إنتفاضَةٌ ثالثة؟
مروان المعشّر*
لم تَمضِ بضعة أسابيع على تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، التي يرأسها بنيامين نتنياهو، حتى بدأنا نشهد ردودَ فعلٍ عربية ودولية وداخلية تستحقّ التوقف عندها. أبدأ بالموقف الأميركي وزيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى إسرائيل. فقد أعلن بلينكن في مؤتمر صحافي أن أي ابتعاد عن حلِّ الدولتين سيضرّ بأمن إسرائيل، كما أعلن معارضة الولايات المتحدة لبناء المستوطنات أو توسيعها، إلّا أنه في الوقت نفسه كرّرَ الموقف الرسمي الأميركي عن هدف الولايات المتحدة في المدى القصير، وهو ضمان التهدئة بين الجانبَين، ريثما تصبح الظروف أكثر ملاءمةً لاستئناف المفاوضات المبنية على أساس حلّ الدولتين. وتحدثت الصحافة الإسرائيلية عن إعراب بلينكن لنتنياهو أثناء المباحثات الثنائية، عن قلق الولايات المتحدة من الطريق الذي تسلكه الحكومة الاسرائيلية الجديدة.
من الواضح أن الموقف الأميركي مُتناقِضٌ مع نفسه، فالحديث عن الظروف المُلائمة لاستئناف المفاوضات، من دون أي إجراء فعّال يهدف إلى وقف بناء المستوطنات، لن يحقق هذا الهدف، والحديث عن حلّ الدولتين في هذا السياق يندرج تحت باب إبراء الذمة فقط، بينما يُعطي في الواقع إسرائيل كل الوقت المطلوب للاستمرار في سياستها الاستيطانية التوسعية، والقضاء تمامًا على حل الدولتين، التي تدّعي الولايات المتحدة أنها تعمل من أجله.
تحدّث نتنياهو في المؤتمر الصحافي ذاته عن القيم المشتركة التي تجمع بين إسرائيل والولايات المتحدة. من غير الواضح لنا ما إذا كانت المباحثات مع بلينكن قد تطرقت إلى محاولة الحكومة الإسرائيلية إضعاف النظام القضائي الإسرائيلي وسيطرة الكنيست عليه. وهو أمرٌ يُفتَرَض أنه لا يتوافق مع واحدة من أهم ركائز النظام الأميركي، ألا وهو نظام الفصل والتوازن بين السلطات، الذي يضمن ألّا تُسيطرُ أيٌّ من السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية على بعضها بعضًا. ما لا يقال علنًا اليوم هو أن أولوية نتنياهو هي إرضاء شركائه المتطرفين العنصريين في الائتلاف الحكومي، حتى يتجنّب الذهاب إلى المحاكمة، وهي أولوية تعلو على كل شيء آخر، بما في ذلك محاباة الموقف الأميركي الناعم أصلًا، ولذلك ستستمر عملية بناء المستوطنات وبوتيرة أسرع، بينما تكتفي الولايات المتحدة بالتحذير الذي لا ترجمة عملية له على الإطلاق إلّا إعطاء إسرائيل ما تحتاجه من الوقت.
أردنيًا كما عربيًا، فإن السياسة المُتَّبعة مع الحكومة الإسرائيلية عنوانها التكيّف، ومفادها أن ثمة واقعًا إسرائيليًا لا يمكن تجاهله أو مقاومته، لذا من الأفضل الاشتباك الإيجابي معه لعلّ ذلك يُخفّف من وطأة تأثيره في العملية السلمية، أو وحدة موقفه من مواضيع كالوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية، وقد وصل هذا الموقف المرن من الأردن وعدد من الدول العربية إلى حدّ إدانة العمليات الفلسطينية ضد إسرائيل، على الرغم من تباين هذه الإدانة مع الموقف الشعبي. ويغفل هذا الموقف أن الأردن وغيره من الدول لا يتعامل مع نظام براغماتي يغير من مواقفه بناءً على اعتبارات إقليمية أو دولية. واقع الحال أننا نتعامل مع نظام إيديولوجي يسعى إلى ابتلاع الأرض، وحلّ الصراع على حساب الأردن، وهو تبعًا لذلك لا يقيم وزنًا للموقف الأردني المرن، أو للاعتبارات الدولية. هذا نظامٌ يعرف ما يريد ويعمل من أجل تحقيقه تدريجًا.
أما عربيًا، فثمة تجاهل غريب من غالبية الدول العربية تجاه ما يحدث داخل المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل من تمييزٍ عنصري فاضح. فالاتفاقات الإبراهيمية الموقعة مع إسرائيل لم تُسهِم، ولو في حدود دنيا في تليين الموقف الإسرائيلي، بل إن الحكومة الإسرائيلية الجديدة هي الأكثر تطرفًا وعنصرية في تاريخ الدولة اليهودية، كما أن العالم العربي بأسره لم يشهد حتى الآن أية مواقف جادة معارضة للتمييز العنصري، الذي يمارَس كل يوم داخل الأراضي العربية المحتلة وضد فلسطينيي الداخل. لا يُستغرَبُ إذًا مع هذه المواقف العربية والدولية المرنة، والامتناع عن اتخاذ مواقف أكثر وضوحًا في الوقوف ضد الممارسات العنصرية الإسرائيلية وتلك التي تقوّض عملية السلام برمتها، أن نشهد اليوم ردّ فعل فلسطينيًا داخل الأراضي المحتلة يَتّسِمُ باستخدام السلاح ضد الإسرائيليين.
في اعتقادي، إن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة بدأت فعلًا، وهي عكس الانتفاضتَين الأوليَين بلا قيادة، وأن الكفاح المسلح هو سمتها الرئيسة. وقد أشارت استطلاعات الرأي الفلسطينية كافة منذ سنوات كثيرة إلى أن خيار الكفاح المسلح يتزايد لدى الجيل الفلسطيني الجديد تحت الاحتلال، في ظل غياب أي أفق سياسي لإنهاء الاحتلال. يبدو من الواضح اليوم أن هذا الجيل الجديد فقد ثقته بقيادته الفلسطينية، وبقدرة الدول العربية أو المجتمع الدولي على حلّ الصراع وإقامة دولته الفلسطينية، وأنه اتخذ قرارًا بالاعتماد على نفسه وأخذ زمام الأمور بيده، وتحمّل كل العواقب جراء ذلك، التي باتت لا تقاس مقارنةً بمعاناته اليومية.
لا يحق للمجتمع الدولي الاستغراب مما يجري من عنف، طالما أنه يكتفي بالمواقف اللفظية والمرنة. لقد حان الوقت لكشف الممارسات الإسرائيلية ونيّتها الإبقاء على الاحتلال للأبد. ولا بد من أن يكون فحوى الموقف العربي، إننا لسنا ضد السلام، ولكننا ضد العنصرية، وسنقف ضدها بكل وضوح ومن دون مواربة.
- مروان المعشّر هو نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي، حيث يشرف على أبحاث المؤسسة في واشنطن وبيروت حول شؤون الشرق الأوسط. شغل منصبَي وزير الخارجية (2002-2004)، ونائب رئيس الوزراء (2004-2005) في الأردن، وشملت خبرته المهنية مجالات الديبلوماسية والتنمية والمجتمع المدني والاتصالات. يمكن متابعته عبر تويتر على: @MarwanMuasher