المراسل بصوتٍ متقطّع. “لقد أنقذوه!”. وفيما كان يصف مشهد رجال الإنقاذ اليونانيين وهم يتشاركون زجاجة مياه مع نظرائهم الأتراك، علّق قائلًا: “هذه هي المحبة التي يجب أن تسود. إنه أمرٌ جميلٌ جدًا!”.
يعتقد العديد من المُحَلّلين أن الزلزال والمشاعر الطيبة الناتجة عن الإنقاذ هي التي سمحت للبلدين تطوير علاقة أكثر استقرارًا وسلمية في السنوات التي تلت ذلك، حتى لو تدهورت أخيرًا.
العامل الرئيس، وفقًا لبعض الباحثين، هو حالة الصراع قبل الكارثة. يمكن أن تعطي المأساة دفعة للجهود الديبلوماسية الحالية إذا كان هناك هيكلٌ ورغبة في تخفيف الاحتكاكات.
في النهاية، يتطلّبُ حلّ النزاعات المشحونة عاطفيًا عملًا ديبلوماسيًا استباقيًا وماهرًا وحسّاسًا. كان الزلزال، على حدّ تعبير خبراء شؤون التأمين، من عمل الله. ولكن لكي يتحوَّل الواقع إلى سلام واستقرار، فإن ذلك يتطلب شيئًا آخر غير التدخّل الإلهي. سوف يتطلبُ الأمر حكمةً بشرية وسعيًا حازمًا من أجل السلام.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani