في بيت المتروبوليت

هنري زغيب*

منْفردٌ في محيط كثيف.. صامتٌ وسط ضجيج الحيّ.. وادعٌ في سُكُون دُوما الوادعة في حضن طبيعة من أَجمل بقاع لبنان.. للوُصُول إِليه: دَربٌ تَتَأَفْعَنُ مُتَلَوْلِبَةً في سوق دوما التاريخي الرائع.

عمْرُهُ؟ ليس من يؤَكِّد.. ترجيحًا أَنه نحو أَواخر النصف الأَول من القرن التاسع عشر كمعظم بيوت “الحارة التحتا” عصرئذٍ، غرفتان كبيرتان عموديَّتان: العليا للسكَن والسُفلى للماشية والدواجن.

قبل سنَتَين من غروب القرن التاسع عشر، يوم رُزقَ يوسف وزينة بشير مولودهما الجديد في 15 آذار/مارس 1898، نَذَرَتْهُ الوالدة لمار أَنطونيوس تنورين، وَوَفَت نذْرها بتسميته أَنطونيوس.. كثيرًا صلَّت له.. وظلَّت تتضرَّع حتى استُجيبَت صلاتُها وبلغ الــ”أَنطونيوس” أَعلى مراتب الكهنوت: شمَّاسًا (1916) حقَّق الترجمة العربية لــ”العهد الجديد”، كاهنًا متجوِّلًا في الولايات المتحدة (1922) ممثلًا بطريركية أَنطاكية، أَرشمندريتًا (1923)، متروبوليتًا (1935)، فمطرانًا على نيويورك وأَميركا الشمالية (1936).

غاب عن البيت الوالدي (عدا زيارتين قصيرتين في لبنان: 1953 و1959) فغامَ البيت في النسيان سنواتٍ طويلةً، وضجِرَت حجارتُه من الوحدة فانهارَت وتكوَّمَت في قوقعة حزينة، حتى بادرَت أَخيرًا “مؤَسسة نينا وحنا أَيُّوب الاجتماعية”: أَعادَت الحياة إِلى الحجارة ترميمًا فكان البيت، وعهدَت إِلى دينامية السيِّدة زينالي أَيوب تجهيزًا فكان المتحف.

أَتجوَّل في المتحف مُصغيًا إِلى أَصداء الرجُل: هذه ملابسه الطقسية، هذه مؤَلَّفاته العربية (“مَراقي النجاح”، “أَقرأُ وأُفكِّر”، “ثلاثة مفكِّرين في الدين”، …)، هذه مؤَلَّفاته الإِنكليزية (“دروس في الكنيسة الأُرثوذكسية”، “التعليم المسيحي الأُرثوذكسي”، …)، هذه مُتَرجَمَاته عن الإِنكليزية: “اعترافات تولستوي”، “الرجل الذي لا يعرفه أَحد”، “الحياة البسيطة”، …)، هذه مجلَّتَاه (“الخالدات” و”الكلمة”)… جميعُها حملَتْها زينالي من الأَبرشية الأَميركية حين سافرت إِليها تَجْمَع تُراث المطران تمهيدًا لتأْسيس المتحف.

كلُّ ما في هذه الغرفة/المتحف يحمل طيف رجل كرَّس حياته للصلاة، وقلَمَه للإِنتاج الأَدبي.

ثم… وقفة خاصة له مع صديقه جبران.. حين رغب إِلى صديقه بتعريب “النبي” هلَّل له جبران: “… أَمَّا بشأْن ترجمة “النبي” إِلى اللغة العربية، فَلَكَ أَن تفعل ذلك إِن شئْت.. أَنتَ تعلَم أَن هذا الكتاب الصغير هو جزءٌ من حشاشتي، فلم أُدوِّن فصلًا من فصوله إِلَّا وشعرتُ بتغييرٍ في أَعماق روحي، لذلك أَطلب إِليكَ، بل أَستعطفكَ، أَن تَهبَهَ من بستان عنايتك فسحةً واسعة.. وأَرجوك أَن تبعث إِليَّ ترجمتَك الفصل بعد الفصل، إِن شئْتَ، فنتعاون بهذه الواسطة على كلِّ ما فيه خيرٌ لكَ ولي وللكتاب” (رسالة جبران إِليه في 23 كانون الثاني/يناير 1925). وفي رسالة لاحقة بعد إِنجاز الترجمة (10 تشرين الثاني/نوفمبر 1925): “إِنَّ في تعريبكَ كتابَ “النبي” منَّةً لكَ عَلَيّ سأَذكُرها شاكراً ما حَيِــيت.. والرجاء أَن يقدِّرَ لك قرَّاء العربية حماستك الأَدبية قَدْرها.. فالمترجم مُبْدع في شرعي، أَنْكَر الناس ذلك أَم قبِلوا به.. وعندي أَنَّ أَوْلى الناس بكتابة المقدِّمة هو أَنتَ، لأَنَّ مَن يصرف الأَيام بنقْل كتابٍ من لغة إِلى لغة أُخرى هو أَعرَف الناس بما في ذلك الكتاب من حسَنات وعيوب.. هذا رأْيي.. غير أَنني أَرجوك أَن تفعل ما تشاء بخصوص المقدِّمة والفقرات المقتطفة من الجرائد الأَميركية”.

وأَكمل الأَرشمندريت ترجمةَ سائر كتُب جبران الإِنكليزية، فهلَّلَ له جبران مجدَّدًا: “… واسمح لي أَن أَقول لكَ إِنني معجبٌ بمقدرتكَ الكتابية، وأَستغرب قواكَ التي لا تعرف الكلَل ولا تفهم معنى الملَل.. عافاك الله يا أَخي وأَطال الله عمرك (24 شباط/فبراير 1928).

في الثامنة والستين من سنواته المثْقلة بالنِتاج، طوى المتروبوليت عمره وغاب عن الدنيا (15 شباط/فبراير 1966)، وربما حمَل معه إِلى غيابه أَطيافًا من ذكرياتٍ عتيقة في بيتٍ عتيق تحتضنه دُوْما اليومَ متحفًا بنضارة المستقبل.

أَخرُج من البيت، تطالعني دُرُوب دُوْمَا بسُبْحة صلاةٍ عتيقةٍ تحملُها امرأَة فاضلة اسمُها زينة، نَذَرَت مولودَها لمار أَنطونيوس تنورين، فكان لها الــ”أَنطونيوس” الذي شرَّفَ اسمَه وكنيستَه و…دُومَـانــيَّــتَـه.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى