مسرح كركلَّا في جدَّة: شُروقٌ دائمٌ لنَجمةِ الإِبداع

جميل (سامر اسماعيل – سوريا) وبُثَيْنَة (أَمل بو شوشة – الجزائر)

هنري زغيب – جدَّة

يواصل عبدالحليم كركلَّا تنصيعَ مسرحه، عملًا بعد عمل، بل عرضًا بعد عرض. فها هو – بعد العرض الأَول لـمسرحيته الجديدة “جميل وبثينة” على “مسرح المرايا” في العُلا (شباط/فبراير 2020)، وعرضها الثاني على “مسرح جامعة الأَميرة نورة” في الرياض (حزيران/يونيو 2022)، يستعدُّ لتقديمها عرضًا ثالثًا على مسرح جدَّة، مجدِّدًا فيها مفاصلَ وخطواتٍ ومشهدياتٍ من ضمن الأَصل الأَول، فيُنَصِّعُه تنويعًا بصريًّا جميلًا يُضيف إِليه رُقيَّ مضمونٍ وجمالَ شكل، فيَنضُج العمل بين يديه مكتملًا بأَرقى وأَجمل ما تَكُونُهُ الكوريغرافيا في أَشهر مسارح العالم.

هذا العرض الثالث في جدَّة (لِـخمْس ليالٍ من 9 إِلى 13 شباط/فبراير الحالي) –  كما العرضان الأَوَّلان – دعوةٌ من وزارة الثقافة السعودية التي تخصِّص سنويًا إِمكاناتٍ ساطعةً فتستقطب أَشهر العروض العالَمية، وتنشر في البلاد جوًّا عامًّا من الثقافة المشهدية والأَدبية والأَدائية يضاهي ما تَشْهدُهُ كُبرى العواصم والمدن في دول الشرق والغرب.

كوريغرافيا كركلَّا: باقاتُ فرحٍ وجمال

الصياغة المشهدية

المسرحية من إِخراج إيڤان كركلَّا في رؤُيته الطليعية بأَحدث ما بلَغَتْه تقنيَّة الإِلكترونيات المبدعة في المسرح، والكوريغرافيا من ابتكار أَليسار كركلَّا التي تجعل المسرح زوغةَ فرحٍ وحركةٍ وصياغةٍ جميلة بأَجساد الراقصات والراقصين على أَعلى مستوى من الاحتراف. وينضوي الكل، أَولًا وأَخيرًا، في لغة مسرح كركلَّا الفنية التي ما زال عبدالحليم كركلَّا يصُوغها منذ أَكثر من نصف قرن على أَكبر مسارح العالم.

هذه المشهدية الباهرة (من نحو 110 دقائق) حاكَها عبدالحليم كركلَّا من 92 مغنيًا وممثلًا وراقصًا وراقصة من لبنان وسوريا والسعودية والصين والجزائر وبوليفيا والأَرجنتين وأُوكرانيا، رواها من قلب الأَدب العربي في العصر الأُموي قصةَ “الحب الممنوع” بين جميل بن معمَّر (659-701) وبُثينة بنت حيَّان في وادي القُرى (اليوم: في محافظة العُلا السعودية بين تيماء وخيبر، وحدَّده ياقوت الحموي “واديًا بين الشام والمدينة الـمُنَوَّرة”).

بقي كركلَّا أَمينًا لِـحَرْفية التاريخ: في “وادي بَغيض” كان جميل (سامر اسماعيل-سوريا) يرعى إِبْلَه فجاءَت بُثَيْنة (أَمل بو شوشة-الجزائر) ونَفَّرَت إِبْلَه. ثار عليها فانتفَضَتْ، وكان بينهما نُفورٌ انفعاليٌّ أَشعل في قلبهما شرارةَ حبٍّ وميضة:

وأَوَّلُ ما قاد المودَّةَ بيننا بــ”وادي بَغيضٍ” يا بُثَينَ سِبابُ

وقلْنا لها قولًا فجاءَت بمثله.. لكل كَلامٍ يا بُثَينَ جوابُ

تلك اللُقيا تردَّدت في أَرجاء قبيلته (بني عُذرة) فسبَّبَت غضبَ أَهل بُثَيْنة وقرارَ والدها (جوزف عازار) تزويجها قسْرًا من نُــبَــيْــه ابن الأَسْوَد (سيمون عبَيد) من قبيلة بني الأَحَبّ. تفاقم الخطَر على جميل حتى رَجاهُ والدُه (عبدالناصر الزاير-السعودية) أَن يغادر القبيلة، فهامَ بعيدًا يحمل في قلبه العاشق نار حبِّه العذريّ وَلَعًا ووَلَهًا وشَغَفًا، حتى بلغَ بلادَ الشام لدى بلاط الخليفة عبدالملك بن مروان (أَلِكُّو داود) حيث اجتمع بالمثلَّث الأُموي (جرير، الفرزدق، الأَخطل). ورُغم رغبة الخليفة باستضافته في البلاط، لم يشأْ تلبيةَ دعوة عبدالملك البقاء في بلاطه، فهامَ من جديدٍ حتى بلغ مصر ومات فيها عن 42 عامًا.

تسطع في المسرحية ضيفةُ الشرف السيِّدة هدى حداد بحضورها والدةَ بُثَيْنَة في التاريخ (الفصل الأَول) وعودتِها في الحاضر (ختام الفصل الثاني)، بصوتها البنفسجيّ الذي يعطي المسرحية مذاقًا جماليًّا آخَر. ويشارك في التمثيل السعوديون: عبد الهادي الشاطري، حسن عبد الله العلي، أَمل رمضان، عبدالعزيز الزيَّاني وآخرون.

كركلَّا وإِبداعُ البُعدَين: المسرح والشاشة

الخيال الروائيّ

هذا السرد، لم يجعلْه عبدالحليم كركلَّا مسطَّح الأَحداث، فأَنشأَ له خيطًا روائيًّا بإِطْلاعه شخصية الراوي (غبريال يمين) يستضيفُ في متحفٍ عالَميٍّ طلَّابًا وطالباتٍ يشرح لهم فُصولًا من قصص الحب في كتاب التاريخ حتى وصل إِلى “أُسطورة العشق في واحة العُلا”، وعاد بهم استعاديًّا إِلى الزمن الأُموي فدارت على المسرح أَحداث الرواية.

يتجلى حضور “المايسترو” عبدالحليم كركلَّا بإِشرافه العام على الموسيقى وكل فاصلة أَدائية وكوريغرافية في العمل، ممسكًا بقيادتِهِ في حزْم وعزْم، ناسجًا السيناريو بحبكةٍ متينة، وحوارٍ مقطوف من الحدَث التاريخي، وسينوغرافيا باهرةِ الأَلَق أَزياءَ جميلةً ذاتَ أَلوان ناطقة بتشكيلات متزاوجة متجانبة متخاصرة متناسقة ديكورًا وإِضاءةً وخلفيَّاتٍ موازيةً على الشاشة الكبيرة في صدر الخشبة جعلَت العمل ذا فضاءَين: الأَول مسرحيٌّ إِحاديُّ البُعد، والآخرُ سينمائيٌّ مثلَّثُ الأَبعاد يُكمل بصريًّا ما لا تتَّسِع له مساحةُ الخشبة، فيتحوَّل المدى المسرحي إِلى تقطيع تلڤزيوني-سينمائي مبتكَر، برزت فيه طاقة إِيڤان كركلَّا الإِخراجية العالية واسعةَ الإِيحاء بالجوّ العربي الذي تنهَلُ منه المسرحية تفاصيلها وثنايا أَحداثها فيتنقَّل المكان تَواليًا بين ديكور واقعي (على الخشبة) وآخر افتراضي (على الشاشة) ليَمنح الجمهور فُسحةَ خيالٍ ملونةً تُدخل في ذائقته الفنية لَمَعاتٍ من جمال. هكذا تنبض المسرحية بإِيقاعَين: موسيقيٍّ لا تتوقف ميلودياه أَنغامًا متلاحقةً ترسم بالنوطة أَجواء الأَحداث في المسرحية، وإِيقاع كوريغرافيّ نسجَتْهُ أَليسار كركلَّا بخطوات دقيقة الوقْع في خطوة دينامية كل 9 ثوانٍ (نحو 6 خطوات في الدقيقة الواحدة) ما يرفع دينامية المشهدية إِلى مئات الخطوات على مدى المسرحية.

بَرَاعة المايسترو

بالعودة إِلى مطلع مقالي: يواصل عبدالحليم كركلَّا تنصيعَ مسرحه، عملًا بعد عمل، حاملًا فيه ذاكرة أَعماله أَكثرَ من نصف قرن (1968- 2023) شهاداتٍ عالَميةً ساطعةً، بينها أَن “مسرح كركلَّا يكسفُ ما اعتادَ مسرح “كيندي سنتر” أَن يقدِّمه” (“الواشنطن بوست” – 2 آذار/مارس 2009)، وقبْلَها أَن “مسرح كركلَّا تخطَّى مسرح موريس بيجار” (“الصنداي تلغراف” – لندن – 16 شباط/فبراير 2003)، ويحقِّق بكل هذا ما قاله فيه شاعر لبنان سعيد عقل بـأَنه “ذو قدرة على تحويل الأَجساد إِلى عبارات كتابية ذاتِ شَرَر، في مضمون لا يُشبه سُطُوعَه سوى بيت الشِعر”.

هكذا يكون عبدالحليم كركلَّا منذُورًا لاثنَين: النجاح المتواصل، ونقْل لبنان الإِبداع إِلى أَعلى منصات العالم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى