العلاقات الدولية بعد جائحة كورونا لن تكون كما قبلها!

يبدو أن جائحة “كوفيد-19” لم تؤثّر فقط في برامج الرعاية الصحية في العالم وتولّد أزمات إجتماعية واقتصادية أينما حلّت، لكنها غيّرت أيضاً نموذج العلاقات الدولية الذي كان قائماً على قوة عظمى واحدة وخلقت حرباً باردة جديدة بين أميركا والصين. 

 

فلاديمير بوتين: يبحث عن دور مفقود

بقلم ميشال حداد*

من النادر جداً أن نتلمّس معالم ونتائج  أي أزمة وهي في مرحلة بدايتها أو في وسطها، بغض النظر عن مُسبِّب الأزمة، وطبيعتها، فيعمد المُحلّلون الاستراتيجيون إلى تحليل المعطيات العلمية والجيوبوليتيكية المُحيطة بالأزمة االمطلوب دراسة مفاعيلها على كافة المستويات، وكلٌّ وفقاً للهواجس التي تسكنه، إن لجهة انعكاسها على الموقع الذي تحتلّه دولته على مستوى تفوّقها الإقتصادي أو العسكري أو العلمي أو الصحّي لمواطنيها، أي باختصار مصالحها الحيوية، كما هي الحال في خضم الأزمة الحالية لجائحة كورونا، وبالتالي انعكاسها على شبكة العلاقات الدولية التي سوف تخضع حتماً للنتائج التي سوف تتبلور مع بدء انحسار الأزمة.

ورغم أن بعض معالمها بدأت تتبلور، وإن بشكلٍ مبدئي، فإن اكتناف الغموض العلمي حول مصدر جائحة “كوفيد-19″،  يبقى العائق الرئيس أمام معرفة التحوّلات الدولية التي سوف يرسو عليها عالم ما بعد الجائحة، وبالتحديد بلورة علمية للغموض المُحيط بمصدر هذا الوباء.

وهنا لا بد من طرح  الأسئلة الثلاثة التالية قبل إدراجها في خانة الإحتمالات المُتوَقَّعة:

السؤال الأول: يُفترَض حسن النية، ويهدف لمعرفة ما إذا كان هذا الفيروس هو نتيجة أبحاث مقصودة لأحد الفيروسات في مختبر “ووهان” خدمةً لأهدافٍ علميةٍ تتعلّق بإيجاد لقاحاتٍ أو أدويةٍ للفيروسات، وخرجت هذه الأبحاث عن السيطرة. وهي بالمناسبة أبحاث مشروعة إذا ما توفّرت لهذه المختبرات شروط السلامة الضرورية التي على منظمة الصحة العالمية التأكد منها، بصفتها ووفقاً لدستورها هي السلطة التوجيهية والتنسيقية المتخصصة في مجال الصحة ضمن منظومة الأمم المتحدة، وقد ضمنتها في دستورها على قاعدة أن “ما تُحقّقه أي دولة في مجال تحسين الصحة وحمايتها أمرٌ له أهمية للجميع”.

السؤال الثاني: تأتي مشروعيته في إطار الرد على اتهامات ساقها مُحَلِّلون روس حول “الحرب البيولوجية الأميركية ضد روسيا والصين”، وردّت الولايات المتحدة باتهام الصين بأنها كانت في مرحلة تطوير سلاحٍ بيولوجي في المختبر المذكور وخرج الأمر عن السيطرة. وفي كلتا الحالتين، فإن تطوير الأسلحة البيولوجية هو مخالفة فاضحة لاتفاقية جنيف لعام 1975 حول الأسلحة البيولوجية والتي حذرت من حيازة الأسلحة البيولوجية في المادة الأولى من هذه الاتفاقية التي نصت صراحةً على ما يلي: “تحت أي ظرف، لا يُمكن امتلاك الأسلحة البيولوجية”، بل أكثر من ذلك، نصت المواد الأخرى في هذه الاتفاقية التي انضمت إليها 165 دولة، على وجوب تدمير هذه الأسلحة والمصادر المُرتبطة بها، وصولاً إلى المادة السادسة التي تنص على “الطلب من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التحقّق في أي خرق للمعاهدة والإنصياع لقراراته العاقبة”.

السؤال الثالث: هل هذا الفيروس المُستجِدّ والذي سُمّي “كوفيد-19” هو نسخة مُستَجدّة لفيروس موجود أصلاً يدعى “المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة” أو “سارس” (SARS) أو غيره، وتطوَّر نتيجة تفاعله مع عوامل طبيعية أو دخول عناصر حيوانية غيّرت في الحمض النووي أو ال”دي أن إي” (DNA) لهذا الفيروس، ليصبح على ما هو عليه من عدائية وسرعة غير مسبوقة في الإنتشار.

الموقف الأميركي

هذا الغموض لجهة طبيعة هذا الفيروس التي لم تستطع المختبرات العالمية في أكثر الدول تطوراً حسمه، أوجد شكوكاً بين الدول، كما  تسبّب في بداية الأزمة بمواقف عنصرية لدى الكثير من المجتمعات التي انتشر فيها هذا الوباء. كما أدى هذا الغموض إلى انعكاسه سلباً على العلاقات الدولية، وخصوصاً بين الولايات المتحدة والصين، بالدرجة الأولى، ليشمل لاحقاً دولاً عدة ومنظمات ووكالات دولية، وبخاصة منظمة الصحة العالمية، حيث نشهد تداعيات تجلّت بمظاهر عدة، أبرزها المواقف التي تعلنها الولايات المتحدة على لسان رئيسها دونالد ترامب ووزير خارجيتها مايك بومبيو، وبخاصة لجهة تسمية الفيروس كوفيد-19 بـ”الفيروس الصيني”، تيّمناً بالتسمية التي أطلقت على الفيروس الذي انتشر في العام 1918 وسُمِيَ “الإنفلوانزا الإسبانية”، علماً أن منظمة الصحة العالمية أوصت بعدم ربط تسمية أي مرض مُعدٍ باسم دولة أو منطقة مُعينة.

وهي بالمناسبة، ووفقاً لما ذكره عددٌ من المؤرخين، أن تسمية “الإنفلونزا الإسبانية” ذات بعد سياسي وليست مبنية على مبدأ علمي وعلى وقائع تتعلّق بمنشأ هذه الإنفلوانزا وكيفية تفشّيها وانتشارها بشكل كبير داخل إسبانيا وخارجها. وقد أودت بحياة عشرات الملايين من البشر، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الإعتبار عدد الإصابات في الهند نتيجة هذا الفيروس حيث حصدت 17 مليون نسمة خلال سنتين، والذي تزامن مع عودة الجنود الهنود من الحرب إلى جانب القوات البريطانية. ويعزو البعض أيضاً التسمية إلى دور وسائل إعلام الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى في تعميم هذه التسمية.

وبالعودة إلى تسمية كوفيد-19 بـ”الفيروس الصيني”، فقد اعتبرتها الصين تصعيداً غير واقعي لا يستند إلى أي معطى علمي، إنما هي تسمية هدفها إلقاء اللوم على “الآخر” لتبرير عدم استجابة الإدارة الأميركية وبالسرعة المطلوبة لتفشّي الوباء لديها.

كما اتهمت الولايات المتحدة الصين بعدم الشفافية خلال الأبحاث، وتكتّمت عن إبلاغ منظمة الصحة العالمية  بوجود وباء مُستجدّ، وعدد الإصابات ودرجة انتشار هذا الوباء.

وإمعاناً في إضفاء صبغة الهجوم الذي تعرضت له الولايات الأميركية واستطراداً العالم، من قِبَل “العدو الخفي”، تم تشبيه أثر هذا الهجوم، وعلى لسان الرئيس ترامب نفسه ودلالةً على  خطورته، بالهجوم على البرجين في نيويورك في 11 أيلول 2001 وهجمات بيرل هاربور في العام 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية، مع ما يحمل هذا التشبيه من معانٍ محفورة في الذاكرة الجماعية لدى الشعب الأميركي. رغم أن تجهيل الفاعل في موضوع “كوفيد-19” لا يُغيّر كثيراً في الإتهام. إضافةً إلى ما يحمله هذا التشبيه من تلميح إلى نتائج هذين الهجومين، العسكرية منها والاقتصادية والإنسانية. وقد برزت أبعاد هذا التشبيه خلال إحياء ذكرى 75 سنة على انتهاء الحرب العالمية الثانية. حيث ذكر الرئيس الأميركي في كلمته أن “الولايات المتحدة شاركت في الحرب بنحو مليوني مقاتل، واستشهد منهم 186 ألف عسكري. وربحنا الحرب”، مع ما تعنيه تقارب هذه الأرقام مع أرقام المصابين وضحايا “كوفيد-19”. وقد أعاد المكتب الإعلامي للبيت الأبيض استعمال هذا التشبيه عبر بيانٍ صيغ بلغةٍ ديبلوماسية تتماهى مع الخطاب الديبلوماسي الأميركي المُعتَمَد في الأزمات.

الموقف الفرنسي

أما الموقف الفرنسي، فقد أتى بدايةً على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى صحيفة “فايننشال تايمز”، وبلغة ديبلوماسية تتماهى مع الخطاب الديبلوماسي الفرنسي، الذي يتضمّن اتهاماتٍ مبطنة، إذ قال: “من الواضح أن أشياءً قد حصلت ولا نعرف عنها شيئاً”، إشارةً إلى الإختبارات التي كانت تجري في أحد مختبرات ووهان الصينية المتخصصة بالفيروسات المستجدة (رغم نفي بكين رسمياً لهذا الإحتمال)، وتكتّمت عنها السلطات الصينية ولم تبلغ منظمة الصحة العالمية والدول الأخرى عنها، وبخاصة فرنسا التي تربطها اتفاقية تعاون مع الصين منذ العام 2004 حول تجهيز مختبرات (P3) على أثر فيروس “سارس”، وتالياً مختبر (P4) الذي كانت تُجرى داخله الأبحاث والذي يُعْتَقد أن فيروس “كوفيد-19” خرج منه نتيجة خطأ بشري، أو كما أُشيع بأن مصدر الوباء سوق الحيوانات غير الأليفة القريبة من المختبر المذكور. وفي كلتا الحالتين، فإن اللغة الديبلوماسية الفرنسية المُستعمَلة من قِبَل الرئيس الفرنسي لا تُبرّئ الصين من تهمة عدم الشفافية بالتعامل مع موضوعٍ على هذه الدرجة من الخطورة على السلم والأمن الدوليين.

وبالعودة إلى الإتفاق الفرنسي–الصيني لتجهيز مختبرات في الصين، ووفقاً لصحيفة “الفيغارو” الفرنسية، فإن هذا الإتفاق أتى بعد تفشّي فيروس (سارس) في الصين، وجهّزت فرنسا على أثره مختبراً للفيروسات المُستجدة في ووهان، واتفقت مع الصين على إنشاء وتجهيز مختبر آخر متطور يعرف باسم (P4). وقد أُنجز هذا المختبر وقام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتدشينه في العام 2018 خلال زيارته للصين (وهو المختبر الذي يفترض الأميركيون ومعهم الفرنسيون أن فيروس “كوفيد-19” خرج منه)، على أن يُشارك خمسون اختصاصياً فرنسياً بالأبحاث إلى جانب الإختصاصيين الصينيين. وهو أمرٌ لم تحترمه الصين، ولم يُشارك أي من هؤلاء الخبراء المذكورين في الأبحاث الجارية داخل هذا المختبر بعد تمنّع الصين عن استقبال الخبراء الفرنسيين ولاحقاً خبراء منظمة الصحة العالمية.

الموقف الروسي

حجزت روسيا مقعدها في إدارة النزاع الناتج عن أزمة انتشار “كوفيد-19″، والذي سوف يتبلور بعد انحسار موجة أو موجات كورونا. ويُمكن أن نتلمس موقعها المبدئي المُنطلق من الدعوة إلى اجتماع لقادة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن. هذه الدعوة التي أكدها وزير خارجية روسيا سيبرغي لافروف لوكالة “إنترفاكس” الروسية، لبحث “احتمال مساهمتهم في مكافحة فيروس كورونا”. وقد تزامنت هذه الدعوة مع تشجيع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس على هذا اللقاء بهدف “توحيد موقف الدول الخمس الكبار في مواجهة “كوفيد-19″ الذي أودى بحياة أكثر من 300 ألف شخص في العالم”. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن دعوة الأمين العام لعقد هذا اللقاء حدّد موضوعه بتوحيد المواقف (بمواجهة كوفيد-19) من دون التطرق إلى أسباب الوباء ومسؤولية مُسبّبه.

وباستثاء بعض المواقف غير الرسمية التي صدرت عن صحافيين روس، حول اتهام الولايات المتحدة بتطوير أسلحة بيولوجية، فإن روسيا لم تتبنَ موقفاً رسمياً من هذه التصريحات، واكتفى الرئيس فلاديمير بوتين والكرملين بالتعبير عن التعاطف مع الضحايا وعرض المساعدة على الحكومة الصينية، وفقاً لما ذكرته مجلة “ناشيونال إنترست”، وهو برأينا موقف مدروس يحمل رسائل إلى كلٍ من أميركا وأوروبا حول تموضع روسيا في خريطة تحالفات ما بعد كورونا. كما أنها تجنّبت التعليق على المعلومات الصحافية لجهة مصدر الوباء التي تتضمّن أبعاداً جيوسياسية، وتركتها في خانة التكهنات. رغم أن شبكة “زفيزدا” (Zvezda) الإخبارية عرضت مقالاً حول الحرب البيولوجية الأميركية ضد روسيا والصين، واصفاً الموقف الأميركي بأنه مؤامرة تهدف إلى إحداث خسائر في الاقتصاد الصيني لإضعاف موقف هذه الأخيرة في جولة المفاوضات التجارية المقبلة. كما يعرض المقال الشكوك الروسية حول وجود مختبرات أميركية للأبحاث البيولوجية في عددٍ من الدول المجاورة (مثل جورجيا وأوكرانيا وأوزبكستان)، على الرغم من توقيع الولايات المتحدة الأميركية على اتفاقية جنيف للأسلحة البيولوجية لعام 1975.

الموقف الصيني

مع تزايد الإتهامات المباشرة وغير المباشرة للصين حول مسؤوليتها عن مصدر الوباء الذي انتشر بشكلٍ واسع بدايةً من مدينة ووهان الصينية، وصولاً إلى مختلف القارات، وتخطّى عدد المصابين به أكثر من أربعة ملايين شخص، وحصد أرواح أكثر من 280 ألف شخص، إضافةً إلى اتهام الصين أيضاً بعدم الشفافية في تعاملها مع هذا الوباء، إن لجهة التكتم عن الوباء أولاً، أو لجهة عدد الأشخاص الذين أُصيبوا به في مدينة ووهان ثانياً، واكتفت وزارة الخارجية الصينية بإصدار بيان نشرته على موقعها الإلكتروني للرد على هذه “الإدعاءات” كما سمتها.

 

جاء في الرد الصيني أن مجمل هذه الادعاءات هي “كاذبة”، بدءاً من تسمية الفيروس بالصيني أو فيروس ووهان، هو مخالف لتوصية منظمة الصحة العالمية، التي تُوصي “بعدم ربط تسمية أي مرض مُعْدٍ بدولة بعينها أو منطقة مُحدَّدة”. ورغم أن مدينة ووهان التي تقع في وسط البلاد ظهرت فيها أول إصابة، فإن منشأ الفيروس غير معروف حتى الساعة، وهو أمرٌ قيد البحث ويجب أن يبت فيه العلماء وخبراء الصحة فقط بناءً على حقائق علمية.

إضافةً إلى أن المختبر المعروف باسم (P4) الذي تدّعي واشنطن أن الوباء قد تسرّب منه، هو مشروع تعاوني مع الحكومة الفرنسية، ولا يتمتع بقدرات على تصميم وتصنيع فيروس “كوفيد-19″، ولا توجد أي أدلة على أي تسرّب فيروسي منه، أو أن أحد العاملين فيه أُصيب بالمرض.

وحول عدم إقدام الصين على احتواء انتشار الوباء داخل ووهان عبر وقف الرحلات الجوية الدولية، فقد نفت بكين هذا الاتهام قائلةً انها اتّخذت كافة الإجراءات الاحترازية وإجراءات المراقبة المُمكنة لمنع وقوع انتشار كبير للفيروس. “علماً أن الإحصاءات تدل على أن حالات الإصابة عالمياً بسبب الصين، يبقى ضئيلاً”، في إشارةٍ إلى أن توسع الانتشار عالمياً يعود إلى أسباب لا علاقة للصين بها.

وعن سوق الحيوانات البرية التي تبعد مئات الأمتار عن المختبر (P4) في ووهان، قالت الصين إنه لا توجد حيوانات غير أليفة في هذه السوق، وأن الخفافيش لا توجد على لوائح المأكولات الصينية.

وعن إخفاء المعلومات بشأن انتشار الفيروس، ردّ بيان وزارة الخارجية الصينية بأن فيروس “كوفيد-19” هو نوع جديد من فيروسات كورونا، وهو ما تطلَّبَ وقتاً للتعرف على ماهيته، وقد نشرت السلطات الصينية كافة المعلومات المُرتبطة به بشكلٍ شفاف وبطريقة مسؤولة. كما أنها كانت تُخْبِرْ منظمة الصحة العالمية أولاً بأول بشأن خطورة الفيروس. إضافةً إلى أنها كانت تنشر عدد الإصابات والوفيات  بطريقة شفافة ومسؤولة. وبالتالي كان على أميركا أن تعي مدى خطورة المرض الجديد، وبالتالي فإنها لا تتحمّل المسؤولية عن “إخفاق الدول الغربية في تعاملها مع الجائحة التي كشفت عيوباً هائلة في أنظمتها الصحية”.

موقف منظمة الصحة العالمية

الطرف الآخر المعني مباشرةً بموضوع نشوء الفيروس وانتشاره، هو منظمة الصحة العالمية. فهي ووفقاً لدستور تأسيسها في 7 نيسان (إبريل) 1948 (على يد كل من الولايات المتحدة الأميركية والهند والبرازيل والمكسيك وأوستراليا)، ومقرّها في جنيف، وتضم 7,000 موظف ولها  مكاتب في 150 بلداً، تعمل جنباً إلى جنب مع الحكومات والشركاء الآخرين لضمان تمتّع جميع الناس بأعلى مستوى صحي يُمكن بلوغه، وهي السلطة التوجيهية والتنسيقية في مجال الصحّة ضمن منظومة الأمم المتحدة. ومن مهامها وفقاً لدستورها “مكافحة الأمراض المعدية، مثل الفيروسات والإنفلونزا، والتحقق من الأدوية واللقاحات التي تلزمها”.

المقصود بهذه المُقدّمة عن منظمة الصحة العالمية هو الإشارة إلى الدور التخصّصي الرئيس، وأنها تتمتع بأجهزة وآليات تُمكّنها من تنفيذ المسؤوليات التي وُضِعَت على كاهلها، ومنها مسؤولية التحقّق من الأبحاث التي تُجرى داخل المختبرات، وإجراءات السلامة المُعتَمدة داخلها، وعدم مخالفة الإتفاقات الدولية حمايةً للسلامة الصحية العامة، عبر أجهزتها العلمية المتخصصة.

فهل قامت هذه المنظمة بالدور المنوط بها؟

رغم أن الوباء انتشر في 190 دولة، في مختلف القارات، وحصد أرواح أكثر من 300 ألف ضحية حتى الآن، وأصاب حوالي 4 ملايين شخص في مختلف هذه الدول، فقد شكّلت الولايات المتحدة رأس حربة في الهجوم على المنظمة، مُتّهمةً إياها بالتقاعس عن أداء مهمتها، وطالبت بإجراء إصلاحات داخل المنظمة، وصولاً إلى اتهامها بالتواطؤ مع الحكومة الصينية للتكتّم عن الفيروس، بل وعلّقت مساهمتها المالية الكبيرة في موازنة المنظمة.

إضافةً إلى انتقاد الولايات المتحدة للمنظمة، فقد انتقدت فرنسا المنظمة وبأسوبٍ ديبلوماسي غير مباشر تفرّد الصين في إدارة الأبحاث وعدم تسهيل مشاركة خبراء المنظمة بالمشاركة في التحقيق (وهو أصلاً من مهام هذه المنظمة) في مصدر الوباء. وهذا التمنّع من قِبَلْ الصين، كان كافياً لو شاءت المنظمة لرفع الأمر إلى مجلس الأمن الدولي، على غرار منظمة الحدّ من الأسلحة النووية.

كما دخلت على خط الإتهام ألمانيا، وإن بمواقف غير رسمية، عبر أنباء نقلتها مجلة “دير شبيغل” الألمانية عن مصادر استخباراتية ألمانية، أن المنظمة استجابت لطلب الرئيس الصيني، شي جين بينغ، من مدير المنظمة تحديداً وعبر اتصالٍ هاتفي، تأخير التحذير العالمي بشأن الفيروس، وهو “ما أفقد العالم أسابيع من الوقت لبدء مكافحة الجائحة”.

وردَّت المنظمة عبر تغريدة لها على هذه الإدعاءات، واعتبرت أن هذه المعلومات لا أساس لها من الصحة،.وأن مثل هذه التقارير غير الدقيقة تصرف الإنتباه وتُعرقل جهود المنظمة والعالم للقضاء على وباء “كوفيد-19”.

وأضاف المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبرسوس، أن “الإعلان عن مستوى التحذير الأعلى في وقت لم يكن في العالم إلّا 82 إصابة مؤكدة، ولا وفيات، عشرٌ منها في أوروبا وفقط خمس منها في فرنسا، وأن هذا الوقت كان كافياً للتحضير ومكافحة الفيروس. كما أن إعلان حالة الطوارئ الصحية أتى في الوقت المناسب (30 كانون الثاني/يناير)، بينما كان أمام العالم وقت كاف للإستعداد، رغم أنه لم يكن هناك توافق بين أعضاء لجنة الخبراء قبل أسبوع واحد من الإعلان حوله. وفي 11 آذار (مارس)، صنّفت منظمة الصحة العالمية الأزمة الصحية بـ”الوباء العالمي” أو الجائحة، ما دفع دولاً عدة إلى فرض سلسلة تدابير لاحتوائه.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه التدابير لم تكن مُوحّدة وغير مُنسَّقة بشكلٍ وافٍ مع منظمة الصحة العالمية، فاعتمدت الدول استراتيجيات مختلفة لمواجهة الفيروس، منها مَن اعتمد إستراتيجية “مناعة القطيع” كالسويد وألمانيا على سبيل المثال، ومنها من اعتمد استراتيجية مكافحة الوباء حصراً، رغم عدم توفّر علاج مؤكد مع اعتماد تدابير التباعد الإجتماعي، وارتداء الكمامات والقفازات وغسل الأيدي والتعقيم. وأُخرى وازنت بين سياسة مواجهة الوباء وبين عدم وقف عجلة الإنتاج والدورة الاقتصادية في الدولة.

تَكَشَّفَ الواقع عن نقص حاد في أسلحة هذه الاستراتيجيات، وهي وقائية بامتياز، بدءاً بالأقنعة إلى الألبسة الواقية ومواد التعقيم، ما سبب التنافس بين الدول للحصول عليها. وهنا لا بد من الإشارة إلى تحذير منظمة الشفافية الدولية من الفساد في عمليات شراء أو تحويل كميات من هذه الأدوات الوقائية كانت مُصدَّرة إلى دولةٍ ما، إلى دولة أخرى بسبب عمليات فساد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى آلات الفحص التي أخذت تُوزَّع بشكلٍ مُقَونن نظراً إلى ندرتها.

أما في ما يتعلق بآلات التنفس، التي كشفت هذه الأزمة أن هنالك نقصاً كبيراً في توفّرها، فقد عمد بعض الدول إلى تحويل بعض المصانع التي لا تنتج آلات طبية إلى تصنيع هذه الآلات (شركة فورد وشركة جنرال إلكتريك في الولايات المتحدة الأميركية، وشركة أبوت في بريطانيا). وهذا ما يعيدنا بالذاكرة إلى الحرب العالمية الثانية، حيث تحولت مصانع السيارات إلى مصانع للآليات العسكرية (على سبيل المثال مصنع  فورد في ألمانيا الذي توقف عن صناعة السيارات وتحول إلى صناعة الآليات العسكرية لصالح النظام النازي، علماً أن مدير مصنع فورد في ألمانيا ليس سوى والد الرئيس الأسبق جورج بوش).

من الواضح أن مواقف الدول التي استعرضنا بعضها أعلاه تُنبئ بأن العودة إلى النظام العالمي الذي ساد منذ انهيار الإتحاد السوفياتي، أي منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، قد تلاشى لمصلحة نظام جديد تتكوّن معالمه وفقاً لحقائق مُستجدة ما زالت تتفاعل ولم تكتمل عناصرها بعد، نظراً إلى غياب الأدلّة العلمية الحاسمة في موضوع مصدر الفيروس المُستجدّ وطبيعته، إضافةً إلى حسم موضوع إجراءات مكافحته من قبل الصين ودور منظمة الصحة العالمية في لعب الدور الذي أناطه بها دستورها.

إلّا أن الحقيقة الأكيدة في هذه المعادلة هي  تقوقع الدول داخل حدودها، حتى في المجموعات الإقليمية التي تربطها أحلاف ومنظمات كالاتحاد الأوروبي، وحلف الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وإن بنسبٍ مختلفة. وإعلان الرئيس ترامب نظرية أميركا أولاً. إضافةً إلى العوامل الاقتصادية والخسائر المالية التي نتجت عن الجائحة إن لجهة تباطؤ الاقتصاد، أو لجهة التداعيات المالية على موازنات الدول التي أنفقت مليارات الدولارات لتغطية الكلفة العلاجية والإجتماعية للتصدي للجائحة. كما كشفت الأزمة ضعف إمكانيات المواجهة لدى الدول، حتى المتطورة منها، والتي شكّلت لفترة طويلة نموذجاً ومثالاً للرخاء والإزدهار.

كما كشفت الأزمة أيضاً خللاً في التواصل بين المنظمات الدولية وبين الدول، وتأخراً في استجابة هذه المنظمات ومواكبتها لنشوء الوباء وانتشاره، مما كان من تداعياته عدم اعتماد إستراتيجية علمية مُوحَّدة لمواجهة الوباء. وبالتالي تعدد الاستراتيجيات التي اعتمدتها الدول في مواجهة هذا “العدو الخفي” و”عدو الإنسانية المشترك”، ومنها استراتيجية “مناعة القطيع”، يقابلها استراتيجية تفعيل العمل المخبري لمكافحة الوباء مع تدابير قاسية (التباعد الاجتماعي)، والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى القضاء على الفيروس، واستراتيجية أخرى برزت أيضاً وتقضي بالتركيز على التقليل من انعكاس الوباء على الاقتصاد، على حساب الضحايا التي يمكن أن تسقط قبل التوصل إلى علاج ولاحقاً إلى لقاح.

إضافةً إلى ذلك، فقد أبرزت الأزمة خللاً في التواصل بين المنظمات الدولية والدول المعنية، من خلال تكرار منظمة الصحة العالمية الطلب من بكين إشراكها في التحقيقات التي تقول بكين إنها تجريها في المختبرات في مقاطعة ووهان حيث بدأ انتشار الوباء، ناهيك عن تأخر مجلس الأمن بالاضطلاع بدورٍ فاعل لمعالجة أزمة تهدد السلام والأمن الدوليين، وتُشكل تهديداً للإنسانية، وذلك عملاً بمنطوق ميثاق الأمم المتحدة.

كما أن التسريب الألماني كان له الأثر الكبير في موقف بعض الدول الأوروبية تجاه المنظمة، وبدأت هذه الدول تأييد الموقف الأميركي، وبخاصة لجهة تأخير الإعلان من قبل منظمة الصحة العالمية على حجم خطورة هذا الفيروس المُستجد، وصولاً إلى قلق من قبل بعض الدول من تنامي النفوذ الصيني في المنظمات الدولية. هذا القلق يشي بإعادة النظر بعمل المنظمات المتخصصة، إذ بعد الاتهامات التي وُجِّهت إلى الولايات المتحدة إثر أزمة أسلحة الدمار الشامل في العراق. تأتي اليوم أزمة كورونا واتهام الصين بالنفوذ المقلق لدى منظمة الصحة العالمية.

إذاً نحن أمام مرحلة جديدة سماتها المبدئية برأينا حرب باردة بنسخةٍ مختلفةٍ عن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، لجهة مسرح المواجهة وموضوعها. طرفا هذه “الحرب الباردة الجديدة” الرئيسان هما واشنطن وبكين. وموضوعها إنهاء الزعامة الأحادية للولايات المتحدة على العالم. أما مسرحها فليست أوروبا وفقاً لبعض المفكرين الأوروبيين وخصوصاً الفرنسيين، إضافةً إلى دور متنامٍ لألمانيا ليس فقط على المستوى الأوروبي، إنما على المستوى الدولي، سوف يجعل منها لاعباً أساسياً في المعادلة الجديدة، من دون إغفال أهمية الانتقادات التي توجهها وأقلام الإعلاميين والمفكرين الأوروبيين لسياسات الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة، وخلال مرحلة العَولمة، ومواقفها أخيراً إبان أزمة كورونا.

ومن هذه المواقف، أن الولايات المتحدة جعلت من أوروبا مسرحاً رئيساً للحرب الباردة، ووضعته في مواجهة الاتحاد السوفياتي طوال تلك المرحلة، الأمر الذي حدّ من إمكانات أوروبا الإقتصادية تجاه أوروبا الشرقية واعتبارها من قبل الاتحاد السوفياتي امتداداً للنفوذ الأميركي على حدود روسيا بشكلٍ خاص والاتحاد السوفياتي بشكلٍ عام. كما أن مواقف أميركا أثناء العولمة جعل من أوروبا هدفاً لمشروع طريق الحرير الجديد الذي بربط آسيا بأوروبا، حيث “يصبح الأوروبيون موظفين بأجورٍ ضئيلةٍ لدى الشركات الصينية العملاقة”، كما جاء في مقالة نشرتها صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية لأستاذ العلوم السياسية والاستراتيجية “بيار-هنري دارجانسون” (Pierre-Henri d’Argenson)، وبالتالي التصدّي للعودة إلى تهميش دور أوروبا في الحرب الباردة الجديدة، وإبعادها من مسرح هذه الحرب الباردة.

وفي مطلق الأحوال، لن تكون أوروبا في أي حلف ضد روسيا الإتحادية تحديداً، رغم أنها تتعاطف مع الموقف الأميركي لجهة أن هنالك مسؤولية ما على الصين، ولديها ملاحظات على أداء منظمة الصحة الدولية. وقد عبّرت عن هذين الموقفين بشكلٍ ديبلوماسي. وبالتالي فإن صورة العلاقات الدولية المستقبلية من المرجح أن تشمل أيضاً إعادة النظر بعمل بعض المنظمات الدولية المُتخصّصة لجهة طريقة عملها، وإخراجها من دائرة التجاذب الدولي وبخاصةً الدول الكبرى.

  • ميشال حدّاد هو ديبلوماسي وسفير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى