لماذا توقّفَت الديموقراطية في العالم العربي؟

يتوق العرب إلى الحرية والعدالة – ولكن إذا لم تُوفِّر الديموقراطية الكرامة الاقتصادية والخبز أيضًا، فسوف يدعم العرب الأنظمة السياسية التي تُوفّر لهم ذلك.

الرئيس قيس سعيّد: هل قضى على آخر أمل للديموقراطية في تونس؟

أماني جمال ومايكل روبنز*

في العام 2011، نزل المواطنون في معظم أنحاء العالم العربي إلى الشوارع للمُطالبة بحكوماتٍ أكثر تمثيلًا وعدالة اجتماعية وإصلاحاتٍ اقتصادية. في مصر وتونس، أطاحت الحركاتُ الاحتجاجية ديكتاتورَين حكما لعقود. أُصيبَت الأنظمة الاستبدادية في أماكن أخرى من المنطقة بالهلع كما لم يحدث من قبل. أسَرَ “الربيع العربي” الخيال في جميع أنحاء العالم وتحدّى الافتراضات الراسخة حول الثقافة السياسية في المنطقة.

ولكن في غضون بضع سنوات فقط، تلاشى الأمل وأفسح في الغالب المجال لليأس: فقد عاد النظام القديم يُزمجِرُ ويُرعِبُ من جديد – حتى أنه كان أكثر قمعًا من ذي قبل في بعض الأماكن. لكن هذه النتيجة لم تَحسِم المسألة الأساسية المُتعَلِّقة بمستقبل الديموقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فشلت حركات الاحتجاج والحكومات الديموقراطية الوليدة في نهاية المطاف في إنهاءِ حقبةٍ طويلةٍ من الحُكم الاستبدادي، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الرغبة في التغيير الديموقراطي قد تبدّدت. حتى عندما أعاد المُستَبِدّون تأكيد سيطرتهم في السنوات التي أعقبت “الربيع العربي” مُباشرةً، استمر العديد من المُحلّلين في الجزم بأن الثورات قد أطلقت العنان لتطلعاتٍ لترتيباتٍ اقتصادية وسياسية جديدة، مُشيرةً إلى فجر حقبةٍ أكثر شمولًا. ووفقًا لهذا الرأي، كان قوس التاريخ في الشرق الأوسط طويلًا بالفعل، لكنه مع ذلك كان يميل نحو الديموقراطية.

بعد ما يزيد قليلًا عن عقد من الزمان على الانتفاضات الأولى، هناك أسبابٌ أقل لمثل هذا التفاؤل. لم يقتصر الأمر على قيام السلطويين بتعزيز حكمهم فحسب، بل والأهم من ذلك، تغيّرت المواقف تجاه الديموقراطية والحقوق السياسية بشكلٍ كبير. في وقت الثورات، اعتقد معظم المواطنين في جميع أنحاء المنطقة أن الديموقراطية هي أفضل نظامٍ سياسي، وفقًا لشبكة أبحاث “البارومِتر العربي”، حيث نعمل كمُحَقِّقَين رئيسيين مُشارِكَين. في ثمانٍ من الدول العشر التي شملها استطلاع “البارومِتر العربي”  (Arab Barometer) في 2010-2011، أعرب أكثر من 70 في المئة من المُشاركين عن هذا الرأي. ولكن بحلول 2018-2019، انخفض الدعم: في سبعٍ فقط من الدول الـ12 التي شملها الاستطلاع، فضّل 70٪ على الأقل من المشاركين الديموقراطية على جميع الأنظمة الأخرى.

لفهم سبب تلاشي حماسة العالم العربي للديموقراطية، من الضروري أن نُدرِكَ أن معظم الناس الذين خرجوا إلى الشوارع في العام 2011 كانوا مدفوعين ليس فقط بالرغبة في الحرية ولكن أيضًا بسبب الإحباط الشديد من الظروف المادية والمعيشية لحياتهم. “الخبز والحرية والعدالة” كان شعار الاحتجاج الذي سُمِعَ كثيرًا في القاهرة خلال الانتفاضة المصرية – وهناك سببٌ وراء احتلال الخبز المرتبة الأولى على القائمة. رأى المصريون والتونسيون أن الاعتبارات الاقتصادية هي السبب الرئيس لثورات “الربيع العربي” في بلادهم، وفقًا لاستطلاعات البارومتر العربي التي أُجرِيَت في كلا البلدين في العام 2011. لقد سَئم المتظاهرون من القمع السياسي، لكنهم كانوا غاضبين للغاية من الفُرَص الضئيلة التي تُوفّرها الأنظمة الاستبدادية. فشل الازدهار القصير للمشاعر والحركات المؤيدة للديموقراطية في إنتاجِ حكوماتٍ ديموقراطية دائمة. ربما يكون الأهم من ذلك، أنه فشل أيضًا في إنتاجِ نوعِ التغيير الاقتصادي الذي يتوق إليه الناس في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشدّة.

اليوم، تُعاني المنطقة من القضايا عينها التي أعاقت تنميتها الاقتصادية لعقود من الزمن: إرتفاعُ مُعدّلات البطالة، وخصوصًا بين الشباب؛ إنخفاضُ مُعدّلات المشاركة في القوى العاملة، وخصوصًا بين النساء؛ نقصُ التعليم عالي الجودة؛ زيادةُ عدم المساواة وتفشّي الفساد. لقد زادت جائحة كوفيد-19 الأمور سوءًا، ليس فقط لأنها أدّت إلى المرض والوفاة، بل لأنها أدّت أيضًا إلى انهيار أسعار النفط، وانخفاضٍ كبيرٍ في السياحة، وتراجعٍ شاملٍ في النشاط الاقتصادي بجميع أنواعه. قدّرَ صندوق النقد الدولي أن معدل النمو السنوي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العام 2020 كان سلبيًّا بنسبة 4.7 في المئة، وقدر البنك الدولي أن الوباء ترك عشرات الملايين من المواطنين العرب في مستويات دخل تقع تحت خط الفقر في البلدان ذات الدخل المتوسط ​​الأعلى.

كل هذه الضغوط والمصاعب قد تدفع ببعض المراقبين إلى توقّعِ انفجارٍ آخرٍ للاحتجاجاتِ ودعواتٍ للتغيير. في العام 2019، قبل ظهور الوباء، أُطيحَ بالديكتاتورَين اللذين حكما طويلًا في الجزائر والسودان، وأجبرت الاحتجاجات على تغيير الحكومة في العراق ولبنان. ومع ذلك، كانت الحركات التي تقف وراء هذه التطورات، إلى حدٍّ كبير، تدعو إلى حُكمٍ وإدارة اقتصادية أفضل بدلًا من الديموقراطية في حدّ ذاتها. يبدو أن شعوبَ العالم العربي قد استوعَبت درسًا واحدًا قبل كل شيء من ثورات العقد الماضي: التغيير الديموقراطي لا ينتج بالضرورة تحسّنًا اقتصاديًا. في الواقع، اليوم، يميل الناس في البلدان الأكثر استبدادية في جميع أنحاء المنطقة إلى اعتبار أوضاعهم الاقتصادية أكثر ملاءمة وأفضل بشكلٍ ملحوظٍ من الناس في البلدان التي تميل أكثر نحو الديموقراطية.

في غضون ذلك، في العقد الذي انقضى منذ “الربيع العربي”، تراجع اهتمام الولايات المتحدة عن المنطقة بطرق أثارت الشكوك حول دعمها لأولئك الذين يعارضون الأنظمة القمعية. على الرغم من أن واشنطن رفضت في العام 2011 تقديم دعمٍ قوي لحليفها القديم الديكتاتور المصري حسني مبارك، إلّا أنها رفضت أيضًا مواجهة الانقلاب العسكري في العام 2013 الذي أطاح الحكومة المُنتَخَبة ديموقراطيًا والتي ظهرت في النهاية بعد سقوط مبارك. كما أن الولايات المتحدة لم تنفّذ مدحها الخطابي لمعارضة الرئيس السوري الأوتوقراطي بشار الأسد بدعمٍ حقيقي.

مع تضاؤل ​​نفوذ الولايات المتحدة وركود الاقتصادات الإقليمية، أصبح النموذج الاقتصادي والتنموي الصيني، وبدرجةٍ أقل، النموذج الروسي أكثر جاذبية للعديد من العرب، وذلك على النقيض من القيود المُتَصَوَّرة للنيوليبرالية الغربية. يبدو أن النظامَين الصيني والروسي، على الأقل كما يراه الكثيرون في الشرق الأوسط، يتجنّبان الاضطراب السياسي للديموقراطية ويُقدّمان وعودًا بالاستقرار والنمو الاقتصادي. قد يكون لهذا التحوّل في المفاهيم تداعيات مُعقَّدة وغير بديهية إلى حدٍّ ما على مستقبل التدخّل الأميركي في الشرق الأوسط. بشكلٍ مفاجئ، في البلدان التي تميل نحو الديموقراطية في السنوات الأخيرة، يميل الناس إلى رؤية الصين وروسيا كشريكين اقتصاديين أكثر فائدة من الولايات المتحدة – بينما في بعض دول الشرق الأوسط ذات الميول الاستبدادية، فإن فكرة تعزيز الروابط الاقتصادية مع الولايات المتحدة أفضل حالًا.

هل الديموقراطية مفيدة؟

للحصول على فكرة أكثر تفصيلًا عن هذه الاتجاهات في الشرق الأوسط، من المفيد النظر في مجموعتين من البلدان التي أجرى فيها البارومِتر العربي مسوحات واستطلاعات مُنتَظِمة خلال العقد الماضي. في المجموعة الأولى ثلاث دول ذات ميول استبدادية: مصر والمغرب والأردن. اتّبعت هذه البلدان الثلاثة مسارًا مُشابهًا منذ “الربيع العربي”. في كل واحدة منها، لم تتحقّق التغييرات الرئيسة التي سعى إليها المتظاهرون في العام 2011 بالكامل، والأنظمة التي حكمت قبل الثورات لا تزال قائمة إلى حدٍّ ما اليوم، وظلّ النمو الاقتصادي ضعيفًا نسبيًا، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى الافتقار إلى إصلاحاتٍ كبيرة مهمة.

في مصر، أدّت الاحتجاجات الحاشدة في أوائل العام 2011 إلى سقوط مبارك، تلته انتخاباتٌ انتصر فيها محمد مرسي المرشح الموالي لجماعة “الإخوان المسلمين”. غير أن الانقلاب العسكري في 2013 أوقف التجربة الديموقراطية، وأعاد النظام القديم تأكيد نفسه في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي. قلص السيسي الحقوق السياسية، لكن النمو الاقتصادي زاد وتحسّن بعد أن ظل ثابتًا في الغالب خلال المرحلة الديموقراطية القصيرة في مصر.

في المغرب، أدّت الاحتجاجات الصغيرة في العام 2011 -وعين النظام حذرة من الأحداث في أماكن أخرى- إلى إصلاحاتٍ دستورية. لكن التغييرات لم تُغيِّر النظام الملكي بشكلٍ كبير، وحافظ الملك محمد السادس على الغالبية العظمى من السلطة. وقد انخفض متوسط ​​معدلات النمو الاقتصادي تدريجًا خلال العقد الماضي، لكنه انخفض بشكل حاد منذ ظهور الوباء.

شهد الأردن بدوره احتجاجات متواضعة في العام 2011، وهناك أيضًا، دعم النظام الملكي إصلاحًا دستوريًا محدودًا. في السنوات التي تلت ذلك، أجرى الملك عبد الله الثاني مزيدًا من الإصلاحات الدستورية، أولاً في العام 2016 ومرة ​​أخرى في العام 2022، في جُزءٍ كبير منه استجابة للإحباط المتزايد من الركود الاقتصادي والأضرار التي سبّبها فيروس كورونا. لكن النظام الملكي لا يزال مُسَيطرًا بقوة.

في المجموعة الثانية ثلاثُ دول ذات ميولٍ ديموقراطية: العراق ولبنان وتونس. هذه هي البلدان الثلاثة التي شملها استطلاع البارومِتر العربي والتي كانت الانتخابات فيها ذات مغزى أكبر، لكن حكوماتها المُنتَخَبة فشلت في معالجة المشاكل الاقتصادية الكبرى. في أعقاب الغزو والاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة في العام 2003، طوّر العراق نظامًا سياسيًا ليس ديموقراطيًا بالكامل ولكن السلطة فيه تتغيّر بانتظام من خلال الانتخابات. كان النمو الاقتصادي غير مُنتَظِم، ويرجع ذلك في الغالب إلى تقلّبِ أسعار النفط، الذي يُشكّل الصادرات الرئيسة للعراق. وحتى عندما تكون أسعار النفط مرتفعة، فإن الفساد المستشري يَضمنُ تدفّقَ ثروة قليلة نسبيًا إلى العراقيين العاديين.

لبنان هو الآخر بَعيدٌ من الديموقراطية الكاملة، لكن نظام الحكم فيه الذي انبثق عن اتفاق الطائف في العام 1989 أدّى إلى انتخابات مُنتَظِمة نسبيًا تتنافس فيها أحزابٌ مُتعَدِّدة. على الرغم من النظام المُعقَّد لتقاسُم المناصب الحكومية العليا بين الطوائف الرئيسة في البلاد، فقد تمكّنت الانتخابات في العقود الأخيرة من تغيير ميزان القوى السياسية. لكن الفساد المُستَشري وفشل النخبة السياسية في معالجة التحدّيات الاقتصادية الطويلة الأمد أدّى إلى أزمة شاملة في أواخر العام 2019، بلغت ذروتها في تخلّفِ البلاد عن سداد ديونها في العام 2020. ومنذ بدء الأزمة، خسرت الليرة اللبنانية 90 في المئة من قيمتها. وقد خلص البنك الدولي إلى أن لبنان قد يكون يُعاني من أسوَإِ ثلاثة انهيارات اقتصادية دولية منذ منتصف القرن التاسع عشر.

من بين جميع البلدان التي شملها استطلاع البارومِتر العربي، فإن تونس –على الرغم من التحوّل الاستبدادي الأخير– هي الأقرب إلى الظهور من “الربيع العربي” كديموقراطية كاملة، مع انتخاباتٍ مُنتَظِمة تتنافس فيها الأحزاب بحرِّية على السلطة الفعلية. ومع ذلك، فقد انخفض دخل الفرد هناك في العقد الماضي، ويرجع ذلك في جُزءٍ كبيرٍ منه إلى فشل الحكومات المُتعاقِبة في مُعالجة تركة المشاكل الاقتصادية الموروثة من النظام السابق بشكلٍ هادف.

عند مقارنة هاتين المجموعتين من البلدان، يظهر تناقضٌ صارخٌ في آراء المواطنين بشأن اقتصاد دولتهم: تميل تلك الموجودة في الدول الثلاث ذات الميول الاستبدادية إلى امتلاك نظرة اقتصادية أكثر إيجابية بكثير من تلك الموجودة في الدول الثلاث ذات الميول الديموقراطية. في مصر، صنّف 41٪ من المواطنين الذين شملهم الاستطلاع اقتصادهم بأنه جيّدٌ أو جيِّدٌ جدًا في 2018-2019؛ في المغرب، كان 36 في المئة من المُستَطلَعين مع هذا التقييم. وفي الأردن، كانت النسبة 23٪. وبالمقارنة مع الدول الغنية والمُتقَدِّمة، وحتى تلك الموجودة في أماكن أخرى في الشرق الأوسط، فإن هذه الأرقام مُنخَفضة جدًا؛ على سبيل المثال، في الكويت، رأى 77 في المئة من المواطنين الذين شملهم الاستطلاع أن اقتصادهم جيّدٌ أو جيِّدٌ جدًا في العام 2019. لكن مستويات الرضا العام عن الظروف الاقتصادية في مصر والمغرب والأردن كانت أعلى بشكلٍ عام مما كانت عليه في العراق (21 في المئة) ولبنان (14 في المئة) وتونس (7 في المئة).

تَكَرَّرَ هذا النمط عندما طُلِبَ من المُستجيبين تقييم أداء حكومتهم في خلق الوظائف. اتّفَقَ 22 في المئة من المُستَطلَعين في مصر، و20 في المئة في المغرب، و14 في المئة في الأردن على أن حكومتهم تقوم بعمل جيّد في ما يتعلق بالتوظيف. مرة أخرى، بالمقارنة مع البلدان الأكثر ثراءً، هذه الأرقام مُنخَفِضة للغاية؛ في الكويت، أيّدَ أكثر من نصف المُستَجيبين هذا الرأي. ومع ذلك، فإنهم يتألّقّون مُقارنةً بتقييمات خلق الوظائف في البلدان الثلاثة ذات الميول الديموقراطية: 17٪ فقط من التونسيين، و6٪ من العراقيين، و4٪ من اللبنانيين أعطوا حكومتهم تقييمًا إيجابيًا بشأن خلق الوظائف.

المواطنون في البلدان ذات الميول الديموقراطية ليسوا راضين على أداء قادتهم في القضايا الاقتصادية فحسب، بل أصبح الكثيرون يعتقدون أن النظام الديموقراطي نفسه، على الأقل كما يعمل في بلدهم، هو المشكلة. في لبنان، وفقًا لمسح أجرته مؤسسة كونراد أديناور الألمانية في العام 2020، أيّدَ 55 في المئة من المُستَجيبين على البيان التالي: “يجب على بلدنا إلغاء الانتخابات وأن يكون لدينا خبراءٌ يحكمون”. في تونس، وافق 45 في المئة. (لم يشمل المسح العراق). في البلدان الثلاثة، ترسّخَ الشعور باليأس من المستقبل، خصوصًا بين الشباب. في استطلاع المؤسسة الألمانية، قال 53٪ من اللبنانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا أنهم فكّروا أو يفكّرون في مغادرة بلدهم، وكذلك فعل 47٪ من التونسيين المشاركين في تلك المجموعة. وبالمقارنة  فإن نِسَبًا مئوية أقل من المواطنين في هذه المجموعة في الأردن (36 في المئة) والمغرب (31 في المئة) قد فكروا في مغادرة وطنهم.

تجربة تونس

من بين البلدان الثلاثة ذات الميول الديموقراطية، ربما تُقدِّمُ تونس المثال الأكثر وضوحًا على كيف أدت الصعوبات الاقتصادية المُستَمرّة إلى نفور الناس من الديموقراطية. خلال العقد الفائت، كان يتم اعتبار البلاد في كثيرٍ من الأحيان على أنها أكبر أمل للديموقراطية في الشرق الأوسط. جادل المُحلّلون أنه من بين جميع البلدان في المنطقة، كان لدى تونس أفضل أساس للنجاح: شعبٌ مُتجانِسٌ عِرقيّاً ومُتَعلِّمٌ جيّدًا نسبيًا؛ طبقةٌ وُسطى كبيرة نسبيًّا؛ وجيشٌ كان غير سياسي بشكلٍ عام. في انتخابات الجمعية التأسيسية التي أعقبت الثورة، فاز حزب “النهضة”، وهو حزبٌ إسلامي مُعتدل، بغالبية المقاعد وحَكَمَ في ائتلافٍ مع حزبين آخرين. بعد الاغتيالات السياسية البارزة في العام 2013 التي أدّت إلى أزمة، تم تشكيل حكومة جديدة برئاسة تكنوقراطي في أوائل العام 2014. وفاز بالانتخابات في وقتٍ لاحق من ذلك العام حزب “نداء تونس”، وهو حزبٌ علماني تأسّس إلى حدٍّ كبير لمُعارضة “النهضة”.

لكن الاقتتال الداخلي المُستَمِرّ داخل “نداء تونس” وتنافسه مع “النهضة” أدّيا إلى حكوماتٍ ضعيفة. في الانتخابات الرئاسية لعام 2019، هزم قيس سعيِّد، أستاذ القانون الدستوري الذي كان مغمورًا في السابق، نبيل القروي، رائد أعمال شعبوي. كان كلا المُرَشَّحين من خارج الدائرة السياسية تمامًا، ما يُشير إلى رفضٍ واسعٍ للنُخبةِ السياسية من قبل المواطنين العاديين. بعد ذلك، في العام الفائت، حلّ الرئيس سعيِّد البرلمان، مُدَّعيًا أن الأزمة الاقتصادية جعلت مثل هذه الخطوة ضرورية ومُنهيًا فعليًّا التجربة الديموقراطية في تونس – مع قدرٍ كبير من الدعم الشعبي. كما هو الحال في مصر في العام 2013، فَقَدَت غالبية المواطنين في تونس الثقة في عملية التغيير التي أتى بها “الربيع العربي”.

واجَهَ سعيِّد مُعارضة قليلة نسبيًا لأن التحوّلَ الديموقراطي في تونس فشل في تحقيق فوائد اقتصادية ملموسة وحلولٍ لشعبها. اليوم، اقتصاد البلاد في حالةٍ أسوَأ مما كان عليه قبل “الربيع العربي”: في العام 2011، بلغ دخل الفرد في تونس 4,265 دولارًا؛ بحلول العام 2020، انخفض إلى 3,320 دولارًا. الأمر الذي لا يثير الدهشة هو أن الإحباطات الاقتصادية لدى الناس قد ازدادت. في العام 2011، بعد بضعة أشهر فقط من سقوط الديكتاتور زين العابدين بن علي، قال 27 في المئة من التونسيين الذين شملهم استطلاع البارومِتر العربي أنهم يعتقدون أن اقتصادهم في حالة جيّدة أو جيّدة جدًا. في العام 2018، انخفض هذا الرقم إلى سبعة في المئة فقط.

خلص العديد من التونسيين إلى أن جذور المشكلة تكمن في النظام ذاته الذي حاربوا من أجله بعد الإطاحة ببن علي. في العام 2011، عندما سُئلوا عما إذا كانت الأنظمة الديموقراطية غير حاسمة ومليئة بالمشاكل، وافق 19 في المئة فقط من التونسيين على ذلك. بحلول العام 2018، كان هذا الرقم 51 في المئة. في العام 2011، وافق 17 في المئة من المُستجيبين التونسيين على عبارة “الأداء الاقتصادي ضعيف في الأنظمة الديموقراطية”. بحلول العام 2018، زادت هذه النسبة بأكثر من الضعف، لتصل إلى 39٪. كان هذا الاتجاه واضحًا بشكل خاص بين الشباب التونسيين، الذين بلغوا سن الرشد أثناء التحوّل الديموقراطي. في العام 2011، ربط 21٪ فقط من التونسيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا الديموقراطية بالأداء الاقتصادي الضعيف. بحلول العام 2018، قفز هذا الرقم إلى 43 في المئة. وليس من الصعب معرفة السبب. وبحسب الخبير الاقتصادي التونسي مُنجي بوغزالا، “تبلغ نسبة العاطلين من العمل [في تونس] الذين تقل أعمارهم عن 35 سنة 85 في المئة. وكلما ارتفع مستوى التحصيل العلمي، ارتفع معدل البطالة: 40 في المئة من العاطلين من العمل يحملون شهادات جامعية”.

إجاباتٌ استبدادية

ما يظهر بوضوح من نتائج البارومِتر العربي هو رسالة صارخة: العرب العاديون يريدون الكرامة الاقتصادية ويبحثون بشدة عن نظامِ حُكمٍ يُمكِنُ أن يُقدّمها. ولأن الديموقراطية فشلت في تحقيق النتائج الاقتصادية عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن العديد من العرب العاديين – بمن فيهم بعض الذين كانوا يأملون في الديموقراطية قبل عقد من الزمن – يبدون الآن أكثر انفتاحًا على النماذج الاستبدادية التي قدّمتها الصين وروسيا. منذ أواخر سبعينات القرن الفائت، انتشل النظام الصيني أكثر من 800 مليون شخص من براثن الفقر المُدقِع، وفقًا للبنك الدولي – وهو مجرد نوعٍ من التحوّلِ الاقتصادي الذي يسعى الكثيرون في جميع أنحاء الشرق الأوسط بشدة إلى تحقيقه. في الصين، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 2194 دولارًا في العام 2000 ووصل إلى 10,431 دولارًا في العام 2020. وتضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا أربع مرات تقريبًا خلال تلك السنوات العشرين، من حوالي 7,000 دولار إلى حوالي 28,000 دولار. وفي الوقت نفسه، بالكاد تضاعف متوسط ​​نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البلدان الغنية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث ارتفع من حوالي 25,000 دولار إلى حوالي 45,000 دولار.

مع تركيز الولايات المتحدة بشكلٍ أقل على الشرق الأوسط، دخلت الصين وروسيا لملء الفراغ. من خلال مبادرة الحزام والطريق، وقّعت بكين اتفاقات تعاون اقتصادي مع العديد من الحكومات العربية. وكما أشار الباحث تشارلز دن: “أصبحت الصين أكبر مستثمر أجنبي في المنطقة في العام 2016، ومنذ إطلاق مبادرة الحزام والطريق، ضخت بكين ما لا يقل عن 123 مليار دولار في الشرق الأوسط في تمويل المشاريع المرتبطة بالمبادرة”. لم تُقدّم روسيا النوع نفسه من المساعدات الاقتصادية لكنها لعبت دورًا عسكريًا نشطًا. من خلال التدخّل لدعم حلفائها في ليبيا وسوريا، أشارت موسكو إلى إعادة مشاركتها مع المنطقة بعد عقود من الانكماش في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي.

ليس من المفاجئ إذًا أن يَميلَ العديد من العرب إلى الرغبة في أن تُقيمَ حكوماتهم علاقات اقتصادية أقوى مع بكين وموسكو، حتى لو كان ذلك يعني تقليص الروابط الاقتصادية لبلادهم مع الولايات المتحدة. هنا، مع ذلك، يظهر نمطٌ كاشِفٌ من استطلاعات البارومِتر العربي: في البلدان ذات الميول الديموقراطية، يُفضّل الناس بوضوح تحسين العلاقات الاقتصادية مع الصين وروسيا على الروابط الاقتصادية الأقوى مع الولايات المتحدة، بينما في البلدان ذات الميول الاستبدادية، يُفضّلُ الناس العلاقات الاقتصادية الأقوى مع الولايات المتحدة. العلاقات مع أميركا تحتفظ بقدرٍ كبير من الجاذبية. في لبنان في العام 2018، أراد 42٪ من المشاركين علاقات اقتصادية أقوى مع الصين، وأراد 43٪ منهم علاقات اقتصادية مع روسيا، بينما أراد 36٪ فقط علاقات أقوى مع الولايات المتحدة. ومن بين العراقيين، فضّل 51 في المئة تقوية العلاقات مع الصين، و 43 في المئة مع روسيا، و 35 في المئة فقط مع الولايات المتحدة. في تونس، وافق 63 في المئة على أنهم يرغبون في رؤية علاقات أقوى مع الصين، و50 في المئة مع روسيا، و45 في المئة فقط مع الولايات المتحدة. لا يبدو أن المواطنين في هذه البلدان يأخذون في الحسبان النظام الديموقراطي للولايات المتحدة عند تكوين آراء حول العلاقات الاقتصادية مع واشنطن.

الصورة أكثر تعقيدًا في البلدان ذات الميول الاستبدادية، حيث كانت احتمالات العلاقات الاقتصادية القوية مع الولايات المتحدة أفضل حالًا. في الأردن، وافق 70 في المئة من المُستَطلَعين على أنهم يريدون علاقات اقتصادية أقوى مع الصين، أعلى من 57 في المئة الذين ردوا بالطريقة عينها في ما يتعلق بالولايات المتحدة. لكن 43 في المئة فقط كانوا يُفضّلون إقامة علاقات أقوى مع روسيا. في مصر، حصلت روسيا على أعلى تقييم: 38 في المئة من المستجيبين أعربوا عن رغبتهم في علاقات اقتصادية أقوى مع روسيا، و36 في المئة أرادوها مع الولايات المتحدة، و 30 في المئة مع الصين. في المغرب، أراد 49 في المئة من المشاركين روابط اقتصادية أكبر مع الصين، و43 في المئة مع الولايات المتحدة، و 40 في المئة مع روسيا.

من بين القوى العالمية، كانت الصين الشريك الاقتصادي المُحتَمَل الأكثر شعبية في 12 دولة شملها المسح للبارومِتر العربي في 2018-2019. ومع ذلك، ليس من الواضح إلى أي مدى قد تُفيد هذه العلاقات الوثيقة بكين، على الأقل من حيث كسب قلوب وعقول العرب العاديين، لا سيما في أعقاب جائحة كوفيد-19. على الرغم من جهود الصين الحثيثة في “ديبلوماسية اللقاح”، على سبيل المثال، فقد تغيّرت وجهات النظر حول الصين في المنطقة قليلاً نسبيًا بين صيف 2020 وربيع 2021، وفقًا لاستطلاعات البارومِتر العربي التي أجريت في سبع دول هناك.

أيّ شيء يعمل

مع استمرار تلاشي الديموقراطية والتنمية الاقتصادية في العالم العربي، يُلقي العديد من المُحلّلين والمُعلّقين باللوم على ما يرون أنه عيوبٌ في الثقافة السياسية العربية، والتي يعتبرها البعض غير مُلائمة بشكلٍ فريد للديموقراطية. هذا الرأي خاطئ ليس فقط لأنه يُبرِّئ الجهات الخارجية التي تدعم الحكام الاستبداديين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتعزيز مصالحها الخاصة، ولكن أيضًا لأنه يتجاهل دور الركود الاقتصادي في قلب وعكس آراء الكثيرين من العرب العاديين ضد فكرة التغيير الديموقراطي. لا يعكس التراجع الحاد في الاهتمام والإيمان بالديموقراطية في السنوات الأخيرة فشل الأنظمة السياسية العربية في إدراك قيمة الحرية، إنه يعكس، بالأحرى، فشل الجهات الدولية والإقليمية والمحلية في حلّ المشاكل الاقتصادية العميقة الجذور في المنطقة.

لإبطاء تقدّم الاستبداد وإعطاء المُثُل الديموقراطية والليبرالية فرصة أخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يحتاج الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، والجهات الفاعلة الدولية إلى العودة إلى الأساسيات. يجب أن يأخذ أيُّ جُهدٍ لتعزيز الديموقراطية في الاعتبار تطلّعات المواطنين إلى الكرامة الاقتصادية. إن مُناشدة المفاهيم المُجرَّدة وحدها لن تكون مُقنعة. يتوق العرب إلى الحرية والعدالة – ولكن إذا لم تُوفِّر الديموقراطية الخبز أيضًا، فسوف يدعم العرب الأنظمة السياسية التي تُوَفِّر لهم ذلك.

  • أماني جمال هي المؤسس المشارك والباحث الرئيس في “البارومِتر العربي” (Arab Barometer)، وعميدة كلية الشؤون العامة والدولية في جامعة برينستون، وأستاذة إدواردز سانفورد للسياسة والشؤون الدولية في الجامعة نفسها. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @AmaneyJamal. ومايكل روبينز هو مدير ومحقق رئيس مشارك في البارومِتر العربي. يمكن متابعته عبر تويتر على: @mdhrobbins.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالانكليزية في مجلة “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى