هل ستُؤدِّي مُحارَبَةُ التضخّمِ في أميركا إلى أزمةِ ديونٍ عالمية؟

إذا ارتفعت أسعار الفائدة الأميركية بشكلٍ حاد، فإن دولًا كثيرة ستحتاج إلى دعمٍ مالي دولي وستواجه إعادة هيكلة ديونها لتجنّب الانكماشات الاقتصادية الكارثية.

جيروم باوَل: مهمته صعبة لمواجهة التضخّم في أميركا.

جيان ماريا ميليسي-فيريتي*

في 16 آذار (مارس) الفائت، أعلن جيروم باوَل، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، أن البنك المركزي سيرفع أسعار الفائدة إلى 0.25 في المئة. ومن المحتمل أن يكون هذا الرفع هو الأول في سلسلة من الزيادات في أسعار الفائدة المُصَمَّمة لترويض التضخّم المُرتَفع بعناد. منذ بداية العام، أشار باوَل وزملاؤه إلى أن البنك المركزي سيرفع أسعار الفائدة قصيرة الأجل وأكدوا جميعًا أن الاحتياطي الفيدرالي مُلتَزِمٌ باتخاذ “الإجراءات اللازمة” لخفض التضخّم.

وقد ناقش الاقتصاديون المدى الذي قد تكون نوبةُ التضخم هذه هي نتيجةً للسياسة المالية والنقدية التوسّعية –من أسعارِ فائدة مُنخَفضة إلى مبالغ كبيرة من الإنفاق الحكومي، لا سيما التحويلات إلى الأُسَر– أو العوامل الخاصة بالوباء، بما فيها الاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية، ونتيجة لذلك، ارتفاع أسعار السلع والبضائع المُصَنَّعة. لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الزيادات في المعدل التي خَطَّطَ لها بنك الاحتياطي الفيدرالي ستكون كافية لترويض الأسعار المرتفعة أو إلى أي مدى ستحدّ من النمو الاقتصادي.

ولكن مهما كان التأثير، فإن ارتفاعَ أسعار الفائدة لن يؤثّر فقط في الولايات المتحدة. إن زيادة أسعار الفائدة الأميركية ترفع تكلفة الاقتراض بالدولار الأميركي في الأسواق الدولية. كما أنها تزيد الطلب على الأصول بالدولار الأميركي مُقارنةً بالأصول بعملات أخرى، وبالتالي يُمكن أن تتسبّب في انخفاض قيمة هذه العملات. بالنسبة إلى البلدان التي يكون فيها الدين الخارجي مُقَوَّمًا بالدولار الأميركي، فإن سداد الديون سيُصبِح أكثر تكلفة.

ومن المرجح أن تكون هذه العواقب أشدّ في بعض البلدان مُنخفِضة ومُتوسّطة الدخل. بالمقارنة مع الدول الأكثر ثراءً، فإن هذه البلدان بشكلٍ عام لديها ائتمان أسوأ، وسوف تتكلّف أكثر للاقتراض. كما أنها أيضًا أكثر عرضةً للاقتراض بالدولار الأميركي. وسيكون ذلك سيِّئًا بشكلٍ خاص للأسواق النامية والناشئة التي لا تزال تُكافِحُ التداعيات الاقتصادية للوباء، وكذلك تلك التي تُعَدُّ مُستَورِدًا صافيًا للغذاء والطاقة، واللذين ارتفعت أسعارهما بشكلٍ كبير نتيجةً للحرب في أوكرانيا. من المرجح أن تشهد هذه البلدان المزيد من ضائقة الديون وتخفيضات كبيرة في قيمة عملاتها، وهذا ما يُعيق نموها الاقتصادي ويزيد من صعوبة الحدّ من الفقر فيها.

حول العالم

تُعتَبرُ السوق المالية الأميركية إلى حدٍّ بعيد أكبر الأسواق المالية في العالم، والدولار هو العملة الاحتياطية الرئيسة في العالم. إنه العمود الفقري للقروض الدولية والعملة الرئيسة المُستَخدَمة في معاملات التجارة الدولية والسندات المتداولة دوليًا. نتيجةً لذلك، فإن إجراءات الاحتياطي الفيدرالي لها تأثيرٌ كبيرٌ في اقتصادات البلدان الأخرى.

وهذا صحيح بشكلٍ خاص في الأسواق الناشئة والبلدان النامية، التي تعتمد غالبًا على الدولار الأميركي للاقتراض الدولي. عندما يرفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة للمساعدة على ترويض التضخّم الأميركي، يصبح الاقتراض الخارجي بالدولار أكثر تكلفة. يُمكن أن تؤدي الزيادات أيضًا إلى زيادة التضخّم في الاقتصادات الأخرى: نظرًا إلى أن الأصول الأميركية تُحقِّقُ عوائد أعلى، فإنها تُصبحُ أكثر جاذبية للمستثمرين مُقارَنةً بأصول البلدان الأخرى، ما يقود إلى ارتفاع قيمة الدولار. وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة تكلفة الواردات، التي غالبًا ما يتمّ تسعيرها بالدولار. كما أنه يزيد من تكلفة سداد الحكومات والشركات في البلدان النامية ديونها الحالية بالدولار الأميركي. ويمكن أن تكون النتيجة تدابير تقشّفٍ محلّية، ما يؤدي إلى انخفاض النمو الاقتصادي. (هذه التأثيرات أكثر اعتدالًا في الاقتصادات المُتقدِّمة، لأنها تقترض أساسًا بعملتها المحلية، ومن غير المرجح أن ترتفع أسعارها المحلية عندما تنخفض قيمة عملاتها).

الواقع أن زيادات أسعار الفائدة الأميركية تأتي في أوقاتٍ عصيبة. للتخفيف من آثار الوباء، كان على العديد من البلدان الفقيرة تحمّل المزيد من الديون، ومع تراجع النشاط الاقتصادي الناجم عن كوفيد-19، فإنها تكافح من أجل خدمة أو سداد هذا الدين. على سبيل المثال، شهدت الاقتصادات المعتمدة على السياحة نضوب مصدرها الرئيس لإيراداتها الخارجية مع توقّف السفر الدولي. كما أن العديد من الاقتصادات الناشئة والنامية تواجه بالفعل تضخمًا محلّيًا ناتجًا عن اضطرابات الإنتاج المرتبطة بالجائحة وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء العالمية. يقود ارتفاع تكاليف الغذاء، على وجه الخصوص، إلى إذكاء التضخّم في الاقتصادات الناشئة والنامية، حيث يُنفِقُ السكان نسبةً مئوية من دخلهم على البقالة أعلى مما ينفقه سكان الدول الغنية. ويمكن لهذا الوضع أيضًا أن يُثيرَ الاضطرابات الاجتماعية.

لا يُمكنُ لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، بالطبع، تحديد أسعار الفائدة قصيرة الأجل إلّا بشكل مباشر، كما أن المعدلات طويلة الأجل للولايات المتحدة – مثل العائد على السندات الحكومية التي تستحق في غضون عشر سنين – لها تأثيرٌ مُهم في كلٍّ من النشاط الاقتصادي وفي المعدلات طويلة المدى في بلدان أخرى. هذا، مرة جديدة، صحيح بشكلٍ خاص في الاقتصادات الناشئة والنامية. ولكن عندما يُشَدّد بنك الاحتياطي الفيدرالي سياسته النقدية، يُمكِن أن يتسبّبَ هذا في ارتفاع هذه المعدلات أيضًا. وهي آخذة في الارتفاع بالفعل: بين نهاية العام 2021 و31 آذار (مارس) 2022، ارتفع سعر الفائدة على سندات الخزانة الأميركية ذات العشر سنين بمقدار نقطة مئوية واحدة.

حتى الآن، هذه زيادة صغيرة نسبيًا. وهي تُشيرُ إلى أن الأسواق تتوقّع حاليًا أن الزيادة في أسعار الفائدة قصيرة الأجل سوف تنعكس وتنخفض في مرحلة ما – وبالتالي فإن التضخّم في الولايات المتحدة سوف ينحسر في النهاية. بالنسبة إلى الأسواق الناشئة والبلدان النامية، ستكون هذه الأخبار جيدة جدًا. إذا ظلّت الزيادة طويلة الأجل في الأسعار متواضعة، فسيتم احتواء التداعيات على العالم النامي بشكلٍ أكبر.

لكن لسوء الحظ، فإن النهاية السريعة وغير المؤلمة للتضخّم في أميركا ليست نتيجةً مُتَوَقَّعة وحتمية. يواجه العالم أول نوبة تضخّم ذات مغزى منذ عقود، وهي تجربة تتفاقم بسبب عدم اليقين بشأن الوباء والحرب في أوكرانيا. وقد تجاوز التضخم في الولايات المتحدة التوقعات بالفعل، مُتجاوزًا توقعات العام 2021 بهامشٍ كبير. إذا ظل الطلب قويًا في الولايات المتحدة وإذا ظلّت أسواق العمل في البلاد ضيّقة، فقد يتبيَّن أن التضخّم أكثر عنادًا مما يُشير إليه معظم التوقعات. سيتعيَّن على بنك الاحتياطي الفيدرالي بعد ذلك أن يقوم برفع أسعار الفائدة بشكلٍ أسرع وأكثر حدّة مما تتوقعه الأسواق حاليًا، ما سيؤدي إلى ارتفاع معدلات الفائدة طويلة الأجل. وقد يتباطأ الاقتصاد الأميركي بعد ذلك بشكلٍ أكثر حدّة، وستكون التداعيات المالية الدولية أكثر حدّة هي الأخرى.

والواقع أن حالة عدم اليقين نفسها يُمكن أن تضرّ بالبلدان الفقيرة والمتوسطة الدخل. خلال فترات عدم اليقين الاقتصادي والجيوسياسي المرتفع، يميل المستثمرون إلى الانسحاب من الأصول ذات المخاطر العالية. ويشمل ذلك الحيازات في الأسواق الناشئة، التي لديها آفاق اقتصادية أكثر تقلّبًا وحالة عدم يقين سياسي والمتعلق بالسياسات. قد تكون النتيجة النهائية المؤسفة مرة أخرى هي تدفق رأس المال من البلدان النامية –وهي الأماكن الأكثر حاجة إلى الاستثمار– إلى الخارج.

التراجع

يصعب على الاقتصاديين التنبّؤ بالمستقبل، ويحتاج المُحَلِّلون إلى التواضع في توقّعاتهم. لا أحد يعرف بالضبط المسار الذي سيتّخذه التضخّم في الولايات المتحدة، وكيف سيستجيب الاحتياطي الفيدرالي، وما هي العواقب النهائية للدول الأخرى.

لكن الماضي يُمكن أن يُوَفِّرَ دليلًا لما يبدو عليه العالم النامي عندما تُشدِّدُ أميركا سياساتها النقدية. في بعض الحالات، يُقدِّمُ التاريخ سببًا للأمل. عندما رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة من 1٪ إلى 5.25٪ بين العامين 2004 و2006، لم تشهد اقتصادات الأسواق الناشئة اضطرابات مالية، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى أن الاقتصادين الأميركي والعالمي كانا ينموان بسرعة. في منتصف العام 2013، توقّع المستثمرون أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة، ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار الفائدة طويلة الأجل بمقدار نقطة مئوية واحدة، كما حدث حتى الآن. واجه العديد من الأسواق الناشئة انخفاضًا في عمليات الشراء أو البيع المباشر لسندات الدين من قبل المقيمين الأجانب وشهدت هذه الأسواق عملاتها تخسر من قيمتها. لكن كلا التأثيرين تلاشيا في غضون بضعة أشهر.

في حالاتٍ أخرى، كانت لارتفاع الأسعار عواقب أكثر وضوحًا. بين شباط (فبراير) 1994 وشباط (فبراير) 1995، رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة قصيرة الأجل بنحو ثلاث نقاط مئوية، وارتفعت أسعار الفائدة طويلة الأجل بنحو نقطتين مئويتين. أدت الزيادات –جنبًا إلى جنب مع العوامل الاقتصادية والسياسية المحلية– إلى انهيار البيزو المكسيكي، ما تسبّب في ركودٍ في البلاد. احتاجت المكسيك في النهاية إلى خطةِ إنقاذٍ دولية لتفادي التخلّف عن السداد. كما تضرّرت الأرجنتين بشدّة. ولكن حتى ذلك الحين، لم تكن هناك موجة أوسع من أزمات الأسواق الناشئة. وبالمثل، عندما رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعاره بين آذار (مارس) وكانون الأول (ديسمبر) 2018، واجهت الأرجنتين وتركيا انخفاضًا كبيرًا في قيمة العملة، ولكن تم احتواء التداعيات في أماكن أخرى.

ومع ذلك، فإن ارتفاع أسعار الفائدة، إذا كان كبيرًا بما يكفي، يمكن أن يؤدي إلى مشاكل واسعة النطاق. في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الفائت، ضاعف رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يومها، بول فولكر، أسعار الفائدة تقريبًا –حتى 20٪– لمُحاوَلةِ ترويض التضخّم المستمر في الولايات المتحدة. لقد نجح، لكن موجات الصدمة لتشديد السياسة النقدية الأميركية تسبّبت في أزمة ديون واسعة النطاق والعديد من حالات التخلّف عن السداد في الاقتصادات الناشئة والنامية. بين العامين 1981 و1983، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.8 في المئة في البرازيل، و4 في المئة في المكسيك، و7.5 في المئة في فنزويلا، و16 في المئة في تشيلي.

قد يكون تأثير رفع أسعار الفائدة الحالي متواضعًا. يمتلك العديد من البلدان المتوسطة الدخل –بما فيها معظم الدول الكبرى– مؤسسات اقتصادية أقوى (بما في ذلك البنوك المركزية المستقلة) مما كانت عليه في سبعينات وثمانينات القرن الفائت، أو حتى العقد الأول من هذا القرن. فهي أقل اعتمادًا على الاقتراض بالدولار، ولديها احتياطات أكبر من العملات الأجنبية. كما أنها تسمح بتعويم قيمة عملاتها أكثر مما كانت عليه في الماضي، ما يعني أنها يمكن أن تسمح لعملاتها بالانخفاض خلال فترات التوتّر بدون إثارة مثل هذه التداعيات الاقتصادية المحلية الشديدة. بالإضافة إلى ذلك، تُساعِدُ أسعار السلع المرتفعة الاقتصادات الناشئة والنامية المُصدِّرة للسلع الأساسية، حيث يمكنها الآن بيع سلعها بأسعارٍ أعلى.

لكن بلدانًا فقيرة كثيرة ليست معزولة بشكلٍ جيد، والتضخّم في الولايات المتحدة عند أعلى مستوى له منذ عقود. قد يكون تعديل سياسة واشنطن أكثر حدّة من أي شيء قامت به منذ العام 1994. ويمكن أن تتضاعف إجراءات بنك الاحتياطي الفيدرالي من خلال ارتفاع أسعار الفائدة من البنوك المركزية الأخرى، نظرًا إلى أن العديد من الاقتصادات المتقدمة والناشئة تتعامل أيضًا مع ارتفاع معدلات التضخّم. وسيأتي هذا التشديد في الوقت الذي لا يزال الاقتصاد العالمي يتعامل مع عواقب الوباء، بالإضافة إلى تداعيات الحرب في أوكرانيا. وهذا يعني أنه على الرغم من أنه من غير المحتمل أن تكون هناك أزمة حادة في الاقتصادات الناشئة الرئيسة، إلّا أن هناك العديد من البلدان الضعيفة – التي تواجه بالفعل فقرًا متزايدًا – قد لا يكون باستطاعتها تحمّل عبء ارتفاع مستويات الديون الخارجية. قد يتواصل عدد متزايد من البلدان مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض، كما فعلت سري لانكا أخيرًا، وتواجه إعادة تفاوض بشأن الديون مع الدائنين الخارجيين (ولبنان هو مثالٌ آخر).

منذ أن بدأ الوباء، ناقش البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأغنى دول العالم الحاجة إلى تقديم إعفاء من الديون لأفقر الدول والبلدان الأخرى التي تواجه أشد العواقب الاقتصادية للوباء. نظرًا إلى أن بنك الاحتياطي الفيدرالي يعمل على السيطرة على التضخّم في الولايات المتحدة، فإن ضرورة هذا التخفيف ستزداد إلحاحًا. قد يكون الجُزءُ الأكبر من العالم النامي قادرًا على تجاوز العاصفة. ولكن إذا ارتفعت أسعار الفائدة الأميركية بشكلٍ حاد، فإن المزيد من الدول ستحتاج إلى دعمٍ مالي دولي وستواجه إعادة هيكلة ديونها لتجنّب الانكماشات الاقتصادية الكارثية.

  • جيان ماريا ميليسي-فيريتي هو زميل أول في مركز هتشينز للسياسة المالية والنقدية في معهد بروكينغز. شغل سابقًا منصب نائب مدير إدارة البحوث في صندوق النقد الدولي.
  • يصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى