4 لـــــريمون !!!

هنري زغيب*

عادَ ريمون جبارة.. قويًّا عاد.. وساخرًا وحادًّا عاد.. وبإِبداعه: قلَمًا وخشبةً ورؤْيةً عاد ليُعيد إِلى المسرح جلاله وقدسيَّته..

من أَينَ عاد؟ من أُفق الوفاء: أَربعةٌ من طلَّابه وزملائه يُعيدونه إِلينا من الباب الـمُزهر الذي حوَّلتْهُ الديناميكية جوزيان بولس ورشةً إِبداعيةً دائمة لا تهدأ: “مسرح مونو”.

أَربعة من أَعماله يستعيدُها أَربعة من مريديه في أَربعة أَسابيع، تباعًا: غبريال يمين (“تحت رعاية زكُّور”)، جوليا قصَّار (“پكْنِك عَ خطوط التماس”)، أَنطوان الأَشقر (“زرادشت صار كلبًا”)، رفعت طربيه (“قندلفت يصعد إِلى السماء”).

خلُودُ المبدع، في أَيٍّ من حقول الإِبداع، لا يكونُ إِلَّا بتقديم أَعماله جيلًا بعد جيل، فيظلُّ مواكبًا مرورَ الزمن حيًّا لسنوات وعقود، وغالبًا إِلى قرون.. هكذا باقٍ بيننا – منذ عقود وقرون – عددٌ مشرقٌ من المبدعين منذ أَقدمهم البعيد في المسرح والموسيقى والأَدب وسائر فنونٍ باتت كلاسيكيةً يتمُّ التداول بها عصرًا بعد عصر، كما نابضةٌ بيننا حتى اليوم أَعمالُ الكلاسيكيين من شكسبير وسوفوكل وبيتهوفن وموزار ومواكب الخالدين.. واستعادةُ أَربعة أَعمالٍ من ريمون جبارة، ببادرة نبيلة من غبريال يمّين، تُبقيه حاضرًا لرفع الستارة عن الأَعمال الباقية، كلَّما على مسارحنا الأَكاديمية لطلَّاب الجامعات وعلى المسارح العامة بادرَ ممثِّلون ومخرجون يُعيدونها كلَّ فترةٍ فيخَلِّدون أَصحابها بتجسيد نصوصهم.

الحلقة الأُولى من تلك الرباعية، وقَّعها غبريال يمين على مسرح “مونو” (حتى 6 آذار/مارس) وكان بإِخراجه هو بطلها في نبضٍ سريع متلاحق ممتع بصريًّا ومشهديًّا، مع أَنه لم يحضرها بإِخراج صاحبها يوم قدَّمها قبل نصف قرن (1973)، ما يعطي إِخراجه بكارة الابتكار من دون ذاكرة بصرية للعمل قبل 50 سنة.. هكذا أَدار كوكبةَ ممثلين ممتازين يتصدَّرهم جورج دياب وطارق تميم وكارلوس عازار ويواكبهم مجموع موهوبين مسرحيين على طريق التكرُّس تمثيلًا وأَداءً واثقَين، فجاءت النتيجةُ مسرحيةً نابضةَ الإِيقاع، سريعةً على دقَّة في توقيع الموسيقى والمؤَثرات السمعية، وفي ديكور منحه غبريال يمين رؤْية عملانية جعلتْه هو الآخَر عنصرًا وظيفيًّا على المسرح يأْخذ معه الـمُشاهد إِلى قلب النص وأَطراف تنفيذه.

في جلسةٍ لي قبل سنوات لدى أَنطوان ولطيفة ملتقى، بادرني أَنطوان من قلب يأْسه واستقالته الفنية: “كلُّ ما فعلْناه زائل”.. لم أُناقشهُ يومها، احترامًا جوًّا كنا وسْطه في جمودٍ مسرحيٍّ من وضع سياسي وأَمنيٍّ ضاغطٍ على دينامية المسرحيين. وقد يكون لأَنطوان منطقُه في قوله لأَنه، في ذاكرته، ممثِّلٌ أَكثر منه كاتبًا أَو مقتبِسًا.. سوى أَن هذا لا ينطبق على ريمون جبارة الذي جمع التمثيل إِلى الإِخراج إِلى الكتابة، حتى إِذا غاب جسديًّا عن الأَوَّلَيْن بقيَت نصوصُه، المؤَلَّفة والمقتَبَسة، تنتظر من يَسحبها من الكتابة إِلى الخشبة فيُحـييها من جديد مثلما بادر أَوفياؤُه غبريال وجوليا وأَنطوان ورفعت، وقد يأْتي لاحقًا آخرون يُحْيون له نصوصًا أُخرى على خشبات أُخرى فيحيا بها ريمون ويحيا لها مقدِّموها.

هذه الرباعية التي يتكوكب بها “مسرح مونو” لأَربعة أَسابيع، سابقةٌ ناصعة لسائر المسرحيين اللبنانيين كي يُكْملوها، لطلَّابهم في الجامعات وجمهورهم في المسارح، مستعيدين نصوصًا لبنانيةً لمؤَلِّفين لبنانيين، فيخفُّ الاقتباس عن مسرحيِّي الغرب ويتنامى ظهور مسرحيِّي لبنان، وفيهم من ليس أَقلَّ شأْنًا وإِبداعًا عن غربيين حين يَقتبسُ أَعمالَهم لبنانيون يُضيفون على الأَصل الأَجنبي دمغة لبنانية تَستعيدُه أَبلغ وأَجمل حتى إِذا تُرجِمَ إِلى ذاك الأَصل ذاته يولدُ من جديد أَبلغ وأَجمل.

ونصوص ريمون جبارة مثالٌ ساطع. شكرًا للأَربعة الأَوفياء.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى