تُركيا بين أوكرانيا وروسيا

تستضيف اليوم تركيا المفاوضات المباشرة بين روسيا وأوكرانيا للمرة الثانية، والتي يأمل كثيرون أن تخرج بأسسٍ لاتفاق على حلّ الأزمة.

المفاوضات الروسية-الأوكرانية في تركيا: إذا نجحت فستفتح الباب إلى لقاء بين بوتين وزيلينسكي.

و. روبرت بيرسون*

هَدَفُ تركيا أوَّلًا وقبل كل شيء في الحرب الروسية-الأوكرانية هو درءُ ومنعُ صِراعٍ أوسع. سيكون اختيارها، بالطبع، هو الحفاظ على علاقاتٍ مُستقرّة ومُزدهرة مع كلٍّ من البلدين. عند النظر في دور تركيا، يجب أوّلًا أن نُدرِكَ المخاطر التي تواجه أنقرة – بأن نتيجة هذه الحرب الكبرى ستؤثر في كل سمة من سمات الحياة الوطنية للبلاد ومستقبلها.

مخاوف تركيا ومصالحها

بالنسبة إلى تركيا، روسيا هي صدبقة وعدوّة في آن واحد. تحتاج أنقرة إلى علاقاتٍ جيدة مع موسكو على الرغم من الخلافات والتنافس العميق. تعتمد تركيا على روسيا في حوالي 50٪ من احتياجاتها من الغاز. ومع ذلك، فإن تركيا هي أيضًا ممرُّ طاقةٍ استراتيجي في حدّ ذاتها. إنها قريبة من أكثر من 70٪ من احتياطات الغاز والنفط في العالم، وبالتالي فهي جسرُ طاقةٍ بين المُنتِجين والمُستَهلكين العالميين. تضرّرت السياحة الآتية من روسيا، وهي عنصرٌ حاسم في صناعة السياحة المحلية، من الحرب. أغلقت تركيا مضيق الدردنيل والبوسفور في 28 شباط (فبراير)، وهي خطوة أيّدتها روسيا عقب طلب أوكراني لإغلاق المضيق في اليوم الذي بدأت فيه الحرب. لكن تركيا رفضت إغلاق مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية الروسية. استقبلت تركيا آلاف اللاجئين الأوكرانيين والروس أيضًا، كما صوتت في الأمم المتحدة لإدانة الغزو لكنها لم توافق على الانضمام إلى عقوبات الناتو والاتحاد الأوروبي ضد روسيا.

غالبًا ما فصلت تركيا خلافاتها السياسية عن خلافاتها الاقتصادية – مع إيران ومصر ودول الخليج وكذلك مع روسيا. يستمرّ موقف تركيا مع روسيا بعد اندلاع الحرب على النمط عينه. من الناحية السياسية، أعلنت أنقرة أن الغزو الروسي لأوكرانيا أمرٌ مرفوض وغير مقبول. ولم تعترف أبدًا بالاستيلاء الروسي على شبه جزيرة القرم ودونباس في العام 2014. تعيش مجموعة التتار التركية في شبه جزيرة القرم، وقد شجبت تركيا انتهاكات حقوق الإنسان ضدهم هناك.

في ما يتعلق بأوكرانيا، سعت تركيا إلى شراكة واضحة. وقّع البلدان اتفاقية تعاون عسكري واتفاقات أخرى في العام 2020. كما وقعت أنقرة وكييف اتفاقية تجارة حرة وأخرى لإنتاجٍ مُشتَرك لتصنيع طائرات تركية مُسيّرة في 3 شباط (فبراير). وصادقت تركيا أيضًا على اتفاقات مينسك 2014 لتسوية الخلافات الروسية-الأوكرانية. وقد عرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كييف في 3 شباط (فبراير) التوسّط بين البلدين، ورحّب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بعرضه.

يريد الرئيس أردوغان، بصفته زعيمًا لقوّة متوسطة الحجم تُعَزِّزُ دورها المستقل، تعزيز سمعة تركيا وتوسيع هذا الدور إقليميًا وعالميًا من خلال تحقيق توازن بين النفوذ الأوكراني والروسي في المنطقة. يتطلب الثقل الأكبر للأمن والطاقة والمخاوف الاقتصادية والروابط أن يميلَ نحو روسيا، مع الحفاظ على أوكرانيا المُستقلة كثقلٍ مُوازن لها. كانت هذه مصالح تركيا قبل الحرب أيضًا.

هل هناك تضارب بين مصالح تركيا والتزاماتها تجاه الناتو؟

مع هذا الميل نحو موسكو، تخلق أنقرة تضاربًا في المصالح مع دورها كوسيط وكعضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو). تُفسّرُ تركيا الصراع بالقول إنها ستفي بالتزاماتها تجاه “الناتو” لكنها لا تستطيع تجاهل مصالحها الوطنية في المنطقة. تقتربُ تركيا من المعضلة عينها التي تواجهها إسرائيل، كما ورد في مقالٍ نشرته مجلة “نيويوركر” (New Yorker) في 28 شباط (فبراير). أين تحمي أنقرة مصالح الحلف والتضامن الديموقراطي، وأين ترغب في إضعاف مصالح الحلف لتحقيق أهدافها؟

في 17 آذار (مارس)، تحدّث أردوغان بشكل منفصل مع الرئيسين الروسي بوتين والأوكراني زيلينسكي. كشفت قراءة المتحدث باسم أردوغان، إبراهيم كالين، عن المكالمات الهاتفية، عن نقاطٍ رئيسة حول دور تركيا ووجهات نظرها. كان الأهم بيانًا مفاده أنه يجب على الناتو أن يبدأ التفكير في العلاقات بعد انتهاء الحرب، عندما “يجب أن يكون هناك هيكلٌ أمني جديد قائمٌ بين روسيا والكتلة الغربية”. وأضاف كالين: “كل قرار نتخذه الآن في ما يتعلق بروسيا عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وغير ذلك سيكون له تأثيرٌ في الهيكل الأمني ​​الجديد”. واختتم كالين حديثه بالقول إن “الرئيس بوتين هو الذي سيُنهي ويوقف هذه الحرب، عندما يشعر برغبة في القيام بذلك، عندما يعتقد أنه حصل على ما يريده من هذه الحرب –التسوية والتنازل والصفقة– لا أعرف. لكنني أعتقدُ أننا نتحرّك في هذا الاتجاه”. يحمل هذا رائحة التوافق مع المطالب الروسية من أجل إنهاء الحرب وهو نوع العرض الذي يُقدّمه المفاوضون عادة الذين يحاولون الوصول إلى صفقة.

ما الذي يُعتبَرُ “انتصارٌ” للناتو والولايات المتحدة في الحرب؟

تُسلّطُ هذه التصريحاتُ الضوءَ أيضًا على معضلة مُتنامية داخل حلف الناتو. مع الإجراءات الجديدة وعمليات نشر القوات الجديدة التي تمّ الإعلانُ عنها في قمة الناتو في 24 آذار (مارس)، هل يُغيّرُ الحلف نهجه الآن لكسب الحرب في أوكرانيا؟ ماذا لو أضاف بوتين مطالب التسوية السلمية إلى الناتو نفسه؟ هل يمكن لهذه الإجراءات الأمنية لتقليص القواعد والقوات واعتماد إجراءات خفض التصعيد الأخرى التي عرضتها الولايات المتحدة قبل أسابيع لتجنّب الحرب أن يُعيدَها بوتين نفسه إلى الطاولة الآن كشرط للتوصّل إلى تسوية؟

يبدو أن الأتراك يُلَمّحون إلى ضرورة استيعاب الوجود العسكري الروسي القوي في أوروبا الشرقية. إذا لم تكن لدى الناتو طريقة لعدم قبول مثل هذه النتيجة، فكيف سيُقنِع الحلف مواطنيه والعالم بأن الغرب قد “انتصر”؟ هل الغرب مُستَعِدٌّ لمواجهة صراعٍ طويل وحشي ودمار لأوكرانيا بينما تقف قوات الناتو جانبًا؟ من المُحتمل أن يؤدي الجمود إلى حربٍ باردة عميقة ويخلق حالة من عدم اليقين على طول الحدود الشرقية للناتو.

علاوة على ذلك، كما تمّ التلميح، ربما يفكر زيلينسكي في صفقته الخاصة، والتي قد تكون رسالتها الأساسية أن أوكرانيا لن تُضحّي بنفسها من أجل الناتو لأن الناتو ليس على استعداد للتضحية بنفسه من أجل أوكرانيا.

لدى كلّ من الناتو وتركيا قرارات أساسية يتعيّن اتخاذها لتحقيق نتيجة إيجابية

يجب أن يُظهِرَ أيُّ اتفاق أن الجهودَ الغربية تُبرِّرُ النتيجة. كيف سيُعبّر الناتو عن متطلباته الأمنية للمساحة الواقعة خارج حدود دول خط المواجهة في الناتو؟ هل سيكون موقف الناتو أنه يجب أن يقف مكتوف الأيدي حتى تعبر القوات الروسية حدوده؟ كيف يُفسّر الناتو مخاوفه الأمنية في ما يتعلق بمستقبل أوكرانيا ووجود القوات الروسية على بُعدِ مئات الأميال غربًا في نهاية الحرب؟

دور تركيا الآن كعضو في الناتو ينتقل إلى مركز الصدارة. إذا أخبرت أنقرة الحلف أن التنازلات هي من أجل قبول موسكو بالصفقة، فكيف سيكون ردّ فعل الحلف؟ هل تأمل روسيا أنه بقبولها لوساطة تركيا، يمكن لموسكو أن تُقسّم الحلف من الداخل؟ إذا لم تَظهَر ديموقراطيات الغرب وحلف الناتو بمكاسب واضحة ودائمة، فهل سيدفع ذلك إلى أن تُسرّع كلٌّ من روسيا والصين وتيرة طموحاتهما لإجبار الديموقراطيات على التراجع وإنشاء نظامٍ عالمي جديد مُناهض للديموقراطية؟ بينما تستضيف تركيا الجولة التالية من محادثات وقف إطلاق النار وجهًا لوجه بين المفاوضين الأوكرانيين والروس، فإن ما تفعله أنقرة وتقوله في الأيام والأسابيع المقبلة سوف يخضع لمزيد من التدقيق.

  • السفير (المتقاعد) و. روبرت بيرسون هو باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط في واشنطن وسفير سابق للولايات المتحدة في تركيا. الآراء الواردة في هذا المقال هي آراؤه الخاصة.
  • كُتِبَ هذا المقال بالانكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى