حين تكون الزوجةُ “مَدام كْزانتيبـي”

هنري زغيب*

كان الفيلسوف والمؤَرِّخ اليوناني كْزينوفون (430 – 355 ق.م.) يعقد لقاءاتٍ حواريةً يحضرها جمعٌ بينه الخطيبُ شهيرُ عصره أَنْتيسْتينُس (445- 365 ق.م.) أَحد تلامذة مؤَسس الفلسفة الغربية سُقراط (470 – 399 ق.م.).

ولأَنه الأَقرب إِلى سُقراط، وعارفٌ بوضعه الأُسَرِيّ وتصرفات زوجته كْزانتيبيXanthippe، يُـؤْثَر عنه في أَحد تلك اللقاءَات قولُه عنها: “هي بين النساءِ أَصعبُ امرأَةٍ يمكن العيشُ معها”، لِما عُرف عنها من جهْلٍ أَهميةَ زوجها سُقراط، ومن نكَدٍ في التعامُل معه.

هذه الصورة عنها ركَّزَت عليها الباحثةُ الفلسفية ميريديت كوربي (من جامعة أُوريغون الأَميركية)، وأَضافت أَنها اشتُهرت في التاريخ بكونها “ذاتَ مزاج عصبيّ متواصل واندفاع دائم إِلى الجدَل العقيم”. وهذا ما يفسِّر المدخل المختص بها في موسوعة “وِبْسْتِر” الأَميركية (تأَسسَت في سبرينغفيلد – ماساشوستش سنة 1831، وهي قريبة من موسوعة بريتانيكا)، جاء فيه: “كلمة كْزانتيبي باتت تعني امرأَة لا تُطاق، عصبية المزاج باستمرار”. وفي قاموس “أُوربان” الأَميركي (موقع إِلكتروني أَسَّسه آرون بيكهام سنة 1999) جاء أَنَّ “اسم كْزانتيبي أَصبح مرادفًا معنى الزوجة المزعجة الـمُؤَنِّبة الـمُشاكسة الـمُقَرِّعة باستمرار حتى فلا تُطاق معها الحياة الـمُشتَـركَة”.

في المرويَّات أَنَّ “مَدام كْزانتيبي” غالبًا ما كانت تمر بزوجها الفيلسوف وهو في ناحيةٍ من أَحد شوارع أَثينا بين مُريديه يشرح لهم أَفكاره الفلسفية، فتروح تُـهَزِّئُهُ أَمامهم، وتسخَر منهم أَنهم يصَدِّقون أَقواله، وبلغ بها جهْلُها يومًا أَن رمت عليه الماء من إِناء كبير في يدها كي يتركَ تعاليمه وينصرف إِلى شؤُون بيته (كما يظهر في زيتية الأَلماني راير فان بلومنديل سنة 1660).

في هذا الأَعلاه لا أَقصد الزوجة، أَيَّ زوجة، ولا المرأَة، أَيَّ امرأَة، بل ما عاينتُ من أَحداثٍ، أَو عانيتُ من حالات أَخبَرَنيها مَن عاناها، حولَ زوجةٍ تنطبق عليها مواصفات “مَدام كْزانتيبي”.

سنة 1968 كنتُ أَصطاف في “قرقُوف” عشقوت، وأَتردَّد على المؤَرّخ الشيخ نسيب وهَيبة الخازن (1896-1976)، أَنهل من ينبوعه الغزير وأَنا في مطالع حياتي الأَدبية، فيُشجِّعني على النشْر حتى كان له فضْلُ جمعي بشوقي أَبي شقرا الذي أَخذ ينشر لي في “النهار” فانتميتُ إِليها منذئذٍ وما زلتُ حتى اليوم. وفي جلسة تحت العريشة لدى الشيخ نسيب عند شرفة بيته الـمُعْنِقة على عشقوت، أَخبرني أَنْ حين كان في القاهرة ويكتب أُسبوعيًّا افتتاحيةَ “الأَهرام” بتوقيع “وهَيبة”، ويجمع الأَعداد في ناحية من غرفته، حلا للسيدة زوجته أَن تَطلي جدران البيت. وإِذ احتاج عاملُ الدهان إِلى صحُف يبسطها أَرضًا كي لا تتشظَّى نقاط الصباغ على البلاط الرخاميّ، تناولت “الـمَدام” كدسة الصحف من غرفة زوجها الكاتب، و”اغتالها” العامل بما تيسَّر من سقْط الدهان. وحين عاد الشيخ نسيب وصعَقَه ما رأَى، لم يكد يسأَل “الـمَدام” عمَّا اقترفَت جاهلةً، حتى بادرَتْه بكل “كزانتيبيَّة” فاقعة: “وجَرى إِيه. أُمَّالْ! ما هِيَّ شويِّة جورنالات.. دِلْوَقْتي حَـجيبلَك بَدَالها من عند البقَّال”.

وعلى مثال هذه الـ”مَدام” أُعاين وأَعرف وأُتابع كثيراتٍ من زوجات مبدعين لا علاقة لهنَّ بكتابات أَزواجهنَّ وفنونهم ونتاجهم، فيتركْن في قلوبهم جرحًا حافيًا نادرًا ما يعالجونها بالحزم المطلوب. وغالبًا ما لا يملك أَحدهم “موهبة” الطلاق من جاهلة أُمِّيَّةٍ تافهة لا تستحقُّ أَن تكون زوجته، فيدفع طيلة سنوات حياته معها ضريبةَ خطإٍ فاجعٍ صعقَهُ يومَ ظَنَّ أَنها ستكُون امرأَةً تستاهل أَن تكون زوجة مُبدع. وهذا طبعًا حين لا يكون هذا المبدع مقترفًا ما يسبِّب نكَد زوجته الكْزانتيبية.

إِنها دومًا حالُ من تتحوَّل له “السعادة الزوجية” تعاسةً زوجيةً طاعنةً طوال العمر.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى