تونس تنزلق إلى وضع خطير!
بقلم عبد اللطيف الفراتي*
من كثرة ما شهدتُ من مآسٍ في حياتي الطويلة، كنتُ أعتقد أنني مُحَصَّنٌ ضد الإحساس بدمارٍ، مثل ذلك الذي أشعر به اليوم؛ فقد عايشت الموت في بنزرت وأنا في بداية حياتي الصحافية، وعايشته في الأردن بعد هزيمة سنة 1967، وفي الصومال سنة 1993 وأنا أنام وأستيقظ على دوي قنابل المدفعية في المعسكر التونسي الذي كان مع كل الوحدات المُرسلة إلى هناك من عدد من البلدان تحت لواء الأمم المتحدة والحراسة المُشدّدة للولايات المتحدة؛ ومثل ذلك الإحساس الذي شعرتُ به وأنا مُستَهدَف لمواقفي الصحافية أمام مظاهر الإستبداد. ولكني لم أشعر أبداً بدمارٍ داخلي مثل الذي أشعر به في هذه الأيام، والذي أصابني بإحباطٍ ليس نفسياً فحسب بل بدني أفقدني الشهية على الأكل والرغبة في النوم، والراحة النفسية التي يشعر بها المرء وقد أدّى الواجب، أو ما يعتقد بأنه أدى الواجب، في راحة من ضميره الوحيد الذي يُملي عليه ما يصنعه أو يقوله أو يكتبه أو يفعله.
لكن هذه المرة إنتابني شعورٌ طاغٍ، بأن الحياة لا تستحق أن تُعاش، وبأن زيفاً ما فوقه زيف هو الذي يُحرّك الناس، أن يفقد المرء الثقة في الناس أكاد أقول كل الناس، لهو أمر مُدَمّر.
هذه قضية جوسسة تطل علينا بـ”شخصيات ” كانت عتيدة في الإعتبار، حركتها ولا شك مطامع مادية، قتلت ضميرها، ففقدت وطنيتها وأضاعت بوصلتها.
والأدهى في الأمر هو هذا الوضع الذي وضع فيه البعض بلادنا بؤبؤ أعيننا فيه، وإذ لا يكفينا بعد التصنيفات المتراجعة، أن توضع بلادنا في خانة الملاذات الضريبية، وتبقى فيها ولو في درجة أقل رمادية اللون ولكنها غير مُشرِّفة، فقد ازداد الحال سوءاً بأن توضع البلاد في صف وضعية غسيل الأموال القذرة وتمويل الإرهاب، وهي أسوأ الأوضاع من وجهة نظري بالمطلق، لأنها تنبئ عن سوء النية من جهة، وعن عجز الحكام الجدد إن لم يكن تواطؤهم، في وقت كانت الثورة، بقطع النظر عن كل شيء، دفعت بالأمل الوردي إلى النفوس، وخلقت في الأعماق دفعة من التطلع إلى مستقبل قوامه لا فقط الممارسة الديموقراطية، بل الحفاظ على المكاسب، وسيادة الأخلاق العالية.
ولكن لا شيء من ذلك تحقق، فالممارسة الديموقراطية تحوّلت إلى محاصصة حزبية بكل ما تعني من تقاسم المغانم وفساد سياسي وتوافق أعرج، والمكاسب بدأ التراجع عنها والعودة “بالتدافع الاجتماعي” إلى ما قبل عهود التنوير، أما الأخلاق العالية، التي إفتقدنا جانباً كبيراً منها على نطاق ضيق وفي مستوى عائلي أيام حكم الرئيس الأسبق بن علي، فقد إفتقدناها بالكامل بعد الثورة. دليلنا على ذلك تقرير منظمة “غافي ” الذي إعتمده البرلمان الأوروبي لوضع بلادنا على أسوأ قائمة سوداء لا تُشرّف أحداً، وتبرز أننا بلا أخلاق، وبأن الثقة ليست ديدننا، وأننا كبلد بيننا وبين القيم السامية النبيلة بون شاسع، وهذه ليست أخلاق ثورة ولا “من يحزنون”.
كيف لا يصيب المرء، وقد بنى حياته على الأخلاق والقيم العالية، اليأس والإحباط، وقد تمنى بعد الثورة أن يعيش في بلد الكفاية والعدل، أن يعيش في بلد القيم والأخلاق العالية، ليتساءل ماذا نترك لأبنائنا ولأحفادنا ليس من ثروة زائلة، فلا أحد ذهب إلى القبر وحمل معه مالاً أو متاعاً، ذهباً أو ألماساً، ولكن من ثروة قيم وأخلاق عالية يستطيع أولئك الأبناء والأحفاد أن يبنوا عليها مسارهم مرفوعي الرؤوس.
الواقع وأنا أقرأ التقرير بصفحاته الـ 209 كنت أشعر مع كل سطر، بأن شيئاً ينفصل، فلا أجد في نفسي وأنا المواطن كم كنت ساذجاً وأنا أغمض عيني على ما أرى وما أسمع.
ويزداد حزني، والقضية اليوم تدور حول ما إذا كان الشاذلي العياري أو غيره سيستقيل أم لا؟ وإن كان براء مما سيحمله من تبعات تقرير هو مسؤول عما جاء فيه في المقام الأول، وبالمشاركة مع كل الذين حكمونا طيلة 7 سنوات. وقد أراحه رئيس الجمهورية من المهمة عندما حوّل قرار إقالته من مركزه كمحافظ للمصرف المركزي إلى مجلس النواب للموافقة عليه في الأسبوع الفائت وتعيين مروان العباسي مكانه.
اليوم فهمنا، لماذا أُقيل مصطفى كمال النابلي سنة 2012، وهل إن إقالته هي التي فتحت الباب لما سيأتي لاحقاً في هذا التقرير المعتمد من قبل البرلمان الأوروبي؟ أم تكون تلك الإقالة هي التي من تبعاتها التجاوزات التي وضعت بلادنا في هذا الحضيض، وهل كانت تلك الإقالة قصدية وبهدف معين، أم ؟؟؟؟
سؤال أطرحه، وإذ لا أتهم أحداً، فإن إعتقادي راسخ بأن مسؤولية سياسية ثقيلة متوفرة، وهذه تتطلب الإطاحة برؤوس على المستوى السياسي، بقطع النظر عن أي مسؤولية جزائية، لا نتمناها للسياسيين، إلا في حالات تُهَمٍ مادية مُثبتة بأدلّة لا يتطرق لها الشك.
• كاتب وصحافي تونسي مخضرم، رئيس تحرير سابق لصحيفة “الصباح” التونسية. fouratiab@gmail.com