لماذا حلّ الدولتين هو هنا ليبقى: ببساطة ليس هناك بديل موثوق

يواجه فريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب المأزق عينه الذي واجهته الإدارات الأميركية السابقة بالنسبة إلى الأزمة الفلسطينية – الإسرائيلية، وهو أن إيجاد حل سياسي يتطلب الضغط على أحد الطرفين أو على الطرفين معاً. ويُدرك فريق ترامب بأن إيجاد حل سياسي يتطلب ضغوطاً على إسرائيل من أجل وقف الإستيطان وإقامة دولة فلسطينية على حدود العام 67، مع تبادل أراضٍ بنسبة معقولة، وهو أمرٌ لا تخفي الحكومة اليمينية في الدولة العبرية أنها ليس فقط ستعارضه، وإنما ستقاومه بشدة. ويعرف الفريق الأميركي أيضاً أن توجيه الضغط إلى الرئيس محمود عباس لقبول أقل من دولة على حدود العام 67، مع تبادل أراضٍ، لن ينجح لأن الرئيس الفلسطيني ليس فقط غير راغب بقبول مثل هذا الحل، وإنما أيضاً غير قادر على تسويقه للفلسطينيين. وقد حذّر العديد من الخبراء الفريق الأميركي الذي قام بزيارات عدة إلى المنطقة، من أن توجيه الضغط إلى عباس ربما يقود إلى ضعف أو إنهيار السلطة الفلسطينية التي تعاني من مشكلات مالية وسياسية كبيرة، وهو أمرٌ ستكون له عواقب وخيمة على أمن إسرائيل، قبل الفلسطينيين.

جاريد كوشنر مع الإسرائيليين: يحمي مصالحهم أم مصالح الفلسطينيين؟

بقلم ميتشل هوكبيرغ *

في شباط (فبراير) الفائت، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنه يُمكنه أن “يعيش” مع حلّ الدولة أو الدولتين بالنسبة إلى الأزمة الإسرائيلية – الفلسطينية، وهو ما جعل العديد من المُحلّلين يعتبرون أن ذلك يعني زوال حلّ الدولتين. ولكن بعد ستة اشهر من المحادثات، والزيارة الديبلوماسية الاخيرة لصهر الرئيس جاريد كوشنر الى المنطقة، لم يهمس المسؤولون الأميركيون في السر أو يُصرّحوا في العلن عن بديل من حل الدولتين. في مواجهة رفض الرئيس الأميركي، فقد أثبتت فكرة الدولتين مرة أخرى قدرتها على المرونة والصمود.
هذا لا يجب أن يأتي كمفاجأة. منذ أن إعتنق الطرفان حلّ الدولتين للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني فقد قيل أنه “وُلِد ميتاً”، و”إتفاق مريض ميؤوس منه”، و”ميت”. وكان من المفترض أن تواجه هذه السياسة حتفها وتنتهي في 1995، و2001، و2007، و2016. ومع ذلك فإنها عاشت وبقيت حية. إن الفكرة هي بأن تُقسَّم فلسطين الإنتدابية السابقة إلى كيانين يُحكَمان ذاتياً، واحدٌ يهودي وآخر عربي. وقد حاولت خطة تقسيم الأمم المتحدة في العام 1947 ولكنها فشلت في تحقيق هذه الرؤية لأن الفلسطينيين والدول العربية رفضاها، وسرعان ما إندلعت الحرب بين إسرائيل وجيرانها العرب. ومنذ ذلك الحين، شاركت الولايات المتحدة في التفاوض على السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب، بما في ذلك الفلسطينيين. وشملت هذه المشاركة مفاوضات وزير الخارجية هنري كيسنجر بعد فض الإشتباك في العام 1973، والوساطة التي قام بها الرئيس جيمي كارتر في العام 1978 لمعاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية التي ضمت الفلسطينيين تقريباً في كامب ديفيد، والتدخل الأميركي المستمر في المحادثات الإسرائيلية – الفلسطينية منذ أوائل تسعينات القرن الفائت.
أدّى الخلاف وعدم الثقة بين الطرفين إلى تعقيد إقامة دولة فلسطينية. وقد إستهدفت المفاوضات التوصل الى إتفاق يحمي أمن إسرائيل في حين يضمن في الوقت عينه السيادة الفلسطينية، والتعامل مع المستوطنات اليهودية من أجل إقامة دولة فلسطينية متاخمة مُمكنة، والمشاركة فى القدس بين الدولتين من بين أهداف أخرى. ولكن التوصل إلى إتفاق كان صعباً. إن العثور على قادة يتمتعون بالدعم الشعبي، والشجاعة، والإحترام المتبادل لوضع أسمائهم على مثل هذه الصفقة كان أكثر صعوبة. فلماذا إذاً، على الرغم من 20 عاماً من المحادثات غير الحاسمة وتفاقم الظروف من أجل التوصل إلى إتفاق، ما زال حل الدولتين هو السياسة الأميركية بحكم الأمر الواقع، إن لم تكن الرسمية، وما زال يحظى بتأييد واسع من الطائفة اليهودية الأميركية؟

سياسة مرنة

أولاً، كان من الصعب دائماً تحديد ما إذا كانت الظروف جعلت حقاً أن حل دولتين لم يعد مُمكناً. هناك الكثير من المؤشرات التي تفيد إلى أنه سيكون من الصعب للغاية تحقيقه، ولكن لا شيء يقول ويؤكد أنه لا يمكن أبداً تحقيقه. خذ تشييد المستوطنات، التي كانت إدارة باراك أوباما حذرت في كثير من الأحيان من أنها يُمكن أن تُلغي إمكانية إقامة دولتين. إن إستمرار البناء الإستيطاني الإسرائيلي غير المُقيَّد يجعل من الصعب إيجاد أرض لدولة فلسطينية، ويزيد من عدد المستوطنين الإسرائيليين الذين قد يقاومون بعنف الإجلاء، ويشير إلى نوايا سيئة تجاه الفلسطينيين. ومع ذلك، ليس من الممكن معرفة ما إذا كان أي مثال جديد لبناء المستوطنات سيجعل حل الدولتين غير قابل للتطبيق. وعلى أية حال، فإن رسم خرائط إبداعية يُمكن أن يعوّض الفلسطينيين جغرافياً، ويُمكن أيضاً هدم المستوطنات وإيقاف البناء، كما أن عدداً مُستغرباً من المستوطنين مستعدون للإخلاء.
وبالطريقة عينها، من المستحيل أن نقول على وجه اليقين ما إذا كانت العوائق الأخرى التي تعترض سبيل السلام قد ألغت الإتفاق نهائياً وألغت بالتالي طاولة المفاوضات بشكل دائم. لقد أسفرت المفاوضات عن صفقات عملية بشأن القضايا الرئيسية في الماضي، ويُمكن أن تتكرر مرة أخرى في المستقبل. فمن الممكن دائماً أن يظهر قادة جريئون يتمتعون بدعم شعبي. بعد كل شيء، لقد إنسحب عرّاب المستوطنات ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون من غزة. إن عدم الثقة لدى الجانبين تجاه بعضهما حقيقي، ولكن يُمكن تخفيضه. ببساطة، من دون شهادة وفاة، فإن حل الدولتين ما زال حياً.
والعامل الثاني الذي يحافظ على حل الدولتين على قيد الحياة هو أنه لا توجد بدائل سياسية حقيقية. إن أيّاً من الطرفين متحمس لأن يكون أقلية دائمة في دولة يسيطر عليها الطرف الآخر، والولايات المتحدة تدعم تطلعات الشعبين، أو على الأقل ما “يريده الطرفان”. هناك طرق محدودة لحل مثل هذا الصراع.
كان المحللون يأملون أن تستوعب الدول المجاورة مثل مصر والأردن وسوريا الفلسطينيين وتحكمهم، ولكن الفلسطينيين أكدوا حقهم في تقرير المصير، ورفضت الدول العربية رسمياً حكمهم. وفي الوقت نفسه، يعتقد بعض الإسرائيليين اليمينيين مثل نفتالي بينيت أن العالم سوف يتكيّف مع الإحتلال الدائم الذي يتمتع فيه المواطنون الإسرائيليون بحقوق قانونية وبنية تحتية وحماية أفضل من نظرائهم الفلسطينيين. أما إذا إستمرت إسرائيل في هذا المسار، فمن المرجح أن تواجه عزلة دولية، بما في ذلك تراجع الدعم الأميركي اليهودي. وقد يعارض ويناقض البعض هذا المنطق بالقول أن إسرائيل قد حافظت على الوضع الراهن وتمكنت من تجنب العزلة، ولكن تجدر الإشارة إلى أن الحكومات الإسرائيلية، بما فيها الحكومة الحالية، قد تجنّبت عن وعي وإدراك ضم أجزاء من الضفة الغربية خوفاً من العواقب الدولية.
ويأمل الناشطون الفلسطينيون مثل ليندا صرصور في بديل: تحديداً، الضغط على إسرائيل لمنح الفلسطينيين حقوقاً كاملة في دولة واحدة ثنائية القومية. بيد أن القادة الإسرائيليين لن يتخلوا عن طيب خاطر عن الغالبية اليهودية للبلاد. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إنعدام الثقة المُتبادَل وتاريخ العنف سيجعلان تشكيل هذه الدولة خطراً.
من ناحية أخرى، أشار المحللون إلى منصة الحزب الجمهوري الجديدة التي لم تُؤيّد حل الدولتين، ومراعاة ترامب اللاحقة بشأن حل الدولتين كتغيير في الموقف والسياسة الأميركية. والواقع أن فريق ترامب التفاوضي لم يؤكد مجدداً تأييده لسياسة الدولتين، على الرغم من أن السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هايلي وآخرين قد فعلوا. وقد أدى هذا التردد إلى إزعاج المسؤولين الفلسطينيين وإصدار بيانات رسمية غريبة. حتى الآن، لم يُعلن مفاوضو ترامب بديلاً من حل الدولتين، بل فقط مجرد فكرة عن الدور الذي ينبغي أن تلعبه الدول العربية في تلك العملية. وما لم يكن صناع القرار الأميركي على إستعداد لإختيار جانب أو فريق والتعامل مع التداعيات الدولية والمحلية، سيظل حلّ الدولتين هو الهدف النهائي.
ومن الغريب أن سيطرة “حماس” – التي لا تؤيد حل الدولتين والتي تُعتبَر رسمياً مجموعة إرهابية من قبل إسرائيل والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي – التي تمارسها على قطاع غزة تدل وتؤكد على أهمية الإلتزام بهذه السياسة. ومن دون حل الدولتين، سيتم القضاء على مصدر مُتناقِص ولكنه مهم لشرعية السلطة الفلسطينية. ومن دون السلطة الفلسطينية، فإن رفض الولايات المتحدة وإسرائيل التعامل مع “حماس” سيجعلهما غير راغبين في التعامل مع المخاوف الفلسطينية.
والسبب الثالث في دعم التأييد لحل الدولتين هو أنه يجعل السياسة مفيدة وجيدة. لقد حافظت الجالية اليهودية الأميركية ومنظماتها الأساسية مثل لجنة الشؤون العامة الأميركية – الإسرائيلية (إبياك)، وعصبة مكافحة التشهير، واللجنة اليهودية الأميركية – المؤسسات الأكثر نشاطاً وإنخراطاً في قضايا إسرائيل – على دعم مؤسَّسي لحل الدولتين على الرغم من بعض التذبذب الجمهوري الذي شجعته منظمات يهودية يمينية متطرفة. إن غالبية اليهود الأميركيين تدعم سياسة حل الدولتين كوسيلة للتعامل مع الآثار الأخلاقية والأمنية المقلقة للإحتلال الإسرائيلي المستمر. إن إصرار المنظمات اليهودية على الحفاظ على نهج الحزبين تجاه القضايا المرتبطة بإسرائيل قد أدى إلى إعتماد سياسة حل الدولتين.
أما بالنسبة إلى السياسيين الأفراد، فإنهم يخاطرون بفقدان الدعم السياسي والمالي اليهودي في حال رفضهم حل الدولتين. غير أن الجماعات اليمينية المُرتبطة بالجهات المانحة مثل شيلدون أديلسون، وهو ملياردير مقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي، فقد خلقت قاعدة بديلة للتمويل السياسي للجمهوريين المهتمين بدعم مطالبة إسرائيل بكل فلسطين الإنتدابية. ومن المرجح أن تحول جدوى سياساتهم الضمنية – دعم الولايات المتحدة للإحتلال – إلى منع وعود الجمهوريين من أن تصبح سياسة فعلية. ولم يؤيد أيّ من المانحين البارزين وجهات النظر التي لا علاقة لها بحل الدولتين من اليسار.
ومن دون بدائل سياسية جيدة ونظراً إلى المخاطر السياسية، فقد رفض عدد قليل من السياسيين حل الدولتين. وعلاوة على ذلك، فإن الأصوات الوسطية وأبطال الدعم الحزبي لإسرائيل لديهم حوافز هائلة للحفاظ على الإجماع على حل الدولتين، نظراً إلى أن إنهياره من المرجح أن يؤدي إلى نقاش مفرط الإستقطاب حول مستقبل إسرائيل. وسيكون الحفاظ على دعم الولايات المتحدة الثابت لإسرائيل أمراً صعباً في هذه البيئة.

مستقبل المفاوضات

إن أيّاً من هذه العوامل – عدم وجود مؤشرات جيدة للموت، وعدم وجود سياسة بديلة وبدائل سياسية قابلة للحياة – لا يمكن إنتهاك حرمته أو غير قابل للتغيير. ولكن في تركيبة تجعل تأييد الولايات المتحدة لحل الدولتين قوياً ومرناً. لا أحد من صناع السياسات ولا من السياسيين أتى ببديل عملي.
مع ذلك، هناك العديد من التهديدات لهذه السياسة. إن الجهود المستمرة التي يبذلها بعض المانحين الجمهوريين الأميركيين لتحويل الدعم لإسرائيل إلى قضية حزبية قد تدفع المزيد من الجمهوريين إلى يمين أكثر تطرفاً وخارج توافق الآراء الرئيسي. بالإضافة إلى ذلك، يتعاطف العديد من التقدميين الشباب مع القضية الفلسطينية، الأمر الذي قد يجعل من الصعب على الديموقراطيين إتخاذ مواقف وسطية بشأن هذه القضية. إن رئيساً مستقبلياً، أو الرئيس الحالي، يمكن أن يرى الوضع ميؤوساً منه إلى درجة أن تتراجع الولايات المتحدة عن دور الوساطة، تاركاً الأطراف تدير صراعاتها وإضطراباتها الخاصة. وستحكم هذه النتائج على الإسرائيليين والفلسطينيين بمستقبل سياسي خطير. ومن دون إطار الدولتين، سيصبح من الصعب على نحو متزايد إدارة النزاعات الصغيرة، نظراً إلى أن الجانبين سيفتقران إلى الحوافز لسحب وإيقاف الضربات.
ويمكن لواضعي السياسات والسياسيين العمل على تجنب هذه النتيجة. ويستطيع البيروقراطيون والمحللون أن يُطوّروا طرقاً لإدارة الصراع وأن يُحسّنوا تدريجاً في ظروف المحادثات، بدلاً من أن يقفزوا إلى جولات مستمرة عالية المخاطر وجولات متباينة من المفاوضات. ويمكنهم، على سبيل المثال، وضع توقعات واقعية على المدى القصير ومحاولة التوسع التدريجي في المسؤوليات الإدارية للسلطة الفلسطينية والأمنية لقوات الأمن الفلسطينية. ويمكنهم أيضاً أن يجادلوا حول السياسات التي توسّع الأفق لبقاء الدولتين، مثل وقف بناء المستوطنات الإسرائيلية شرق الجدار الأمني أو تحسين الاقتصاد الفلسطيني. في المجال السياسي، سيتعيّن على النشطاء والسياسيين التراجع ضد المد القوي للاستقطاب وإدارة حدود النقاش. وبطبيعة الحال، فإن هذه المناقشة تبدو مستحيلة إذا لم تكن هناك علامات على الإلتزام بالسلام من جانب الأطراف نفسها. ولكن في المستقبل المنظور، إن حل الدولتين هو هنا لكي يبقى.

• ميتشل هوكبيرغ هو باحث مشارك في معهد واشنطن ويحمل درجة الماجستير من برنامج الدراسات الأمنية من جامعة جورج تاون.
• كُتب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى