“تَمَرُّدٌ” في باريس وانقسامٌ غربيٌّ في البَحرِ الأحمر

محمّد قوّاص*

تتأمّلُ طهران مَشهدًا غربيًا حائرًا ما بَينَ الالتحاق بالموقف الأميركي والتحفّظ عنه ومُناكفته. وتستنتجُ من وراء قيام الثُنائي الأميركي-البريطاني دون غيره بتولّي “معاقبة” جماعة الحوثي في اليمن، أعراضَ وَهنٍ وتشقّقٍ لا يُمكِنُ أن تُشكِّلَ تهديدًا وجوديًا حقيقيًّا ضدّ سلوك إيران وأذرعها في المنطقة.

المُراقِبُ للمشهد الأخير في البحر الأحمر يستنتجُ قراءةً لافِتةً لإعراض فرنسا وإيطاليا عن القبول بوضع قواتهما البحرية تحت قيادةٍ أميركية. صحيحٌ أنَّ للبلدين سُفنًا عسكرية في المنطقة، غير أنَّ باريس وروما لا تَرَيان ضرورةً لضَمِّ أساطيلهما البحرية العاملة هناك إلى تحالفِ “حارس الازدهار” الذي ارتجلته الولايات المتحدة (أعلنه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن من المنامة في 19 كانون الأول/ ديسمبر الماضي) لحماية التجارة الدولية وضمان سلاسل التوريد التي تمرُّ في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.

سَرَت معلوماتٌ في باريس سَرَّبها أقطابُ نظريات المؤامرة مفادها أنَّ القيادة العامة للجيش الفرنسي هي التي رفضت وضع حضورها البحري تحت مظلّة أميركية، وأنَّ العسكريين رَؤوا من خلال ما يسمح به القانون الفرنسي للعسكريين من عصيان لقرارات القيادة السياسية، أنَّ من واجبهم رفض ما يمكن أن يعتبروه خطرًا أو سلوكًا غير مناسب حتى لو جاءت أوامره من رئيس الجمهورية بالذات.

لكن تلك المعلومات لم تستند إلى مُعطَياتٍ مُعلَنة يُمكِنُ الركونُ إليها. فلا شيءَ صَدَرَ عن الجهات العسكرية في هذا الصدد، لكن لا شيءَ في المقابل نفى هذه الرواية. غير أنَّ ذلك الدخان لم يأتِ من دون نارٍ يبدو أنها ومضت في المداولات الخلفية لأصحاب القرار وأروقة الإليزية. فكانَ أن أبلغت باريس واشنطن أنها لن تكون جُزءًا من “حارس الازدهار”، ما أثارَ امتعاضًا لدى البيت الأبيض، وفق مصادر أميركية.

لاحقًا رفضت فرنسا المشاركة في عمليات القصف التي شنّتها الولايات المتحدة وبريطانيا في 12 من الشهر الجاري ضد مواقع لجماعة الحوثي في اليمن. وكَشَفَ اقتصارُ العملية العسكرية المشتركة على الأميركيين والبريطانيين عن أزمةِ توافُقٍ ووِحدةِ أهداف داخل المعسكر الغربي في مُقاربة أزمة البحر الأحمر، لا سيما لجهة علاقتها بأزمة الحرب في غزّة. كما إنَّ تعدّدَ القوات العسكرية الدولية البحرية في تلك المنطقة، يفضحُ اختلافًا في قراءة ظاهرة الحوثيين وتقييمها، وعدمَ اتفاقٍ على موقفٍ مُنسَجمٍ حيالَ الحرب في غزّة، ناهيك بتحسّسٍ يرقى إلى حدِّ النفور من القبول بالولايات المتحدة زعيمةً وقائدةً لبقية الدول الحليفة في استحقاقاتٍ جيوستراتيجية.

ويقومُ الموقفُ الإيطالي على العامل الأخير الذي ينهلُ من الدينامية الوطنية-القومية التي أتت بجورجيا ميلوني زعيمة حزب “إخوة إيطاليا” رئيسةً للحكومة في البلاد إثر انتخابات أيلول (سبتمبر) 2022. إعتمدت السيدة القوية خطابًا يكاد يكون شوفينيًا مُتطرّفًا على حافة مُعاداة الاتحاد الأوروبي والهيمنة الأطلسية التي تُمثّلها الولايات المتحدة. بمعنى آخر، فإنَّ رفضَ وضع القوات الإيطالية تحت إمرةٍ أجنبية (بما في ذلك أوروبية أحيانًا)، وخصوصاً الإمرة الأميركية، بات التزامًا سياسيًا وانتخابيًا لميلوني وتيارها السياسي وتحالفها اليميني المتشدّد معها.

وتعملُ البحرية الإيطالية في البحر الأحمر كما البحرية الفرنسية تنفيذًا لأوامر وسياسات مصدرها روما للإيطاليين وباريس للفرنسيين. وإذا ما تبرّمت واشنطن من “حَرَدِ” حلفائها الأوروبيين، غير أنَّ ذلك يُعزّزُ نزوعًا داخل القارة العجوز إلى بناء استقلالية أوروبية للدفاع لم تجد لها سابقًا، لا سيما حين بشّر بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، آذانًا صاغية.

والواضحُ أنَّ قرارات “التمرّد” على “الأخ الكبير” ليست بالضرورة مُتَحَدِّرة من بيئاتٍ عقائدية بقدر ما هي نتاج الطبيعة السياسية للائتلافات الحاكمة. وهذا ما هو جليّ في حالة إسبانيا التي تأخذ مواقفها بالاعتبار التوازنات داخل حكومة مدريد، لا سيما مُكَوِّنها اليساري الراديكالي، ما يُفسّرُ السياسة الخارجية لإسبانيا، وخصوصًا لجهة الدور الأميركي في العالم والموقف من الحرب في غزة.

تنظرُ مدريد بعين الريبة إلى الأجندة الأميركية في العالم. وإذا ما كان المنحى اليساري لحكومة مدريد (بوجود حزب اليسار الراديكالي “بوديموس”داخلها) يفرضُ قرارَ رَفضِ وَضعِ قواتٍ إسبانية تحتَ إمرةٍ أميركية، فإنَّ ذلك المنحى معطوفًا على تراكُمٍ تاريخي لإسبانيا من التجارب مع قضايا الشرق الأوسط، بما في ذلك استضافتها مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991، يدفع إسبانيا لتكون خارج المركب الأميركي-الأوروبي في التعامل مع حدث 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي وكارثة الحرب ضد غزّة التي شُنَّت إثرَ ذلك.

وعلى النقيضِ من الخطابِ الغربي السائد تميّزت إسبانيا إلى جانب إيرلندا وبلجيكا بالمطالبة الدؤوبة بوقفِ إطلاق النار في قطاع غزّة، وذهبت إلى تقديمِ اقتراحٍ بعَقدِ مؤتمرٍ دولي للاهتداء إلى حلٍّ سياسي يقودُ إلى حَلِّ الدولتين، أي إقامة دولة فلسطينية مستقلة. صحيحٌ أنَّ الاتحادَ الأوروبي اعتمدَ الاقتراحَ الإسباني لاحقًا، لكنه، على منوال الولايات المتحدة، أظهرَ، لا سيما في الأيام الأولى التي تلت عملية “طوفان الأقصى”، تضامُنًا مُفرِطًا وتدافُعًا لقيام زعماء بلدان الاتحاد لزيارة إسرائيل على نحوٍ لا يتّسق مع الموقف الأوروبي التقليدي المتميّز والبعيد من الموقف الأميركي لجهةِ دعم حقوق الشعب الفلسطيني وقيام دولة فلسطينية.

وفيما نأت فرنسا وإيطاليا بنفسيهما عن غارات الجمعة الماضي في اليمن، وترفض باريس وروما قيادة واشنطن بحريتيهما، فإنَّ إسبانيا فوق ذلك غير مَعنيّة بالانضمام إلى قوة بحرية أوروبية في البحر الأحمر، فيما ينتقدُ الخبراء العسكريون ذلك التزاحم بين قوة بقيادة واشنطن وأخرى أوروبية في حين تتشارك بُلدانٌ عضوية القوّتين.

وسط هذا التخبّط يستنتج الحوثيون بسهولة غياب إجماع غربي يمكن أن يُمثّلَ خطرًا وجوديًا عليهم في اليمن. وتبنّي الجماعة الحوثية قرار تصعيدها الموقف في البحر الأحمر على مسلّمة غياب أي قرار عام بالحرب وصعوبته، وأنَّ الغارات المتقطّعة على مواقعها تبقى احتمالًا يمكن تحمّله تحريًا لثمارٍ سياسية قد تحصدها في مستقبل اليمن. في المقابل، فإنَّ المشهدَ الدولي نفسه هو أيضًا ما يشجع إيران على تجاوز حافة الهاوية في استهداف الملاحة في المحيط الهندي تارة أو في قصف أربيل في العراق تارة أخرى، وفق مسار هدفه أن تبقى إيران رقمًا صعبًا داخل ملفات المنطقة ومآلاتها ما بعد غزّة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى