قَبْلَ أن يُطِلَّ الخريف

رشيد درباس*

الغاضِبُ لا يَسمَع، ويَكرَهُ أن يَتَحَدَّثَ سواه، إلّا إذا كان ذلك في مَديحِ مَزاياه
سمير عطاالله

مُنذ ستّ سنين، مَكَرَتْ تلك التسوية السياسية باللبنانيين مَكْرًا تشريعيًّا علنيًّا، من خلالِ قانونٍ انتخابيٍّ وَقِح، فمَكَرَ بها الناخبون بالأمس مكرًا سِرِّيًّا، بأن كتبوا أوراقهم وراء العوازل وأودعوها غيابة الصناديق، لتَنبلِج بعد ذلك عن نتائج لم ينجُ من آثارها إلّا واحدهم. لا شّك أن المشهد السياسي تغيّرَ جدًّا عمّا رسمَ له من دبَّج ذاك القانون الذي يُقيِّدُ المُقتَرِع بلوائح إلزامية وتقسيمات جغرافية تتراوح بين الطائفية والتعسّف، مُستفيدًا من استنكاف الرئيس سعد الحريري، ثم رؤساء الحكومات السابقين من بعده، ومُدجَّجًا بقدراته التنظيمية والتجييرية والسلطوية، وهيبة خطابه الحازم الآمر، بالإضافة إلى حِلفٍ مُتَنَوع سال لعابه على طوائف أخرى بدت وكأنها مُصابَةٌ بخللٍ في جهاز مناعتها.

لكن البيدر قال شيئًا آخر، إذ لفظ زؤانًا كثيرًا، وأيْبَسَ سنابل قديمة وأنبتَ أُخرى غَضَّة، لا إيذانًا بدورة زراعية جديدة تُبَشِّرُ أهراءات الأماني بالغلال الوفيرة، بل إشارة إلى أن التربة بحاجة إلى تقليب وحرث، و(سماد مُستَورَد) وموارد مائية محبوسةٍ عن الزرع، مهدورةٍ في مجاري الخطابات العقيمة والوعود العرقوبية، ورغبات التحكّم والسيطرة.

باستثناء نواب وليد جنبلاط المُلاكِم الخفيف الحركة والواسع الخبرة، لم يدخل نائبٌ إلى القاعة إلّا وقد بدا عليه خدشٌ أو كدمة، ففوز حزب “القوات اللبنانية” كَدَّره رئيس المُقدّمين ملحم طوق الذي لم يُعَوِّض نجاحه خسارة “تيار المردة”، كما أن مرمى المُمانعة اخْتُرِق بأهدافٍ ذات مَعَانٍ، في حين أن كسورًا في أطراف (تيار الوطني الحر)، جرى تجييرها بعناية إلهية فائقة، أما نواب التغيير الذين وصلوا من دوائر شتّى وانتسبوا إلى أكثر من تنظيم، فلقد ظهر احمرار آذانهم من فَركَةِ إرادةٍ شعبية غير مُنَظَّمة، لكنها فائقة الوعي والتصميم، عَلَّمَتْهُمْ كيف يجري تَخَطِّي الخطاب الغاضب والزعم باحتكار الحقيقة، إلى مَطْهَرِ المسؤولية، فَحَقَّ عليهم أداء مختلف، لا يتخلّى عن ثورته، ولكنه لا يتنكَّر للواقعية والعقلانية في آن، إذ إن أطيب ما يُطَمْئِنُ قلب الاستبداد، لجوء المُسْتَبَدِّ بهم إلى العدمية والرفض المطلق، ليقينه بأن صراخهم المُجرَّد لن يتعدّى صداه. أما ما يقلقه فدخولُ القوى الجديدة إلى عقر الدار لِتَطَّلِع على الأمور من دواخلها، وتَضْطّلِع بمهمات الرقابة الشعبية وتقترح القوانين، وتُعطّل العبث بالنصوص الدستورية، كلما دعت الحاجة أو شاء الهوى.

وهذا يُثبتُ أن بعض الحَصَى الذي أُلْقِيَ على الركود الانتخابي، ولو بصورة قليلة ومتفرّقة، أنتج دوائر متوالدة ملأت صفحة الماء بما يعبّر عن أعماقها، ويحول دون تشويهها بدوائر مزورة، فتأكد لكلِّ مُتردِّد، أن الاستنكافَ عن مُمارسةِ الحقّ الديموقراطي هو نوعٌ من الاستسلام، والانهزام، وأن مُقترعًا فردًا مارسَ الاستطاعة الجماعية في ظلّ حرارة القلوب ونقاء الوجدان، وثبات الجنان.

ولئن أسفرَ الأمر عن فقدان حلف الممانعة النصاب الراجح لأكثريته السابقة، فإننا لا نرى بوادر تأليف أو توليف أو حتى تلفيق أكثرية جديدة، حيث نَمًّ تشكيل مكتب المجلس منذ أسبوع، عن أن الإدارة المُحَنَّكة تَفَوَّقَتْ على الإدارة المُربَكة، (والقول للصديق العزيز  فريد  مكاري)، ومع هذا فإن التعويل ليس على عدد النواب واصطفافاتهم، فمن قبلُ كانت أكثريةٌ ذاتُ رِجْلَيْن خَزَفِيَّتَيْن، والمجلس السابق حظي بأكثرية مُتَوَّجةَ بالرئاسة الأولى ولم يفلح في حسم الاستعصاء، من هنا أراني ذاهبًا لاستطلاع احتمالات الحالة السياسية خارج ساحة النجمة بإلقاء نظرة سريعة على تَوَزُّع الأصوات، فأبدأ بأصواتِ المُغتربين الذين أرسلوا إلينا رسالة نقيّة وقطعية الدلالة، وهي أنهم الأهل والأقرباء والمواطنون المتحرّرون من قوالب التعصّب، وأن خيارَ الدولة  اللبنانية عندهم ليس محلَّ تنصّلٍ أو لامبالاة، لأنتقل بعدها إلى المزاج الانتخابي المسيحي الذي انطوى على تحوّلٍ ظاهر لا يمكن إنكاره، إذ بعد انكفاء الطائفة  السنّية عن دورها في السلطة الفعلية، سقطت ذريعة التجييش ضدها، وفترت فعالية التحريض على عرّاب الطائف وَوَريثه، فراح الناس يرون  بالعيون المُجرَّدة إلى مصالحهم كيف تدمّرت، وودائعهم كيف تبخّرت وأمانهم كيف تَهَدّد، ونظامهم الصحي والتعليمي والمصرفي كيف تفتّت في ظل شعارات وهتافات لم تقم يومًا مقام الكهرباء والطعام والعيش الكريم؛ وأمرُّ سريعًا على ما أبدته الطائفة الدرزية من استنفارٍ وتحفّز، وعلى نجاة نِسبيَّة للناخب السني من الضياع الكلّي رُغمَ غيابِ التوجيه المركزي، ثم أتوقّف مجددًا عند المزاج المسيحي ومقولات كانت تنبس بها في الماضي شِفَاهٌ خجولة مُتَمْتَمَة، فأصبحت اليوم مشاريع فكرية وسياسية يجهر بها حلفاء المُمانعة والخصوم معًا، وأخشى ما يُخْشى أن يتوسع نطاقها فيما لو انطوى الأمر على كمين خارجي يتربّص بوحدة الدولة، أو كانت هناك رعايةٌ ما، يجري العمل على تطويرها لمصلحة دويلات طائفية تأخذ شكل اللامركزية “المُوَسَّعة الإنمائية والمالية” التي بدأ بالدعوة لها غلاة “التيار الوطني الحر”، ثم تطوّرت إلى مشروعٍ يجري الترويج له في ظل مناورة بالغة الانكشاف تقوم على قاعدة فصل الغُرْمِ عن الغُنْمِ، وسياسة  “بعيدٌ على قربٍ، قريبٌ على بُعْدِ”، أو ما يُسَمَّى بالأسلوب الخَفَّاشي الذي لم يفلح في تصنيف الوطاويط  إن كانت من الطيور أو من القوارض؛ وبكل الأحوال، فإن اللعب على الكلمات أو بها، لا يُنشىء نهجًا ولا فكرًا، بل هو لعب في الوقت الضائع المُمَهِّد  لضياع الدولة. وإنني إذ أُثيرُ هذه النقطة لخطورتها، ولأنني اسْتَشْعَرْتُها قبلاً من متابعتي المقالات والندوات وحلقات الدراسات، وما نطقت به لهفة بعض المُراهقين السياسيين، ولأنني أسْتَشْعِرُها الآن من قراءتي للتحوّل الانتخابي المسيحي الذي لا يُنكَر.

يقتضي الأمر بعد ذلك أن أذهبَ إلى رأي “حزب الله” بالانتخابات حيث اختلف الخطاب قبلًا عن بَعْد، من غير أن نَلْمَس أن هذا الاختلاف قد ذهب إلى مُقارباتٍ جديدة، بل لعلَّه بقي في  إطار التفسير والتعليل والتبرير؛ وأول ما لفتني أن الأمين العام ل”حزب الله”، السيد  حسن نصر الله،  قد أعلن أن اللبنانيين لم يكونوا يومًا في حالة إجماع على المقاومة، وأنا أخالفه الرأي مع فائق الاحترام، لأن المقاومة رصيدٌ وطني عام غير فئوي، ولأن يوم التحرير الذي أصبح عيدًا رسميًّا، شَكَّل شبه إجماع، وفخرًا لكل لبناني، سواء قاوم بالسلاح أو حتى بالتصفيق والدعاء أو بالتضامن الشعبي والحكومي في حرب تموز؛ وكان أيضًا، فخرًا لكلِّ عربي، إذ أُذكِّر بما أشرت إليه سابقًا، من أنني في العام 2000، في يوم خروج الصهاينة من لبنان، اعْتَلَيْتُ منبر مؤتمر اتحاد المحامين العرب في مدينة الجزائر، فما أن أعلن نقيب  الجزائر عن إلقائي كلمة لبنان، باسمي وباسم نقيب بيروت المرحوم ميشال ليان الذي كلّفني بذلك، حتى ارتجَّت القاعة وكادت العاصمة أن ترتجَّ معها، فكدت أطير اعتزازًا وانتماءً. ولكننا إذا تجاوزنا هذا، وقبلنا بمقولة السيد حسن، فإن الأمرَ يستدعي من بابٍ أولى خطابًا جديدًا بعد إجراء التدقيق في نتائج الانتخابات، وتوزع الأصوات المسيحية، وخسارة حلفاء لحساب حلفاء، من غير أن نسقط أن تعداد النواب، عَرَضٌ لا يَدُلُّ عن صحة سليمة إذا ما فحصنا مزاج الناخبين وتموضعهم الجديد، مع ضرورة الأخذ بالاعتبار أن مناخاً سياسيًّا مُتَمَدِّداً، حَدَا بجمهرة كبيرة من المرشحين واللوائح  إلى المبالغة في توسّل دعاية مُناوِئة للحزب على أمل حصد مزيد من الأصوات، وهذا بحدّ ذاته مدعاة للفحص والتأمل.

ما أخلص إليه هو ضرورة التنبُّه إلى أن الاستعصاء لا يُحَلُّ بالعصا، وأن الحائطَ المسدود لن يخرق بنطحه، واختلال النظام لا يُعالَج بالعبث بالدستور، بل إن الحلَّ يَكمنُ في خلطة بسيطة غير مُرَكَّبة مَفادها تجاوز التفكير عبر مصالح التجاذب الخارجي والإيديولوجيات الصارمة، إلى جدلٍ  يقوم على المصالح المُشتركة الوطنية، ذلك أن العقيدة الحقّة مَرِنة ولا تُرْتَهَنُ لليوميات والتفاصيل، بل هي مرجعية القواعد الكلية التي ترشد العقلاء إلى الحلول المُتاحة في لحظات التحوّلات الكبرى والأزمات، ومن هذه القواعد الكلية أنه حيث تكون مصالح الناس ثَمَّة شرع الَّله.

لقد قامت دولة لبنان الكبير على قاعدة مثلثة تاريخية، هي تكامل ديموغرافي في نطاقِ تكاملٍ جغرافي، في ظلّ نظامٍ ليبرالي، فإذا انْفَكَّتْ ضلع واحدة، تفكّك الكيان. ودليل ذلك ما آلت إليه أمورنا الحياتية عندما فقد لبنان الثقة الائتمائية المحلية والعربية والدولية، والدليل أيضًا حاجة الطوائف بعضها لبعض حتى لا تنكشف ظهورها، بتنصّلِ كلِّ واحدة من الأخرى، لأن كل واحدة هي للأخرى سَنَدٌ وسترٌ وغطاء.

وقعت أخيرًا على كلام للرئيس إميل إده مفاده أننا طوائفٌ مُتَعَدِّدةُ الولاءات الخارجية، ستجعل من لبنان ميدان اقتتال كلّ عشرين سنة، خدمةً  لحروبِ الآخرين.  فإذا صحّت تلك المقولة حينذاك، فإن قَرْنًا من التطوّرات المصيرية والتغيُّرات العميقة والحروب الإقليمية والداخلية، أسفر عن دروسٍ بالغةِ الأهمية أورثها الانصهار والمُعاناة المشتركة، واسْتِطْرَاقُ الطوائف والمناطق، وأوقع في نفوس الغالبية العظمى من الشعب اللبناني أن الولاءَ لبقاءِ الدولة، بحدودها، ونظامها، وتنوّعها، وَتَكَيُّفِها الإقليمي والدولي، لا تتقدّم عليه الولاءات القادمة من الذكريات الوردية أو الأوهام  الضبابية، لأن اللبناني، وهو يرى ما حوله، يُفضّل دائمًا رعاية دولته على رعاية المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، أو رعاية البحر المتوسط لزوارق الموت الهاربة من جهنّم الحياة.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى