ديبلوماسية الأمم المتحدة: ليسَ كلُّ المُمتَنِعين عن التصويت مُتَساوين

كابي طبراني*

عندما تَمتَنِعُ دولةٌ عن التصويتِ على أزمةٍ ما في الأمم المتحدة، يبدو الأمرُ وكأنّها تتجنّبُ الخياراتِ الصعبة بشأن المشكلة المطروحة. لكن ديبلوماسية الأمم المتحدة نادرًا ما تكون بهذه البساطة. عندما يَمتَنِعُ الديبلوماسيون عن التصويت في مجلس الأمن أو الجمعية العامة، فإنهم غالبًا ما يُرسِلونَ إشاراتٍ أكثر دقّة حول مصالحهم وأولَوِيّاتهم. في الأسابيع الأخيرة، امتنع أعضاءٌ في الأمم المتحدة من الصين إلى بوركينا فاسو عن التصويت على سلسلةٍ من عمليات التصويت في منتديات الأمم المتحدة حول الحرب الدائرة في أوكرانيا، أو لم يصوتوا عليها. ماذا تعني عمليات التصويت الغامضة هذه وعدم التصويت؟

لمعرفةِ كيفَ يُمكِنُ أن تكونَ لامتناعِ الدول عن التصويت في الأمم المتحدة معانٍ سياسية مُتفاوتة، فمن المفيد إعادة التذكير والتفكير في الصراع الليبي في العام 2011. في آذار (مارس) من ذلك العام، تقدّمت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بقرارٍ إلى مجلس الأمن يُجيزُ العمل العسكري لحماية المواطنين الليبيين المُعرَّضين. إمتنعت روسيا عن التصويت، وكذلك الصين، ورحّب المسؤولون الغربيون بهذا الامتناع واعتبروه بادرةً إيجابية سمحت بتنفيذ القرار. لكن ألمانيا، التي كانت آنذاك عضوًا مُنتَخبًا في المجلس، امتنعت أيضًا عن التصويت، ورأى حلفاء برلين في واشنطن وعواصم حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأخرى في ذلك خيانة.

في عمليات التصويت في الأمم المتحدة على الحرب الأوكرانية، تمتّعت كييف وأنصارها حتى الآن بدعمِ الغالبية. ومن بين الدول الأعضاء في المنظمة البالغ عددها 193 دولة، أيّدت 141 دولة قرار الجمعية العامة الذي يُدين عدوان موسكو في 2 آذار (مارس)، فيما دعمت أربعُ دول فقط –بيلاروسيا وكوريا الشمالية وأريتريا وسوريا– روسيا. كما أيّدت 93 دولة تعليق حقوق عضوية روسيا الاتحادية في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وعارضته 24 دولة، وامتنعت 58 أُخرى عن التصويت. لكن منذ بداية الحرب، يعمل بعض اللاعبين الكبار بجدٍّ لاستخدام الديبلوماسية في الأمم المتحدة كأداةٍ أخرى للنزاع.

جاء أوّلُ امتناعٍ مَلحوظ عن التصويت على أوكرانيا في أواخر شباط (فبراير)، عندما قدمت الولايات المتحدة قرارًا في مجلس الأمن يستنكر تصرّفات روسيا. لم يؤدِّ هذا القرار إلى نتيجة، لأن الروس قد استخدموا حق النقض كما كان مُتَوَقَّعًا، لكن واشنطن كانت تأمل في إظهار أن موسكو معزولة في المجلس. قام ثلاثةُ أعضاء من هيئة المجلس المُكوَّنة من 15 عضوًا –الصين والهند والإمارات العربية المتحدة– بتعقيد هذا الأمل بالامتناع عن التصويت. لكن واشنطن رأت قرارات الثلاثي من نواحٍ عدة مختلفة. لقد حثّ المسؤولون الأميركيون الصين على عدم الانضمام إلى روسيا في استخدام حق النقض ضد القرار، وخفّفوا النص لجعله مقبولًا لبكين. لذا رأوا في امتناع الصين عن التصويت بمثابةِ انتصار.

كان هؤلاء المسؤولون أقل سعادة بالموقفَين الهندي والإماراتي. من الواضح أن الهند، بعلاقاتها الاقتصادية والأمنية الوثيقة مع روسيا، كانت تُحاوِلُ تجنّبَ الخلاف مع موسكو. في غضون ذلك، احتاج الإماراتيون إلى روسيا لدعم قرار مجلس الأمن الذي يصف الحوثيين في اليمن – الذين شنّوا هجمات بالصواريخ والطائرات المُسَيَّرة على الإمارات في كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) – بالإرهابيين. إن دعمَ الروس لنصِّ هذا القرار هو في الواقع مثالٌ مباشر للمعاملات والمُقايضات التي تتم وتحصل للتصويت في الأمم المتحدة. لم تكن الولايات المتحدة مسرورة لرؤية شريكها الخليجي يمتنع عن التصويت. وبحسب تقارير متطابقة، إتصلت إدارة جو بايدن بالمسؤولين في أبو ظبي للتأكد من أن الإماراتيين سيدعمون أوكرانيا في تصويت الجمعية العامة في بداية شهر آذار (مارس)، وهو ما فعلوه.

في الجمعية العامة، كانت للأعضاء الـ 52 الذين لم يؤيّدوا قرار 2 آذار (مارس) الذي يُدين روسيا مجموعة متنوّعة من الأسباب للامتناع عن التصويت. واصلت الصين تجنّب اتخاذ موقف مع موسكو أو ضدها، لتجنّب تنفير الولايات المتحدة أو روسيا. وامتنعت الدول الإفريقية ذات العلاقات الأمنية المتنامية مع روسيا، مثل مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، عن التصويت. إثيوبيا، التي حمتها روسيا من انتقادات خطيرة في مجلس الأمن بشأن الحرب في تيغراي طوال العام 2021، لم تصوّت. لقد بدا هذا الأمر وكأنه استعراضٌ ضمني لدعم موسكو، أو على الأقل رفضًا لاتباع خطوط السياسة الغربية بشكلٍ غير نقدي في ما يتعلق بأوكرانيا. لكن عددًا من دول أميركا اللاتينية التي غالبًا ما كانت مُتحالفة مع روسيا والتي أدانت تاريخيًا الاستعمار الجديد للولايات المتحدة والغرب في الأمم المتحدة – وبالتحديد بوليفيا وكوبا ونيكاراغوا – امتنعت أيضًا عن التصويت، مُلَمِّحةً إلى عدم ارتياحها للإجراءات الإمبريالية الروسية في أوكرانيا.

باختصار، كان بإمكان أعضاء الجمعية العامة استخدام الامتناع عن التصويت لإرسال رسائل مؤيدة ومعادية لروسيا من دون توضيح. كما قدم بعض الدول الامتناع عن التصويت بعباراتٍ أكثر مبدئية. أشار سفير أوغندا لدى الأمم المتحدة “أدونيا أيبار” (Adonia Ayebare) إلى أنه مُضطَرٌّ إلى الامتناع عن التصويت بسبب كونه الرئيس الجديد لحركة عدم الانحياز، وهي مجموعة تضم 120 دولة من جنوب الكرة الأرضية والتي تشكّلت خلال الحرب الباردة من أجل رسمِ مسارٍ بديلٍ مُستَقِلٍّ وسط المواجهة بين الكتلتين الغربية والسوفياتية.

في الأسابيع الأخيرة، ألمح مسؤولون ومُعلِّقون غير غربيين إلى إحياء عدم الانحياز كمبدإٍ إرشادي في الديبلوماسية إذا كانت هناك حربٌ باردة جديدة مع روسيا. بينما تمكّنت أوكرانيا وحلفاؤها من حشد دعمٍ كبير في الأمم المتحدة حتى الآن، فإن عددًا مُتزايدًا من أعضاء حركة عدم الانحياز سيختار في المستقبل الامتناع عن التصويت على الحرب إذا طالت واستمرّت. كما حذّرت مجموعة الأزمات الدولية: “من المرجح أن تفعل هذه الدول ذلك إذا لم تتعامل القوى الغربية مع الآثار العالمية للحرب، مثل الصدمات التي تعرّضت لها أسعار الغذاء والطاقة التي تضرب فعليًا جنوب الكرة الأرضية بشدّة.

لكن الامتناعَ عن التصويت ليس أداةً ستستخدمها حركة عدم الانحياز وحدها. لقد امتنعت روسيا بشكل ملحوظ عن التصويت في منتصف آذار (مارس)، عندما صوّت مجلس الأمن على تفويضٍ جديد لمسؤولي الأمم المتحدة في أفغانستان، الذين يعملون الآن كقناةٍ خلفية بين القوى الخارجية وطالبان. على الرغم من أن موسكو لم تضع في البداية أيّ روابط بين المحادثات الأفغانية والحرب الأوكرانية، إلّا أنها ألمحت في اللحظة الأخيرة إلى أنها قد تستخدم حق النقض ضد تمديد وجود الأمم المتحدة، ظاهريًا بسبب نقاطٍ لغوية ثانوية في التفويض. ولكن، بعد ضغطٍ من جانب الصين على ما يبدو، اختارت موسكو الامتناع عن التصويت. وبذلك، أرسل الروس تذكيرًا غير مُشَفَّرٍ إلى أعضاء مجلس الأمن الآخرين بأنهم يحتفظون بسلطة تعطيل ديبلوماسية الأمم المتحدة في مسائل أخرى غير أوكرانيا.

على العكس من ذلك، استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها في مجلس الأمن أيضًا الامتناع عن التصويت لإحباطِ مُناوَرةٍ روسية بشأن أوكرانيا في أواخر آذار (مارس). مع اشتداد السخونة الديبلوماسية في الأمم المتحدة بشأن الحرب في الشهر الفائت، قدّم الروس قرارًا مُسَكِّنًا في مجلس الأمن يدعو إلى تمكين الوكالات الإنسانية من العمل في منطقة الصراع. إلّا أن هذا القرار قد احتوى على بعضِ الفخاخ الخفية، حيث ألقى باللوم ضمنيًا على القوات الأوكرانية لتعريض المدنيين للخطر من خلال الدفاع عن مدنهم. إنقسم أعضاء المجلس الآخرون حول كيفية الردّ. أراد الأعضاء الغربيون رفض النص، لكن نظراءهم الأفارقة كانوا يكرهون التصويت ضد قرار إنساني. في النهاية، وجدوا الإجابة في الامتناع الجماعي عن التصويت. ما عدا روسيا والصين، امتنع كل عضو في المجلس عن التصويت على النص. وبما أن قرارات مجلس الأمن تحتاج إلى تسعة أصوات لتمريرها، فقد مات هذا القرار، وتجاوز أعضاء المجلس انقساماتهم.

لذلك، في حين أنه من الطبيعي النظر إلى عدد الأصوات في الأمم المتحدة لمعرفة مَن صوَّتَ لصالح أو ضد المواقف الأوكرانية والروسية، فإن كل هذه “الامتناعات” عن التصويت مهمة أيضًا، حيث تستخدمها الدول الكبيرة والصغيرة لإرسال إشارات لبعضها البعض حول الحرب، وكأدواتٍ لعرقلة المبادرات الديبلوماسية التي لا تحبّها. تنطوي ديبلوماسية الأمم المتحدة دائمًا على جرعةٍ كبيرة من الغموض، والامتناع بشكل هادف عن التصويت هو فنٌ يجب على المسؤولين في نيويورك وجنيف إتقانه للقيام بوظائفهم.

سواء كانت هذه “الإلتواءات” أو المناورات تعني أي شيء لشعب أوكرانيا، وما إذا كان مؤرخو الحرب سيرون كل هذه “الامتناعات” عن التصويت كديبلوماسيةٍ ذكية أو مُجرّد فشلٍ في مواجهة خطورة الحرب التي جعلت الأمم المتحدة تبدو ضعيفة وهامشية، فهي من المؤسف مسألة أخرى.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى